الرئيسية / الرئيسية / تراجيديا النزوح

تراجيديا النزوح

تراجيديا النزوح

مرارة الفقد والحسرة
بعشر أمثالها

 

 

 

 

 

 

 

أعداد قسم الاستطلاعات

 

الفرار من أخطار تهدد حياة الناس غريزة بقاء، وردة فعل طبيعية تجاه أي إنذار بوقوع مكروه محتمل، خاصة في زمن الحروب والصراعات المسلحة التي تجبر الناس على الهروب الاضطراري من بيوتهم، مستكفيين،

أحيانا، بأوراقهم الثبوتية. وماحدث في طرابلس قبل أكثر من عام وأجبر سكان جنوب العاصمة، حيث اندلعت
شرارة الصراع المسلح بين الفرقاء الليبيين، هو إحد ىالمشاهد التي تجسد سيناريوهات
النزوح الجماعي التي شهدتها المنطقة، وماجرته من فقد ، وطول بحث وعناء، ذاقت مرارته الأسر النازحة، من أجل الحصول على مستقر بديل يكفل لهم مواصلة الحياة بسلام في بيئة آمنة، رغم كل تلك الشروخ النفسية
والاجتماعية التي خلفها تركهم لبيوتهم وذكرياتهم. هكذا.. وعلى حين غرة، وبلاسابق إنذار
بالإخاء، فرت عشرات العائات تباعا، تبتغي أرض الله الواسعة، فتوزعوا عبر مسارب شتى، منهم من لجأ إلى بيت العائلة الكبير، ومنهم من لاحق المجهول، فتقطعت بهم السبل، بين لاجئ في مدرسة اتخذوا أحد فصولها سكنا،
وميسور آثر استئجار بيت ، وثالث لم يجد مفرا من الافتراق عن زوجته وأطفاله بعد تركهم في بيت أهلها أوقريبة لها.
في رصدنا التالي لواقع الأسر الليبية التي أجبرتها الحرب، جنوب طرابلس، على ترك بيوتها ، ومواطن سكنها، نستقرئ مفهوم النزوح وأثره عبر شهادات حية، نقارب من خلالها البعدين النفسي والاجتماعي لهذه
المعاناة، وانعكاسها على واقع الأسرة، ومايترتب عليها، من أنماط عيش وسلوك
طارئين .

