أصوات من غزة
«هــذه ليســت مجــرد تدوينــة ، هــذه شــهادة تمتــزج المشــاعرفيها مــع الذاكــرة ويختلــط
فيهــا الخــوف مــع الأمــل واليــأس مــع الرجــاء. هــي أيضــاً قصــة لشــابة عاشــت حربــاً ليســت
ككل الحــروب.
هــي أيضــاً تدوينــاً لظلــم هائــل وقــع علــى الفلســطينيين منــذ النكبــة الأولــى وكأن
قدرهـم أن يحملـوا علـى أكتافهـم أوزار هـذا العالـم الـذي تبلـدت فيـه الأحاسـيس وغابـت
عنــه المشــاعر. وهــي تســجيل لكفــاح نــادر المثــال.
التدوينــة كتبــت باللغــة الأنجليزيــة وصيغــت بلغــة راقيــة وشــفافية مذهلــة وكان لــي
شــرف ومتعــة ترجمتهــا إلــى العربيــة علهــا تســاهم فــي إســماعكم أصواتــا رائعــة …
أصواتــا مــن غــزة».
ترجمة وإعداد: عطية صالح الأوجلي
ملاك حجازي
لا أتذكـــر آخـــر مـــرة اســـتيقظت فيهـــا بشـــكل طبيعـــي،
ســـواء علـــى ضـــوء الشـــمس المتدفـــق مـــن خـــال النافـــذة
أو علـــى صـــوت رنيـــن المنبـــه الصاخـــب. منـــذ أكثـــر مـــن
عـــام، أســـتيقظ علـــى صـــوت انفجـــارات يوميـــة، وأصـــوات
انفجاراتهـــا الصاخبـــة تمـــزق صمـــت الصبـــاح. مـــا الـــذي بقـــي
ليدمـــر؟ أســـأل نفســـي، وأفـــرك عينـــي، وأنـــا مـــا زلـــت مثقـــا ً
بالنـــوم، وروحـــي مثقلـــة بالخـــوف الدائـــم. لقـــد اســـتهدف
الاحتـــال المبانـــي الســـكنية بـــا هـــوادة، ودمـــر الذكريـــات،
والحيـــاة، والأحـــام.
لـــو كانـــت هـــذه لعبـــة، أقســـم إنهـــم كانـــوا ليتوقفـــوا الآن،
لأنهـــم ســـئموا مـــن رتابـــة التدميـــر. لقـــد حذفـــت «كانـــدي
كـــراش» بعـــد شـــهر مـــن اللعـــب لأننـــي لـــم أســـتطع تحمـــل
الحـــركات المتكـــررة. لكـــن هـــذه ليســـت لعبـــة. إنهـــا مدفوعـــة
بالكراهيـــة العميـــاء والعنصريـــة، وتدميـــر منهجـــي أعمـــق
بكثيـــر ممـــا يمكـــن لأي اســـتراتيجية أو ملـــل أن يفســـره.
عندمــا أقــول إن حياتــي دمــرت، فهــذا ليــس مجــرد اســتعارة.
لقـــد انهـــارت حياتـــي وعالمـــي. ولكـــن علـــى الرغـــم مـــن كل
مـــا خســـرته، فأنـــا أعلـــم أن هنـــاك أشـــخاصا ً.كانـــت خســـائرهم
أعظـــم. إن الشـــعور بالذنـــب الـــذي ينخـــر فـــي ّ بســـبب مـــا
تبقـــى يـــأكل القليـــل المتبقـــي. وفـــي خضـــم كفاحـــي، أجـــد
نفســـي أتســـاءل عمـــا إذا كانـــت معاناتـــي تســـتحق الذكـــر
عندما جرد الكثيـــرون غيـــري مـــن كل شـــيء.
