دور المركز الليبي للمحفوظات والدراسات
التاريخيـــة والتحــديـات المستقبليـة
» بقلم: د. حافظ امحمد الولدة
مندوب ليبيا السابق لدى اليونسكو
تصوير: مخلص العجيلي
شكل المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية، المنشأ عام 1976، ركيزة أساسية لحفظ ذاكرة ليبيا وتراثها الحضاري. إلا أن هذا الصرح الثقافي يواجه تحديات جمة تعيق أداءه الأمثل، من أبرزها نقص الموارد، هشاشة الأوضاع الأمنية، وغياب تشريعات حازمة لحماية الوثائق، هذه التحديات تفرض ضرورة تضافر الجهود الوطنية والدولية لتوفير الحماية اللازمة لهذه الكنوز الوطنية، وتطوير آليات فعالة للوصول إليها والحفاظ عليها للأجيال القادمة، من خلال هذه الجهود، يمكن ضمان الحفاظ على هذه الوثائق وتسهيل الوصول إليها للاستفادة منها في البحوث والدراسات التاريخية، إن الحفاظ على هذه الوثائق هو واجب وطني، ففيها نستمد قوتنا وهويتنا.
دور المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية
يلعب المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية دوراً محورياً في حماية وصون الوثائق والمخطوطات التاريخية الليبية التي تشكل جزءًا من ذاكرة الأمة وتراثها الحضاري. ويتمثل هذا الدور في:
1. جمع وتصنيف الوثائق: يعمل المركز على جمع وتنظيم كنوز من الوثائق والمخطوطات التاريخية من شتى المصادر، وتصنيفها وتنظيمها بشكل علمي. ويهدف المركز من خلال هذه الجهود الشاملة إلى بناء أرشيف وطني غني يعكس تاريخ ليبيا وتراثها الحضاري المتنوع. وتشمل مصادر هذه الوثائق:
المؤسسات الحكومية: مثل الوزارات والمحاكم والبلديات، حيث تحتوي هذه المؤسسات على كم هائل من الوثائق التي تسجل تاريخ البلاد.
الأرشيفات الخاصة: مثل أرشيف العائلات والشخصيات التاريخية، والتي تحتوي على معلومات قيمة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الماضي.
المساجد: حيث تحتوي هذه المؤسسات على وثائق دينية وتاريخية مهمة.
المكتبات العامة والخاصة: حيث يمكن العثور على مخطوطات ووثائق نادرة.
التبرعات: يشجع المركز الأفراد والمؤسسات على التبرع بالوثائق والمخطوطات التي بحوزتهم.
مصادر التراث الشفهي: لا يقتصر عمل المركز على الوثائق المكتوبة فحسب، بل يشمل أيضاً توثيق التراث الشفهي الغني الذي يحمل بين طياته حكايات الأجداد, الجهاد وتاريخ المجتمع الليبي، ويتم ذلك من خلال جمع الشهادات التاريخية والأغاني الشعبية والحكايات وتوثيقها بصورة علمية للحفاظ عليها للأجيال القادمة.
2. ترميم وحفظ الوثائق: ولى المركز اهتمامًا بالغًا بحفظ وترميم الوثائق والمخطوطات التاريخية، حيث يعمل على إنشاء بيئة آمنة تحميها من العوامل الضارة كالرطوبة والحرارة والضوء والأتربة، يسعى إلى استخدام التقنيات الحديثة ومواد الحفظ المتخصصة لضمان بقاء هذه الوثائق سليمة لأجيال قادمة. إن الحفاظ على هذا التراث الثمين ليس مجرد واجب، بل هو استثمار في مستقبلنا، حيث يوفر للباحثين والدارسين كنوزًا من المعلومات تساعدهم على فهم تاريخنا وحضارتنا.
3. التوثيق والنشر: يسعى المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية إلى نشر المعرفة التاريخية والثقافية على نطاق واسع ويتم ذلك من خلال توثيق ونشر الوثائق والمخطوطات بشكل إلكتروني ورقمي، وتحويل التراث الشفهي إلى نصوص مكتوبة. ويهدف المركز من خلال هذه الجهود إلى بناء قاعدة بيانات غنية ومتاحة للجميع، تساهم في الحفاظ على التراث الوطني وتشجيع البحث العلمي في مجال التاريخ والتراث.
4. التوعية مفتاح الحفاظ على التراث: يعتبر نشر الوعي بأهمية التراث الوثائقي ركيزة أساسية لنجاح جهود المركز، يسعى المركز إلى الوصول إلى كافة شرائح المجتمع، من الشباب إلى كبار السن لتوعيتهم بقيمة الوثائق والمخطوطات التاريخية، وحثهم على المشاركة في حمايتها، فمن خلال التوعية المجتمعية، يمكننا بناء جيل واعٍ بقيمته التاريخية، قادر على حماية هذا التراث الثمين.
التحديات التي تواجه المركز
يواجه المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية تحديات كبيرة تهدد سلامة التراث الوثائقي الليبي. فنتيجة للصراعات والاضطرابات، تعرضت عديد الوثائق إلى تحديات كبيرة في ظروف تخزينها وسلامتها، كما يعاني المركز من نقص الموارد المالية والبشرية، مما يحد من قدرته على القيام بواجباته، بالإضافة إلى ذلك تتطلب طبيعة العمل في هذا المجال تحديثاً مستمراً للتقنيات المستخدمة، وهو ما يتطلب توفير الموارد اللازمة لتطوير البنية التحتية الرقمية حيث تساعد رقمنة الوثائق على حفظها بشكل آمن وتسهيل الوصول إليها، كما يقلل من خطر فقدانها بسبب الكوارث الطبيعية أو الحروب، وبالإمكان استخدام الذكاء الاصطناعي في التعرف على النصوص المكتوبة بخط اليد وتحليل المحتوى واستعمال أنظمة إدارة الوثائق التي تساعد في تنظيم وتصنيف الوثائق وتسهيل البحث فيها. إذا لم يتم معالجة هذه التحديات، فإن ذلك سيؤدي إلى خسارة جزء كبير من التراث الوثائقي الليبي وذلك لصعوبة الوصول إليه، مما سيؤثر سلباً على فهمنا لتاريخنا وحضارتنا.
نقص الحماية القانونية الكافية للمخطوطات ، وغياب مواد صريحة تحدد العقوبات الرادعة لجرائم سرقة أو إتلاف الوثائق يهدد التراث الوطني الليبي
تشريعات حماية الوثائق في القانون الليبي
تواجه عدة تحديات بالرغم من أهمية الوثائق والمخطوطات التاريخية ووجود قانون رقم 24 لسنة 2012 بشأن المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية. هذا النقص في الحماية القانونية الكافية للوثائق والمخطوطات التاريخية يعود إلى عدة عوامل رئيسة:
أولاً، عدم شمولية القانون، حيث يركز القانون الحالي بشكل أساسى على إنشاء المركز وتنظيمه، دون أن يتضمن مواداً كافية لمعالجة الجرائم المرتبطة بالوثائق والمخطوطات.
ثانياً، عدم تحديث التشريعات، إذ إن عديد القوانين الأخرى ذات الصلة، مثل قانون العقوبات، لا تحتوي على مواد صريحة تحدد العقوبات الرادعة لجرائم سرقة أو إتلاف الوثائق التاريخية. وأخيرًا، صعوبة التطبيق، حيث يعيق غياب آليات واضحة لتنفيذ القانون وتطبيق العقوبات عملية حماية التراث الوثائقي.
لمواجهة هذه التحديات، يمكن تطوير تشريعات متكاملة تأخذ في الاعتبار كافة جوانب حماية الوثائق التاريخية، وتعزيز التعاون بين المؤسسات ذات الصلة، وتطوير آليات تنفيذ فعّالة. هذا من شأنه أن يسهم في حماية التراث الوثائقي الليبي للأجيال القادمة.
المقترحات لحماية الوثائق والمخطوطات
المقترحات لحماية الوثائق والمخطوطات تتضمن خطوات مهمة تساهم في حفظ هذا التراث القيم. أولاً، دعم المركز الليبي للمحفوظات من خلال زيادة الميزانية المخصصة له، وتوفير الكوادر المؤهلة، وتحديث التقنيات المستخدمة في حفظ وتصنيف الوثائق، هذه الإجراءات تضمن استمرارية العمل بكفاءة وفعالية أكبر.
ثانياً، سن قوانين حازمة تعاقب بصرامة على سرقة أو إتلاف الوثائق والمخطوطات، وتجريم تهريبها خارج البلاد، هذه القوانين يجب أن تكون واضحة وشاملة لتوفير حماية قانونية قوية لهذه الكنوز التاريخية.
من خلال هذه الجهود المشتركة، يمكننا تعزيز الحفاظ على التراث الوثائقي وضمان حمايته للأجيال القادمة.
دور التكنولوجيا في حماية التراث الوثائقي
تلعب التكنولوجيا دورًا حاسمًا في الحفاظ على التراث الوثائقي وحمايته من الضياع والتلف، فقد أحدثت ثورة في مجال حفظ وتوثيق وتوفير الوصول إلى الموارد الثقافية. إليك بعض أهم الأدوار التي تلعبها التكنولوجيا في هذا المجال:
الرقمنة:
تلعب الرقمنة دوراً حاسماً في الحفاظ على الوثائق والمخطوطات، حيث تسهم في تقليل خطر التلف الناتج عن العوامل البيئية مثل الرطوبة والحرارة والضوء، مما يحفظ هذه الوثائق للأجيال القادمة، بفضل الرقمنة يصبح الوصول إلى الوثائق سهلاً من أي مكان في العالم، مما يجعلها متاحة للباحثين والجمهور على حد سواء، ويعزز من انتشار المعرفة، بالإضافة إلى ذلك تتيح الرقمنة تخزين كميات هائلة من البيانات الرقمية في مساحات صغيرة، مما يوفر مساحة كبيرة في المستودعات التقليدية ويحسن من إدارة الموارد المتاحة.
للحفاظ على التراث الوثائقي .. تعاون مرتقب لمركز المحفوظات مع بعض المؤسسات الأوروبية المناظرة
نظم إدارة الوثائق الرقمية:
تلعب نظم إدارة الوثائق الرقمية دوراً مهماً في الحفاظ على تنظيم وتصنيف الوثائق بشكل فعّال، مما يسهل عملية البحث والاسترجاع ويضمن الوصول السريع إلى المعلومات المطلوبة، هذه الأنظمة تتيح تتبع حركة الوثائق ومعرفة من قام بالوصول إليها؟ ومتى، مما يعزز من مستوى الشفافية والمراقبة، بالإضافة إلى ذلك توفر نظم إدارة الوثائق الرقمية حماية عالية للوثائق من الفقد والتلف، مما يضمن الحفاظ على سلامتها وسريتها، وهو أمر حيوي للحفاظ على التراث الوثائقي.
التعرف الضوئي على الحروف (OCR):
تلعب تقنية التعرف الضوئي على الحروف (OCR) دوراً مهماً في تحويل النصوص المكتوبة بخط اليد أو المطبوعة إلى نصوص رقمية قابلة للبحث، هذه التقنية تسهام في إنشاء نسخ رقمية يمكن التعامل معها بسهولة، مما يسهل عملية الفهرسة وإنشاء علامات وصفية للوثائق، هذا يمكن أن يعزز من سهولة الوصول إلى المعلومات، ويجعل البحث داخل النصوص أكثر فعالية وسرعة، استخدام OCR يتيح تحويل الوثائق التقليدية إلى موارد رقمية ذات قيمة مضافة، مما يعزز من حفظ التراث الوثائقي.
الذكاء الاصطناعي:
يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في مجال حفظ الوثائق وتحليلها، يمكنه تحليل الوثائق الرقمية واكتشاف الأنماط والعلاقات بينها، مما يوفر فهماً أعمقاً للبيانات المخزنة، بالإضافة إلى ذلك، يستخدم الذكاء الاصطناعي في ترميم الوثائق التالفة وإعادة بناء الأجزاء المفقودة، مما يعزز من إمكانية استعادة الوثائق إلى حالتها الأصلية ويحافظ على قيمتها التاريخية والثقافية، كما تساهم الترجمة الآلية في زيادة وصول الوثائق المكتوبة بلغات مختلفة إلى جمهور أوسع، مما يزيد من تبادل المعرفة والثقافة بين المجتمعات المختلفة، هذه التطبيقات تجعل الذكاء الاصطناعي أداة قوية في الحفاظ على التراث الوثائقي وتطويره.
الواقع الافتراضي والواقع المعزز:
تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز توفر طرقاً جديدة ومبتكرة للتفاعل مع الوثائق والمخطوطات التاريخية، من خلال هذه التقنيات يمكن للجمهور أن يستمتع بتجربة تفاعلية غامرة، حيث يمكنه استكشاف المواقع التاريخية والآثار بطريقة ثلاثية الأبعاد، هذا يضيف بُعدًا آخرا للحفاظ على التراث الوثائقي ويجعل التعلم عن التاريخ أكثر إثارة وتفاعلاً، هذه التقنيات تساهم في جلب التاريخ إلى الحياة بشكل يمكن أن يشرك أجيالاً جديدة ويعزز من فهمهم وتقديرهم للتراث الثقافي.
الأمن السيبراني:
الأمن السيبراني يلعب دورا ًحيوياً في حماية الوثائق الرقمية من الاختراق والقرصنة، مما يضمن سلامة المعلومات والحفاظ على سريتها، بالإضافة إلى ذلك تعتبر النسخ الاحتياطية المنتظمة أمراً بالغ الأهمية لضمان عدم فقدان الوثائق بسبب مشاكل تقنية أو هجمات سيبرانية، هذه الإجراءات تعزز من الحفاظ على التراث الوثائقي وتجعل الوثائق أكثر أماناً واستدامة للأجيال القادمة.
استخدام تقنيات التشفير القوية وتطوير بروتوكولات أمان متقدمة يمكن أن يُساهم بشكل كبير في حماية هذه الكنوز الرقمية من التهديدات المحتملة، الحفاظ على الوثائق ليس فقط مسؤولية فردية، بل هو جهد جماعي يتطلب تضافر الجهود من جميع الأطراف المعنية لضمان حماية هذا التراث الثمين.
التعاون الدولي لتطوير أداء المركز
لتطوير أداء المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية، يمكن الاستفادة بشكل كبير من التعاون الدولي، يشمل ذلك عدة خطوات حيوية مثل تبادل الخبرات مع المؤسسات الدولية المتخصصة في مجال الحفاظ على التراث الوثائقي، مما يعزز من المعرفة والممارسات المتبعة، بالإضافة إلى ذلك يمكن الحصول على دعم مالي وفني من المؤسسات الدولية لتنفيذ مشاريع ترميم وحفظ الوثائق، مما يوفر الموارد اللازمة لمواصلة العمل بكفاءة.
بناء القدرات من خلال تدريب الكوادر العاملة في المركز على أحدث التقنيات المستخدمة في مجال الحفاظ على التراث الوثائقي يعد خطوة أساسية لتطوير الأداء، المشاركة في المؤتمرات والندوات الدولية تتيح فرصة لمناقشة التحديات التي تواجه قطاع الحفاظ على التراث الوثائقي واقتراح الحلول المناسبة.
علاوة على ذلك، بناء الشراكات مع المؤسسات الدولية والمحلية لتنفيذ المشاريع المشتركة يمكن أن يعزز من جهود الحفاظ على التراث، من خلال التعاون الدولي يمكن للمركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية تطوير قدراته وتعزيز جهوده في الحفاظ على التراث الوثائقي الليبي. ويبدو أن هناك خطوات إيجابية بدأت في هذا الاتجاه من قبل المركز للتعاون مع بعض المؤسسات الأوروبية.
الخاتمة
الحفاظ على الوثائق والمخطوطات التاريخية هو واجب وطني، فهو يعكس الحفاظ على الهوية الوطنية والتراث الحضاري ويتطلب هذا جهودًا مشتركة من جميع الأطراف المعنية، من الحكومة إلى المجتمع المدني والأفراد، لضمان حماية هذا التراث الثمين للأجيال القادمة و تضافر الجهود يضمن استدامة هذا التراث ويعزز من فهمنا لتاريخنا وثقافتنا، مما يوفر أساساً قوياً للأجيال المقبلة لتبني هويتهم الوطنية بثقة وفخر.