    هدى جمعة .. موظفة                                                                                                                        
حن زحفت آلة الحرب نحو مدينتنا الهادئة، لم تأت على المباني والمساكن وسيارات المواطنين وممتلكاتهم وحدها، بل تسللت إلى ما هو أعز وأشد حساسية وأهمية في حياتنا، كمواطنن اعتدنا العيش وسط مجتمعنا، وفق نمط بدا لنا لسنوات أنه ترابطي، تلاحمي، تجمعنا علاقات أسرية عميقة، ومتأصلة، بدءاً من العائلة «النواة »، وتمتد إلى أفرادها الممتدين إلى مالا نهاية. كانت الحرب تفجعنا كل يوم بنتائجها الدامية، وتجبرنا مرغمين على تغير مسار حياتنا، بدأت بتهجيرنا من بيوتنا، والبحث عن مأمن يستوعب مقدار نكبتنا بعد مشاهدتنا لمنازلنا وهي تتهاوى
لتدفن تحت ركامها كل ما حوت من
تفاصيل حياتنا الهانئة التي ضمتنا وعائلتنا في «قبر الدنيا » الباذخ. مضيفة: ولعل أكتر ما أفجعنا بعد خسارة كل تلك السنين التي مضت، هو التحول الصادم الذي قابلنا به أهلنا، ممن توسمنا فيهم الخير، وترقبنا نجدتهم حيت هرعنا
إليهم فارين من ويلات الحرب، ظناً منا أنهم سيستقبلون قدومنا، لعلمهم بأن هذه الحرب هي نكبة على كل سكان طرابلس، ومن لم تطله القذائف اليوم، قد تصيبه ذات يوم، ويضطر حينها أن يلجأ إلى الغير كما فعلنا نحن الآن، ولكن، تستدرك وتواصل: اعتقادنا وتصورنا لتطور الأحداث لم يكن متوافقاً مع النزعة الأنانية التي اتسمت بها معاملات اغلب الناس، فعناء الحرب ولد بعض القساوة والغلظة والجشع في قلوب الكثيرين. وتسترسل السيدة هدى قائلة:
هذا ما عانيته، للأسف، خال 14 شهرا متواصلة. منعني أهلي من السكن في بيت العائلة الكبير، والبعيد
عن منطقة الخطر، لمجرد أنهم على خلاف مع زوجي!. خيروني، إما أن أبقى، أنا وأطفالي فقط، دون السماح
لزوجي بالإقامة معنا، أو دفع إيجار بمبلغ تعجيزي، وفي كلا الوضعن، تؤكد،
سأكون متضررة، ولا يخفى عى أحد كيف كانت أحوال الناس في تلك الفترة،فاضطررت للجوء لأحد أصدقاء الوالد
رحمه الله، وياللأسف، فقد خذلنا هو أيضا، ولم يكن أفضل رحمة من أهلي، فاستأجرنا منه مجبرين «غرفة
بحمام » بمبلغ وقدره!.
وتمضي قائلة: كنا حينها في فصل الشتاء، وكانت تنقصنا عدة أغراض، والمكان لم يسعنا مع طفلينا، فماكان
من صديق والدي في آخر المطاف إلا أن جاءنا مطالباً بخروجنا، بحجة عزمه على صيانة البيت!.
لم أجد أية بادرة إعانة من أهلي وأقاربي- تضيف- غابوا عن المشهد تماما، وتعمدوا مقاطعتنا، وأجبرتنا
الأوضاع هذه عى حجز غرفة في فندق لبعض الأيام حتى لانرغم عى النوم في الشارع!. لأول مرة في حياتي، أدرك معنى الترد، وماكنت أقرأ عنه في القصص، وأشاهد ضحاياه في الأفام، أصبح واقعا مجانيا، نشاهده بأم أعيننا
ولايحتاج لأية وسائط تكشف عنه وتريه للناس. تشردنا في بلادنا بكل معنى الكلمة،باع زوجي سيارته، مكسبه الوحيد بعد بيته، لتغطية مصاريف الإيجارات التي تراكمت، ومازلنا ندفعها في الوقت الحالي. الحرب لم تنقض بعد، تركت بصمتها الغائرة، ولن تفارقنا.
وفاء على .. عاملة                                                                                                                       
في بداية اندلاع الحرب قاومت من أجل البقاء أنا وأبنائي رافضنا الخروج من بيتنا، وكلما اشتدت الحرب يزداد صبرنا وتوكلنا على الله، أخذنا ما يلزمنا من تموين كاف وقررنا البقاء والصمود في منزلنا، لم يبق في حيتنا ذلك الوقت سوى
ثلاث عائلات، كانوا المؤنس لي ولأولادي حتى منتصف شهر رمضان، عندما قررت عائلتان الخروج بعد ارتفاع
شدة الضرب وتساقط الصواريخ والقذائف العشوائية، ولا ألومهم على نفاد صبرهما، فالحرب مدمرة وللصبر حدود، والنجاة بأرواحهم لاتحتمل البقاء تحت تهديد القذائف والصواريخ، واصلنا العيش مذعورين
أنا وأولادي صحبة العائلة الوحيدة التي بقيت معنا.
وفي نهاية شهر رمضان، قبل عيد الفطر بثلاثة أيام تحديدا، اتصل بي أخي وأصر عى خروجنا من المنزل، وأن عليّ إنقاذ عائلتي ومغادرة منطقة الاشتباك، ونصحني بعدم المخاطرة أكثر، وطلب مني أن نلتقي كي أتسلم منه مفتاح منزله لأسكن فيه وأولادي. تقول: أولادي 4 شباب وبنتان، وأربع متزوجات، منهن من تسكن
في مناطق الاشتباك، ونزحن مع أزواجهن وعائلاتهم. أنا أم نازحة، تضيف متحرة على ما آلت إليه حياتها، تشتتت عائلتي بين مناطق الوطن الواحد، ولانقطاع التغطية في المدينة، وانغلاق المنافذ والطرق المتعارف عليها للدخول
والخروج منها، صعبت علينا معرفة أخبار بناتي، سواء النازحات منهن أوالقاطنات داخل طرابلس. كنت طوال الوقت محتارة أفكر بقلق في هذا الشتات الذي لا أحد يعرف متى يلتم شمله إلا الله.
وبعد فترة، تقول: اضطر اثنانمن أبنائي لتركي والالتحاق بعملهما بمدينة طرابلس، كان أحدهما يعمل في ورشة «بي . في . سي »، اتخذ منها مكاناً يعمل فيه صباحاً، ويقضي فيه ليلته وحيدا، بعد مغادرة العمال، أما ابني
الأكبر، ولأنه يعمل في وظيفة حكومية، كان يتردد في بعض الأيام على صديق له اعتبره وعائلته أحد أفراد أسرتهم.