شتاء مرير
لقـــد عـــاد شـــهر ديســـمبر مـــرة أخـــرى، ولـــم يعـــد يشـــبه
ذاتـــه القديمـــة. لقـــد عـــاد مثـــل اللـــص، يجـــرد مـــا تبقـــى
منـــه القليـــل. ذات يـــوم، جلـــب الشـــتاء الحميميـــة والتجديـــد،مليئا
ً برائحـــة المطـــر وتربـــة الأرض وقطـــرات المـــاء التـــي
تنقـــر علـــى النوافـــذ. كانـــت أوانـــي النباتـــات، التـــي تتـــلألأ
بالنـــدى، تؤطـــر المنظـــر بفـــرح هـــادئ.
لقـــد كان موســـما يجمعنا معا،ويقدم الدفء في
البطانيـــات وحـــول المدافـــئ المتواضعـــة. تجمعـــت العائـــات،
وتقاســـمت أكـــواب الســـحلب والضحـــك. كانـــت الشـــوارع
المبللـــة بالمطـــر تتـــألأ وكأنهـــا وعـــود. كان الأطفـــال يرشـــون
المـــاء فـــي البـــرك، وضحكاتهـــم تكســـر اللـــون الرمـــادي. حتـــى
فـــي النضـــال، كان هنـــاك مجـــال للفـــرح، لأضـــواء المتلألئـــة
والطـــاب الذيـــن يركضـــون تحـــت المطـــر، ويحتضنـــون البـــرد
كتمـــرد.
لقـــد أصبـــح الشـــتاء ســـاحا ً وقـــوة تبـــرد حتـــى النخـــاع.
يســـتهدف أولئـــك الذيـــن ليـــس لديهـــم نوافـــذ، ولا أســـقف،
ولا منـــازل علـــى الإطـــلاق. لقـــد جـــاء البـــرد ليدفعنـــا إلـــى
الوحـــدة والجنـــون واليتـــم. يـــأكل مـــن هـــم مكشـــوفون،
ويحـــول الهـــواء والمطـــر المتســـاقط إلـــى شـــركاء لليـــأس.
أشـــعر بالبـــرد، لكننـــي لا أتحـــدث عنـــه أبـــدا ًكان والدي
يذكرنـــي: «لا يحـــق لشـــخص مثلـــك، يتمتـــع بالامتيـــاز، أن
يشـــكو». فـــي غـــزة، لا يـــزال المنـــزل بـــدون نوافـــذ هـــو منـــزل والمنـــزل المدمـــر جزئيـــا
ً أفضـــل مـــن كومـــة مـــن الأنقـــاض.
يختبـــئ خوفـــه وراء حاجبيـــن مقطبيـــن، ويخشـــى نفـــس
الريـــاح التـــي يمكـــن أن تحـــول كل شـــيء بنـــاه – أحلامـــه،
عملـــه – إلـــى غبـــار.
لقـــد فقـــدت بطانيتـــي المفضلـــة خـــلال إحـــدى عمليـــات
النـــزوح البائســـة، لكننـــي لـــم أجـــرؤ علـــى الشـــكوى. لا تـــزال
هنـــاك أفـــكار كثيـــرة عالقـــة فـــي حلقـــي. لـــو أخبـــرت والـــدي
ذات يـــوم، لقـــال لـــي: «لقـــد حظيـــت برفاهيـــة الإخــلاء، بينمـــا قتل أو عذب آخرون أثناء فرارهم
ِإنـــه محـــق. لقـــد تعثـــرت مرتيـــن فقـــط أثنـــاء النـــزوح،
وتعثـــرت فـــي الظـــام لأن الجنـــود الإســـرائيليين منعونـــا
مـــن اســـتخدام الضـــوء. لـــم يقتلونـــي، لـــذا فمـــن المفتـــرض
أن أكـــون ممتنـــا ً . أليـــس هـــذا مقيـــاس الامتيـــاز هنـــا؟ البقـــاء
علـــى قيـــد الحيـــاة؟
أرتـدي سـترة ثقيلـة بغطـاء للـرأس للتدفئـة، وسـراويل ضيقـة
ســميكة، وجــوارب. علــى الأقــل مــا زلــت أملــك ملابــس، وهــو
امتيـــاز لـــم يعـــد يتمتـــع بـــه العديـــد مـــن أصدقائـــي وأقاربـــي
بعـــد أن فقـــدوا منازلهـــم. لا أســـتطيع التوقـــف عـــن التســـاؤل
كيـــف يتعاملـــون مـــع هـــذا البـــرد القـــارس؟ حتـــى فـــي
طبقـــات ملابســـي، مـــا زلـــت أشـــعر بالبـــرد. أقـــول لنفســـي
إنـــه بســـبب الغـــلاف النايلـــون الـــذي يغطـــي الفتحـــة حيـــث
كانـــت النافـــذة، والـــذي كان يمـــزق ويســـمح بدخـــول هبـــات
مـــن الهـــواء البـــارد.
