كان الرومان من أكثر شعوب العالم القديم حباً للطبيعة والاستمتاع بمظاهرها الخلابة لذلك لجأ الكثير من أثريائهم لمَّا سئموا حياة الضجيج بالمدن الكبرى إلى الريف الهادىء لقضاء أوقات ممتعة حيث قال الشاعر الروماني «جوفينالي» إن الأحمق وحده هو الذي يسكن العاصمة في حين أن في وسعه أن يشتري من الأجر الذي يتقاضاه في روما بيتاً جميلاً ببلدة ايطالية هادئة تحيط به حديقة خلفية غناء كان أغنياء روما كثيراً ما يتركون مدينتهم عند بداية فصل الصيف ليقيموا في بيوت ريفية على سفوح الجبال أو سواحل البحر والبحيرات ،وقد ترك لنا بليني الأصغر وصفاً ممتعاً لبيته الريفي في «لورنتوم» على ساحل لاتيوم فذكر أنه من السعة بالقدر الذي يريحه وأن نفقاته لاترهقه حيث صنفت هذه الدارات من أغنى وأفخم المباني القديمة .
مـن روائــع العمــارة الرومانيـة جنـوب البحـر المتـوسط
الخبير الأثري: رمضان إمحمد الشيباني
فيلا سيلين
تعد ا فيلا سيلينب إحدى االفللب التي شيدت في العصر الروماني من قبل الأثرياء الرومان أو من أثرياء السكان المحليين خارج أسوار المدن، (كلمة سيلين هي اسم محلي لقرية سيلين وليس بالحقيقة اسم الفيلا) وهي أكثر ما يثير اهتمام السائح لرؤيته في اقليم المدن الثلاث وهي االفيلاب الوحيدة المكتملة من سلسلة من الدارات الساحلية الرومانية الثرية التي امتدت على طول الساحل من طرابلس إلى مصراتة ،وهناك أمثلة كثيرة لها، على سبيل المثال لا الحصر ( فيلا النيريدات في تاجوراء وفيلا النيل في لبدة الكبرى وفيلا دار بوك ـ عميرة في زليتن ، وفيلا الباب الجديد وفيلا قرجي وقرقارش وغيرها ) إلا أنها هي الأفضل والأمثل والأكمل ومن المرجح أن الفيلا نمت وتطورت على مدى فترة طويلة من الزمن إلا أنها كانت في أزهى حالاتها مابين القرنين الثاني والثالث الميلاديين عندما كانت لبدة نفسها في أوج رخائها.
كشف الحفريات الأثرية عن ما يقارب من 400 متر مربع من أرضيات الفسيفساء الرائعة التى تصور لمحات من الحياة كما شاهدها معاصروها
تعرض الموقع لسيول شتوية في العام 1974 الأمر الذي كان سبباً في إظهار جانب من جدران و أرضيات الفيلا فقامت مصلحة الآثار لاحقاً بأعمال تنقيب وحفريات نتج عنها إماطة اللثام عن ما نراه اليوم وهو جزء من قاعة الجلوس للفيلا التي بنيت على الشاطئ وتواجه شمال شرق باتجاه البحر ومن المحتمل أنه كانت لها علاقة بالنشاط الزراعي الاقطاعي في ذلك الوقت.
حيث تجد بها الجدران المزدانة بألواح من الرخام والمرمر والرسوم الجدارية الملونة (الفريسكو) التي تمثل جانباً من الحياة الاجتماعية والدينية والحدائق الزاخرة بأشجار الفاكهة والزهور وسط نافورات المياه لتكون متنفساً يلجأ إليه ملاك البيوت خلال فصل الصيف، إلى جانب إقامة الأروقة المعمدة التي تظلل جوانب البيت بسقف محمول على صفوف من الأعمدة والأقواس المزينة بنقوش، كما زودت الممرات بمصاطب للجلوس وكان داخل المنزل فسيحاً به قاعات واسعة حولها غرف الجلوس والأكل والنوم والمكتبات التي بلطت أرضياتها بالفسيفساء والرخام ورسمت على جدرانها لوحات جصية ، ووضعت على جنباتها تماثيل ومنحوتات رخامية في قمة الروعة وتحوي الدارة على 46 غرفة موزعة على ثلاث جوانب لفناء كبير يطل على البحر من الجانب الرابع الذي يبعد بنحو 10 أمتار عن الشاطئ ، وكانت تحيط بالفناء أروقة معمدة بأعمدة من الحجر الجيري المغطى ببلاط أحمر وأرضيتهامن الفسيفساء، وتتوسطه حديقة يعتقد بأن بها بركة مياه، وتبلغ مساحة الدارة مايقارب 800 متر مربع، وتعد ألواح الفسيفساء من أبرز ماتحويه الدارة بدقة حبيباتها وجماليات ألوانها ورسوماتها ومواضيعها ، حيث كشفت الحفريات الأثرية على مايقارب من 400 متر مربع من أرضيات الفسيفساء الرائعة التي تصور لمحات من الحياة الاجتماعية في المدن الرومانية كما شاهدها معاصروها ،وجانباً من الحياة الدينية متمثلة في الأساطير والمعتقدات السائدة (اليثولوجيا) خلال مراحل تاريخية مختلفة .
جولة افتراضية داخل أروقة وقاعات الفيلا
يمكن الدخول إلى الفيلا اليوم من الجهة الغربية التي تؤدي بك مباشرة إلى البهو المعمد الذي توزع حوله الغرف الرئيسة ، وقد تلاشى جزء من البهو بفعل التآكل الشاطئي ، فلاشك أن المنظر المفتوح تجاه البحر كان دائماً جذاباً ومن خلال الممرات الخشبية الحديثة التي شيدت فوق منطقة الحديقة المركزية ليتمكن الزائر من الاستمتاع بالفسيفساء ضمن الأعمدة من دون إلحاق ضرر بها وعلى الطرفين الجنوبي الشرقي والشمالي الغربي بين الأعمدة توجد مشاهد جذابة على الأرضيات الفسيفسائية لأقزام يخوضون معركة مع تماسيح وطيور اللقالق ، ومحاطة بخضرة خصبة ومجموعة من البط والكثير من الأقزام يستخدمون قطعاً من الجرار كخوذات أو دروع ، كما أن ما يسمى بالمشاهد (النيلية ) ( نسبة إلى النيل ) مليئة بروح المرح ، لاحظ على الجانب الجنوبي الشرقي بالقرب من الزاوية الجنوبية قزماً
الفيــلا الوحيـــدة المكتملــة مــن سلسلة الدارات الساحليـــة الرومانيــة
الثريـــة التــي امتــدت علــى طــول الســاحل من طـــرابلس إلـــى مصراتــة
يسحب لقلق رجلي رفيقه وقسم كبير منه قد اختفى بالفعل بين فكي تمساح ويظهر الطرف الجنوبي الغربي للبهو المعمد أفضل ما في المخططات الأكثر رسوماً للمربعات التي تحتوي على تنوع ثري من الأشكال الهندسية المتنوعة والملونة التي تمتد حول البهو المعمد داخل الأعمدة . . على الجانب الشمالي الغربي للبهو المعمد يوجد مدخل يؤدي إلى الردهة (القاعة المركزية ) وفيها حوض ماء والقاعة المغطاة بأكملها الآن كانت في الأصل مفتوحة في الوسط نحو السماء ومياه الأمطار تجري نحو هذا الحوض والأرضية مرصفة بفسيفساء بتصميم هندسي بديع وعلى الجدران رسمت مشاهد صيد محفوظة بشكل جيد مع صور لمبان في مناظر طبيعية ريفية ومن هذه الغرفة من الممكن رؤية الغرفة رقم 8 على اليمين وبسبب ( الخزائن ) المبنية في الزوايا فقد قيل إن هذه الغرفة ربما كانت مكتبة والأرضية مزينة بفسيفساء هندسية مصممة على شكل لوحات مربعة صغيرة تحتوي على أقنعة ورموز وأشكال أخرى . . في الغرفة 5 التي يمكن رؤيتها من المدخل المقابل لمدخل الردهة من البهو المعمد توجد قاعة طعام صغيرة فيها لوحة فسيفساء مركزية رائعة تصور أُسطورة ليكورغوس وهناك نسخ عدة منها ولكن المضمون هو أنه كان ملك ثراسيا الذي عارض الإله ديونيسوس وهاجمه هو وأحد أتباعه من النساء امبروسيا بفأس وحولت امبروسيا إلى كرمة عنب أخذته بدورها أسيراً ويوصف هناك وهو يسقط فأسه بينما يقع في شباك الكرمة.
في الغرفة 2 التي قد لا يمكن الدخول إليها ولكن يمكن رؤيتها من الردهة المفتوحة توجد بشكل رئيس قطعة فسيفساء فاخرة تظهر سباق عربات في حلبة سباق .