كان ابني يقول لي: إنه «مستريح » مع عائلة صديقه، ويؤكد أنهم أشعروه بحبهم له، وهكذا أمضى ابني فترة
النزوح، تارة مع أخته وزوجها، وتارة أخرى مع صديقه، ويأتينا أحيانا ليبقي معنا بضعة أيام سرعان ما تمر ويعود لعمله بطرابلس، وما إن يذهب -تتحسر الأم المكلومة- ويأخذ معه قطعة من قلبي، وأظل أفكر فيه وفي مخاطر الطريق والعودة. مضيفة بحرقة وألم: لقد حدثت في مجتمعنا تصدعات اجتماعية وانشقاقات لن تلتئم بسهولة، رغم
تظاهرنا بعكس هذا. لقد زوجت ابني، وخاطري مكسور حتى هذه اللحظة. استأجرابني بيتاً بعد إصرار والد العروس
أن يتم الزواج خلال هذا العام، متعللا بأن الخطبة طالت، ولأن المسافة طويلة قررت المجيء إلى مدينة طرابلس حتى نكمل العرس. لم نجد مكاناً نقيم فيه مراسم العرس. ولا حتى بيتاً نستأجره في ذلك الوقت لازدحام المدينة بالنازحن، لهذا قررنا البقاء في منزل العريس، وإقامة مراسم العرس فيه بشكل محدود جداً حتى ليلة الزفاف، في تلك الليلة خرجنا من منزل ابني إلى بيت إحدى صديقات العائلة، استقبلتنا هذه الصديقة بكل ود. نمنا ليلة
هادئة بعد تعب العرس والمسافة التي قطعناها، و »التخميم » أيضاً هو الذي أرهقنا، وفي مساء اليوم
التالي ذهبنا إلى بيت العروسن لنكمل معهما مراسم العرس وما يسمى بيوم «المحضر » حتى لا يشعر ابني
أمام عروسه بفقدان إخوانه وأخواته وأمه بالدرجة الأولى، أحيينا لهم تلك الليلة باستقبال أهل العروس وتقديم
ما أمكننا تقديمه، رغم كل المنغصات والضغوطات في تلك الآونة. بتنا تلك الليلة مع العروسن في منزلهما، ورغم ترحيبهما بنا وبوجودنا إلا أننا وبناتي كن مستاءات من هذا الموقف المخجل، وفي الصباح الباكر أعددنا لهم «صفرة »
الإفطار التي تليق بعروسن وخرجنا من البيت وهما نائمان، وفي الطريق، وعلى رأسي لحافي «الفراشية » ودون
أن يلحظني أبنائي، انهالت عيناي بالدموع للتقصر الذي حدث في عرس ابني، لأنه أول زفاف لأحد أولادي
الأربعة، ولم يكن كما أريد، وكما تريد كل أم أن يكون أول عرس لأولادها، كنت في الطريق مكسورة الخاطر،
طالت بنا ولم تنته، لا الطريق ولا دموعي، كنت أتمنى أن يحضر أحبابي زفاف ابني وفرحتي به. هذه الحرب كسرت كل الليبين، عدنا إلى منازلنا فاقدين أشياء لا تعوض، فقدنا الوطن ونعيش الغربة في زمن نزوحنا وعند عودتنا ايضا،
نحن لسنا نحن، فقدنا أغلى ما يمتلكه المرء وهو الانتماء إلى نفسه والمجتمع، وهذا الوطن.
مبروكة علي ربة بيت