ألقـــي نظـــرة علـــى البـــاب، الـــذي يئـــن مـــع كل فتـــح وإغــلاق.
لـــم يعـــد المنـــزل كمـــا كان مـــن قبـــل. فقـــد تركـــه ثقـــل
القنابـــل المســـتمر علـــى مـــدار العـــام والشـــهرين الماضييـــن
غيـــر مســـتقر. حـــاول والـــدي إصلاحـــه، لكنـــه يحتـــاج إلـــى
أكثـــر مـــن مجـــرد إصــلاح؛ بـــل يحتـــاج إلـــى اســـتبداله. ومـــع
ًذلـــك، فهـــو لا يـــزال مغلقا قد يؤدي دفع بسيط إلى
كســـره، لكنـــه صامـــد حتـــى الآن.
ربمـــا هـــذا البـــرد القـــارس لا علاقـــة لـــه بالطقـــس. إنـــه نـــوع
البـــرد الـــذي يأتـــي مـــن معرفـــة أن الآخريـــن يعانـــون أكثـــر
منـــك، حتـــى وأنـــت تعانـــي أيضـــا ً – أولئـــك الذيـــن ليـــس
لديهـــم حتـــى أبـــواب غيـــر مســـتقرة لإغاقهـــا.
وجبات باردة
حـــان وقـــت الإفطـــار. مـــاذا يـــأكل المـــرء فـــي أول وجبـــة
فـــي الصبـــاح؟ قبـــل الحـــرب، كنـــت أتنـــاول البيـــض والخبـــز
المحمـــص بالأفـــوكادو. الآن، لا يوجـــد بيـــض أو أفـــوكادو أو
خضـــروات أو فواكـــه فـــي الســـوق. لقـــد كان الأمـــر علـــى هـــذ
النحـــو لمـــدة عـــام، وحتـــى عندمـــا يتوفـــر شـــيء مـــا، يكـــون
باهـــظ الثمـــن بشـــكل ســـخيف. لقـــد نســـيت طعـــم معظـــم
الأطعمـــة التـــي اعتـــدت تناولهـــا.
لقـــد فقـــدت أكثـــر مـــن 10 كيلوغرامـــات أثنـــاء الحـــرب. لقـــد
تلاشـــت رغبتـــي وســـعادتي كأنثـــى فـــي أن أكـــون أكثـــر
نحافـــة بســـرعة عندمـــا لاحظـــت تســـاقط شـــعري وشـــحوب
بشـــرتي بشـــكل مقلـــق. أشـــعر بالتعـــب بســـهولة، وأحيانا ً
أســـمع عظامـــي تتكســـر. أنـــا فـــي الخامســـة والعشـــرين مـــن
عمـــري فقـــط.
لقــد فقــدت علاقتــي الحميمــة بالطعــام. والآن أصبــح الطعــام
يثيـــر اشـــمئزازي. فـــكل شـــيء معلـــب، معالـــج، ومجـــرد مـــن
الحيـــاة. والنكهـــات التـــي كنـــت أعرفهـــا ذات يـــوم اختفـــت،
وحـــل محلهـــا شـــيء بـــارد وغيـــر طبيعـــي.
لكننــي لــن أقــول هــذا بصــوت عــال. فوالدتــي تذكرنــي بــأن
العديــد مــن أهلنــا ليــس لديهــم مــا يأكلونــه علــى الإطلاق.
ونحـــن محظوظـــون بوجـــود الطعـــام المعلـــب. ولدينـــا الحمـــص
لصنـــع الحمـــص. صحيـــح أننـــا لا نســـتخدم الطحينـــة، ولكـــن
ًلدينـــا الكمـــون. والحمـــص بـــدون الطحينـــة ليـــس ســـيئا
علـــى الإطـلاق. ولدينـــا الخبـــز. وفـــي جنـــوب غـــزة، يقـــف
الفلســـطينيون فـــي طوابيـــر مزدحمـــة خانقـــة لمجـــرد إطعـــام
أطفالهـــم، وبعضهـــم يفقـــد حياتـــه فـــي تدافـــع الجـــوع.
المـــوت بســـبب غيـــاب الخبـــز ليـــس غريبـــا علينا فقد قتل
العديـــد مـــن النـــاس فـــي شـــمال غـــزة فـــي وقـــت ســـابق
مـــن هـــذا العـــام فـــي مذابـــح الدقيـــق. ويبـــدو أن إســـرائيل
عازمـــة علـــى تجويعنـــا وقتلنـــا جوعـــا الخبـــز، الـــذي كان فـــي
الماضـــي بســـيط وعاديآ ، أصبح الان ملوثا . فهو ملىء
بالدمـــاء. لا أحـــد فـــي غـــزة يســـتطيع أن يأكلـــه دون أن يشـــعر
بثقـــل الثمـــن الـــذي دفعـــه مقابـــل شـــيء كان مـــن المفتـــرض
.أن يكـــون حقـــا ً أساســـيا ً
أتســـاءل أحيانـــا ً مـــاذا ؟ قـــد يفكـــر أحـــد أولئـــك الذيـــن قتلـــوا
أثنـــاء محاولتهـــم جلـــب كيـــس مـــن الدقيـــق إذا مـــا تمكنـــوا
مـــن العـــودة، فقـــط ليجـــدوا أن الدقيـــق أصبـــح متاحـــا ً أخيـــرا ً
».
أتخيـــل أنهـــم ســـيقولون: «قتلونـــي لأننـــي كنـــت جائعـــا ً
تظـــل الفكـــرة عالقـــة فـــي ذهنـــي، حـــادة ومؤلمـــة. هـــل
ســـيغضبون، أم ســـيضحكون مـــن عبثيـــة الأمـــر، أم ســـيبكون
مـــن المفارقـــة القاســـية فـــي الأمـــر كلـــه؟
كنـــت أحـــب صـــب زيـــت الزيتـــون علـــى الحمـــص. اعتـــدت أن
أســـكب أكثـــر ممـــا ينبغـــي لأننـــي فلســـطيني، ولا أهتـــم.
لكـــن هـــذا العـــام، لا يوجـــد زيـــت زيتـــون. لـــم يثمـــر موســـم
قطـــف الزيتـــون لأن النظـــام الإســـرائيلي يســـيطر علـــى
معظـــم بســـاتين الزيتـــون فـــي حـــي الزيتـــون، الحـــي الشـــهير
بزيتونـــه. لقـــد اقتلعـــوا الأشـــجار، وشـــردوا الســـكان، وحرمـــوا
النـــاس مـــن عمـــل قطـــف الزيتـــون وتخليلـــه. يمـــزح والـــدي
ً : «كيـــف يمكـــن لمنـــزل فلســـطيني أن لا يحتـــوي
علـــى زيتـــون أو زيـــت زيتـــون؟» أجبتـــه «كيـــف يمكـــن لرجـــل
فلســـطيني أن يتـــم خداعـــه ويشـــتري زيـــت الزيتـــون مخلوط ً
بزيـــت عبـــاد الشـــمس؟» ضحـــك وقـــال «إنـــه نفـــس لـــون
الزيـــت الأصلـــي، ولـــم أشـــمه حتـــى. لـــم أتخيـــل أن يحـــدث
هـــذا».
أضفـــت بعضـــا ً مـــن ذلـــك الزيـــت «المغشـــوش» إلـــى الحمـــص
الخالـــي مـــن الطحينـــة، مـــع رشـــة مـــن الســـماق. لـــم يكـــن سيئا،
كمــا شــربت الشــاي بالســكر. هــذا امتيــاز كبيــر. الســكر
باهـــظ الثمـــن الآن، لكـــن لا يمكننـــي مقاومتـــه. لـــدي الكثيـــر
مـــن الحلويـــات لدرجـــة أننـــي لا أســـتطيع التخلـــي عنهـــا.
يشـــرب عديـــد الفلســـطينيين فـــي غـــزة الشـــاي المـــر، فقـــط
فـــي محاولـــة لتجـــاوز اليـــوم.
تبادل الأدوار للبقاء على قيد الحياة
خـــال هـــذه الحـــرب، شـــعرت بامتيـــاز غريـــب لعـــدم اضطـــراري
إلــى حمــل أوعيــة الميــاه. الحمــد لله أننــي امــرأة؛ الآن يعتبر
هـــذا مهمـــة الرجـــل بموجـــب معاييرنـــا الاجتماعيـــة التـــي تشكلت حديثا
. قبـــل الحـــرب، كان المـــاء يتدفـــق بحريـــة
مـــن الصنابيـــر، ولـــم تكـــن هنـــاك حاجـــة لمثـــل هـــذه الأدوار.
لـــم يكـــن المـــاء شـــيئا ً تفكـــر فيـــه؛ لقـــد كان الأمـــر ببســـاطة موجودآ
ًا..مـــا هـــو مبررنـــا؟ الاعتقـــاد القديـــم بـــأن النســـاء لا
ينبغــي لهــن أن يحملــن أشــياء ثقيلــة. ورغــم أننــي يجــب أن
أشـــعر بالامتنـــان لتجنيبـــي هـــذه المهمـــة الشـــاقة، إلا أننـــي
لا أســـتطيع تجاهـــل الشـــعور بالذنـــب الـــذي يازمنـــي. فحمـــل
المـــاء ليـــس أمـــرا ً ثقيـــا ً فحســـب؛ بـــل إنـــه أمـــر مفجـــع.
عندمـــا أنظـــر مـــن النافـــذة، أرى صبيـــة صغـــارا ً يكافحون مع
أوعيــة الميــاه، وقــد انحنــت أجســامهم الصغيــرة تحــت وطــأة
الثقـــل. وجوههـــم جـــادة، وأكبـــر ســـنا ً بكثيـــر مـــن ســـنهم.
يجـــب أن يكونـــوا فـــي المدرســـة. لأكثـــر مـــن عـــام، لـــم يتلـــق
الأطفـــال فـــي غـــزة تعليمـــا ً رسميا . وبدلآ من التعليم في الفصـــول الدراســـية،
أجبرو على القيام بأدوار البقاء . إن مشـــاهدتهم تجعلنـــي أتســـاءل عـــن نـــوع الطفولـــة المتبقيـــة
لهـــؤلاء الصبيـــة، ونـــوع المســـتقبل الـــذي ينتظرهـــم. كيـــف
تحلـــم عندمـــا يســـتهلك البقـــاء كل لحظـــة مـــن يقظتـــك؟
لكـــن الأمـــر ليـــس ســـهلا بالنسبة للنساء أيضا. لم يعد
هنــاك غــاز للطهــو فــي شــمال غــزة لأكثــر مــن عــام، ويضطــر
معظـــم النـــاس إلـــى الطهـــو علـــى النيـــران المفتوحـــة. لقـــد
اســـتهلكت أغلـــب الأخشـــاب منـــذ زمـــن بعيـــد، والآن يضطـــرون
إلـــى حـــرق الـــورق، وبقايـــا الكتـــب، والصحـــف القديمـــة ـــ أي
شـــيء قـــد يشـــتعل.
فـــي إحـــدى الأمســـيات، جلســـت مـــع جاراتـــي، ومعظمهـــن
مـــن النســـاء، حيـــث شـــاركن قصصهـــن. وكشـــفت كل منهـــن
عـــن نـــدوب ـــ حـــروق وبثـــور ناجمـــة عـــن النيـــران المفتوحـــة
التـــي اضطـــررن إلـــى الطهـــو عليهـــا. واســـتمعت، وكان ثقـــل
صمتهـــن ثقيــلا فـــي الهـــواء، قبـــل أن أســـألهن: «مـــا الـــذي
تفتقدنـــه أكثـــر مـــن غيـــره؟» فأجابـــت إحداهـــن: «أفتقـــد
رؤيـــة نفســـي فـــي المـــرآة».
لقـــد أثـــرت كلماتهـــا علـــي ّ أكثـــر ممـــا توقعـــت، وملأتنـــي
بشـــعور عميـــق بالذنـــب. لســـت مضطـــرة إلـــى الطهـــو علـــى
النـــار. أنـــا محظوظـــة بمـــا يكفـــي لأن لـــدي ألواحـــا ً شمســـية،
وهـــي امتيـــاز لا يســـتطيع كثيـــرون هنـــا تحملـــه. ورغـــم أننـــي
أعانـــي فـــي الشـــتاء عندمـــا بالـــكاد تعمـــل الألـــواح الشمســـية
، فأنـــا لســـت مضطـــرة إلـــى مغـــادرة المنـــزل كل يـــوم لجمـــع
الفتـــات وإشـــعال النـــار لمجـــرد البقـــاء علـــى قيـــد الحيـــاة.
إن هــذه ليســت حربــا فالحروب لا تنطوي على سيطرة غير
إنســـانية علـــى شـــعب، حيـــث يصبـــح مجـــرد توفيـــر الغـــذاء أو
الـــدواء أو الكهربـــاء موضوعـــا ً للنقـــاش. فعندمـــا تمتلـــك كل
هــذه القــوة، فأنــت لســت فــي حالــة حــرب؛ بــل إنــك تعامــل
شـــعبا ً بأكملـــه كســـجناء، وتقتلهـــم كمـــا تقتـــل الماشـــية.
أشـــعر وكأننـــي محاصـــر، محاصـــر فـــي قفـــص ضخـــم، حيـــث
يراقـــب الجنـــود والدبابـــات كل تحـــرك. وتحلـــق الطائـــرات
بـــدون طيـــار فـــي الســـماء، لتذكرنـــي باســـتمرار بأننـــا علـــى
بعـــد خطـــوة واحـــدة مـــن المـــوت.
ومـــع ذلـــك، فـــي غـــزة، يبـــدو البقـــاء علـــى قيـــد الحيـــاة فـــي
حـــد ذاتـــه بمثابـــة امتيـــاز، وهـــو أمـــر لا يســـتقر فـــي ذهنـــي
أبـــدا ً. ولكـــن ربمـــا هـــذه هـــي النقطـــة: أن نعيـــش فـــي تحـــد ٍ
لمـــا يهـــدف إلـــى تدميرنـــا. وإذا كان لابـــد أن أمـــوت، فأنـــا
أرفـــض أن أفعـــل ذلـــك بهـــدوء أو فـــي خـــوف. فأنـــا أختـــار
أن أعيـــش وأمـــوت وأنـــا أفعـــل مـــا أحـــب: القـــراءة والكتابـــة
.
ومعانقـــة بنـــات أخـــي والعمـــل عندمـــا يكـــون ذلـــك ممكنـــا ً
وأزرع البـــذور وأروي نباتاتـــي. وكل فعـــل صغيـــر مـــن أفعـــال الحياة ، مهما كان صغيرا،هو تمرد ويذكرني بأنني
مـــا زلـــت هنـــا، ومـــا زلـــت إنســـانا ، ومازلت متصلا بشيئ
يتجـــاوز هـــذا الكابـــوس. إن التمســـك بهـــذه القطـــع مـــن
الحيـــاة هـــو مقاومتـــي، ووســـيلتي لرفـــض الخـــوف الـــذي
يريدوننـــي أن أحملـــه.
كاتبة فلسطينية تقيم في غزة