( ويمكن أن نفترض بأن المقصود هو الحلبة الموجودة في لبدة الكبرى ) تبدو بوابات الانطلاق في الرواق بوضوح في الطرف الأقرب إلى القاعة الوسطية وسباق العربات حول مركز الحلبة توجد فوقها أحواض مياه وتماثيل على أعمدة وعدادان اثنان للدورات ( وهما إطاران يحملان سبع شعلات تنطفيء واحدة تلو الاخرى مع اتمام كل دورة في السباق ) وفي الغرفة 3 في إحدى زواياها لوحة مركزية عليها مشهد رمزي غريب يمكن تفسيره بأنه إله ( الزمن ايون حاملاً دائرة تمثل دائرة البروج ) ومن خلالها تمر الفصول الأربعة ببعض التردد إلى العصر الذهبي والمنظر يشاهده ابوللو ( بصفته الشمس ) وهو يبزغ من البحر في عربته (ممثلاً فجر العصر الجديد ) وبجانبه عازف مجنح ( وخلف ايون تجلس فينوس والكيوبيد يرفرف خلف رأسها ) بالعودة إلى البهو المعمد حيث فسرت الفتحة المعمدة في وسط الجانب الجنوبي بأنها تمثل غرفة صيفية ( غرفة طعام مفتوحة باتجاه الشمال ) وجزء منها مزين بفسيفساء هندسة الشكل ، والجزء الآخر ببلاط رخامي وفيها نوافذ في الجدار الخلفي كانت تطل في السابق على حديقة مسيجة وهناك غرفتان صغيرتان مفتوحتان عليها من كلا الجانبين وكلتاهما مزينتان بأرضية من الفسيفساء وفي وسط القاعة قطع فسيفسائية رمزية في قطع مربعة دقيقة للغاية تصور بوسايدون (إله البحر ) وحورية بحر يتسليان مع بعضهما وفي الطرف المقابل للمجموعة أرضية فسيفسائية في قمة الروعة والاتقان تمثل ثور اتوراكاتابسياب وأشخاص يقفزون على الثور بحركات بهلوانية وهي إحدى الألعاب التي كانت تمارس فى سيرك مدينة لبدة وكتب على النقش في الفسيفساء ( نظم هذه المناسبة محب سيرابيس ) وهو دليل على أن الذي أمر بصنع هذه القطعة من الفسيفساء عاش في زمن الامبراطور كاركلا ورغب بهذه الطريقة التعبير عن ولائه له ( كاركلا كان يعرف بأنه من أتباع الإله اليوناني المصري
تعرض الموقع لسيول شتوية في العام 1974م كان سببآ في إماطة اللثام عن قاعة الجلوس للفيلا
سرابيس وعند المرور إلى الجهة البحرية للفيلا على الشرفة المرصفة بالفسيفساء المحاذية لما يبدو أنها حديقة رسمية التصميم فيها صفوف من الزهور تفصلها جدران منخفضة الارتفاع ومكسوة كلها بالفسيفساء ،هناك عرض حقيقي من الترف والثراء وفي الغرفة الداخلية أرضية فسيفسائية بنمط متعرج ولكن الملفت للنظر فيها بشكل رئيسي هو الرسوم الجدارية الملونة بشكل دقيق لها حافات باللون الأحمر وتضم في طياتها صوراً لرفيق مؤلهة الحب كيبويد أيضاً وأكاليل من الخضرة يسكنها البط ومن المؤكد أنها كانت غرفة نوم لطفل وإذا عدت إلى الشرفة وواصلت باتجاه غرفة الحمام الدائرية فإنك تدخل إلى ممر صغير بالقرب منه غرفة أخرى رائعة وعادة ما تكون مسورة ولا يسمح بالدخول إليها ، ولكن يمكن إلقاء نظرة عليها من عتبة الباب وما يلفت الانتباه هنا ليس أرضية الفسيفساء وإنما لوحات الرخام الرمادي التي لا تزال سليمة وموجودة في مكانها مربوطة بمشابكها البرونزية الأصلية وتغطي الجدران حتى مستوى الرأس وتوجد فوقها جدارية من الجبس الملون وعلى ارتفاع السقف الداخلي في مكان أو مكانين توجد آثار تجويف مزين بفسيفساء ملونة .
وإذا واصلت السير مباشرة نحو الأمام من الغرفة فسوف تدخل جناح الحمام الدائري الرائع في الفيلا ، وجوهر المبنى هو حوض الحمام البارد المركزي الثماني الأضلاع الذي يحتوي على فسيفساء نموذجية لرأس اوقانيوس ومحاط بمخلوقات بحرية وهناك مغطس وزينة بالجص على الجدران التي ظلت محفوظة حتى عارضة القبة وفي الكوة على أحد الجوانب قطعة فسيفساء تصور ملاكمين فوق تجويف النافورة وبالقرب من حوض الماء البارد عدة غرف ساخنة صغيرة وفيها مغاطس مياه ساخنة ونلاحظ الأنابيب الجوفاء التي يمكن رؤيتها أحياناً في الجدران في هذه الغرف التي تسمح بمرور البخار الساخن لحجرات التعريق وهو مايوجد عادة بالحمامات ..تقوم مصلحة الآثار بالتعاون مع خبراء من بعثة جامعة روما الثالثة العاملة بليبيا بين الحين والآخر وبشكل دوري بأعمال صيانة وحفظ وترميم لمكونات الفيلا من رسوم جدارية وأرضيات فسيفسائية والجدران والأسقف بحكم قربها من البحر ولما لذلك من تأثيرات قد تؤثر بشكل سلبي على الفيلا .