كنت في زيارة لأهلي حيث بقيت لمدة يومن، وعند عودتي لمنزلي، بعد أن سمعت أن هناك اشتباكات، تفاجأت
بمنعي من الدخول للمنطقة، وتم إغلاقها بسواتر ترابية، كانت المرة الأولىالتي أشاهد فيها مثل هذه المناظر
المخيفة، عدت أدراجي لمنزل أهلي، كان زوجي حينها يعاني من فشل كلوي، ويعالج في مستشفى الكلى. بقيت في منرل أهلي مدة أسبوع، وكان المنزل صغيرا، خرج زوجي يبحث لنا عن سكن للإيجار، ولم نكن نملك شيئاً،
سوى الملابس التي خرجنا بها. وتضيف: تحصلنا عى نصف «حوش » ب 700 دينار، أخذنا بعض حاجياتنا من أهلي، مضت الأيام ولم نوفق في دفع الإيجار إلا لشهر واحد، تعب زوجي، فحاولت أن ألتجىء إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، وبعض الجمعيات الخيرية التي لم يكن باستطاعتها مساعدتنا بإعانة اجتماعية، لينتهي بنا المآل، عن
طريقهم، في مدرسة. كانت الحياة صعبة، والمدرسة ليست مهيأة لأن تكون سكنا، بقينا فيها مدة 9 أشهر، كلها عذاب وشقاء وحسرة، وبلغ شقاؤنا حد عجزنا عن تأمن مايسد رمق الجوعالذي ألم بنا. عشنا أياماً صعبة،
حسب وصفها. توفي زوجي ونحن في المدرسة، ولم يكن عنده أحد في مدينة طرابلس.أقمت العزاء في بيت أهلى، وكانت مشكلتي أنني لا أعراف ماذا أفعل في فترة العدة!، وأين سأقضيها؟.
بقيت لاجئة في وطني، ولم ألتزم بالعدة الشرعية نتيجة ظروفي، عدت إلى المدرسة التي كنت فيها، وهناك
رفضوني بحجة أن المدرسة ممتلئة ولا يوجد مكان شاغر، لم يعد لي مكان ألتجىء إليه، فوجدت أفضل حل أن
أذهب إلى أحد الشواطىء حيث أقضي فيه بعض الليالي بصحبة أبنائي، وهكذا فعلت، حتى وجدت شخصاً
دلني عى عمارات «السكة »، فذهبت هناك وأخذت شقة لم تكتمل، لا يوجد بها لا أبواب ولا نوافذ ولا مياه، عانيت
الأمرين، قمت بنقل الماء في «قلالن ،» وأغلقت النوافذ بورق مقوى، وعلى كل حال سكنت فيها، كنت لا أملك إلا «مندارين » وقطعة حصير. .عشت فيها أياماً «سوداء » حتى انتهت الحرب، وعندما رجعت إلى بيتي وجدته «خرابة »، سرقت كل ممتلكاتي، حتى الأبواب والنوافذ والحنفيات تمتسرقتها، وهكذا كانت الحرب وبالاً علينا في أولها وآخرها. فمن ياترى سيتحمل مسؤولية كل ما حدث لنا ومثلي الكثيرات؟

شاهد أيضاً

بسبب كسل العائلة أم ضعف التعليم العام .

في بيتنا معلمة شنطة .. معلم خصوصي ((مفردة دخلت قاموسنا الليبي ليس حديثآ وليس مبكرآ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *