كيف تتحول الحاجة إلـى مهنـة..؟
قصص مؤلمة
عـن الأطفـال
والشحـاذة !!
في ظهيرة يوم قائظ، كان عليّ، الطفل ذو الأعوام الثمانية، يقف عند زاوية الطريق ممسكًا بعلبة صدئة، يطرقها بخفة كلما اقترب أحد المارة، محاولًاً أن يلفت انتباههم بعيونه الواسعة التي تروي حكاية صامتة عن العوز والحرمان. تحت حرارة الشمس، ينتظر عليّ مع عدد من الأطفال الآخرين الذين يملؤون الأرصفة. وجوههم تملؤها آثار التعب وعيونهم تبحث بقلق بين الحشود عن أياد رحيمة قد تلقي بقطع معدنية في أيديهم الصغيرة.
و في يوم آخر من فصل الشتاء الوضع لا يكون مغايراً ففي صباح شتوي بارد كانت مريم، الطفلة ذات الشعر المجعد، الهاربة خصلاته على وجهها من حجابها الذي يغطي أكتافها تمسك بيد أخيها الأصغر، تحاول تهدئته بأن تروي له قصصاً عن أيامٍ أفضل.. كانت ترتجف بردًا تحت معطف رثّ لا يكاد يقيها قسوة الرياح. و تمد يديها الصغيرتين ، تترقب نظرة عطف من أي مارٍّ يمنحها القليل من الدفء. يعيشان يومهما بين قسوة الصقيع وغياب الأمل ، يظهر هؤلاء الأطفال في كل زاوية كأنهم ظلٌ دائم للمدينة، يعكس واقعهم المؤلم.
تحقيق : زهرة موسى
لقد أصبح التسول مهنة لآلاف من الأطفال و النساء والرجال أيضاً في شوارع ليبيا، حيث تحول الفقر والجوع وقسوة الظروف إلى واقع يومي لا مفر منه. وبين براءة ضائعة وظروف قاسية، نبدأ حكايتنا لاستكشاف ظاهرة “امتهان التسول”؛ لنفهم قصصهم، معاناتهم، وأثر هذا الواقع على المجتمع الليبي ككل. يُعد التسول من القضايا الاجتماعية التي تتفاقم آثارها في ليبيا، خاصةً في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد ، وتقول «خديجة أحمد ناشطة مدنية « إن أحد الأسباب التي قد تدفع النساء و الأطفال على وجه الخصوص للتسول هو عدم وجود من يعيل الأسرة مالياً ، خاصة في حالات التفكك الأسري ، وقد يرجع ذلك إلى أن البعض يصنف الضغوط الاقتصادية من العوامل التي ساهمت في ارتفاع معدلات الطلاق والتفكك الأسري، مما يجعل الأطفال والأمهات عرضة للتسول كوسيلة للعيش.
و تضيف « إن غياب دور المنظمات الخيرية أو قصور دورها على مواسم معينة بسبب ضعف البنية التحتية للمؤسسات الاجتماعية في ليبيا، يعاني الكثير من الفقراء والمحتاجين من غياب الدعم اللازم، ما يدفعهم إلى التسول كحلّ أخير، وذلك لأن الدعم قد يكون مقتصراً على توفير مواد غذائية و احتياجات أطفال ولكنها متقطعة و لا تكون بشكل دائم فكيف تدبر الأسر قوتها لباقي أيام السنة؟.
و ترى « زينب خليفة « أن ظاهرة استغلال الأطفال للتسول من قبل أسرهم أو حتى شبكات منظمة أصبحت متزايدة، حيث يُجبر الأطفال على طلب المال تحت ضغط وإكراه من قبل البالغين.
و تضيف « وفي هذا الجانب بالتحديد أتمنى من الجهات المختصة العمل و البحث خلف هذه العصابات و القضاء على هؤلاء الذين يستغلون براءة الأطفال و حاجتهم لاكتناز المال .
يرى المواطن «محمد علي « أنه ظاهرة التسول تحولت إلى مهنة استرزاق عند ضعاف النفوس الذين يديرون هذه الظاهرة ، ففي الصباح الباكر ينتشرون في شوارع المدينة و الأماكن الحيوية و خاصة الطرق و أمام المحال و الأسواق يجمعون «غلتهم» وفي نهاية اليوم يجمعونهم يأخذون نصيب الأسد و يلقون ببضع دينارات لهؤلاء الأطفال و النسوة فهم مجرد واجهة لعصابات إجرامية.
ذكرت « حليمة أبوبكر ناشطة « أقترح على منظمات المجتمع المدني خاصة تلك التي تهتم بقضايا الأطفال و حقوق الإنسان تركيز الجهود لمحاربة هذه الظاهرة وذلك بتنظيمها حملات توعوية حيث تحاول بعض المنظمات العمل على نشر الوعي حول مخاطر التسول وأهمية التكاثف المجتمعي لمساعدة المحتاجين بطرق منظمة وآمنة.
نوهت « أتمنى أن تكون هناك محاولات لتعزيز التنسيق بين المؤسسات الاجتماعية والأمنية لإيجاد حلول فعالة للحد من انتشار التسول ، و أيضا من المهم جدا العمل على دمج الأطفال في المدارس بدلاً من تركهم عرضة للتسول، خاصة أطفال المهاجرين، ففي سبها توجد مدارس إفريقية ، فبدل من ترك هؤلاء الأطفال للفقر و الجهل يجب العمل على ادماجهم بمدارس العامة أو استحداث فصول إضافية لمدارس الجالية الإفريقية القائمة لاستيعابهم.
التسول تجارة مربحة
تقول « سلمى خالد » البعض فعلا لا يقبل على التسول للحاجة انما يعتبرها مصدرا للرزق ، قرأت أحد المنشورات لصديقة على مواقع التواصل الاجتماعي تقول فيه إنها احتاجت هي و رفيقاتها لطبخات «طييبات » في مناسبة عامة كبيرة بمدينة طرابلس لهذا رغبن في مساعدة المتسولات عند احدى التقاطعات بالمدينة , حتى يستفدن من المبلغ ولا يقفن في الشمس و ربما يصبح لهن مهنة يسترزقن منها.
تتابع « أن الفتاة و رفيقاتها ذهبن لـ 4 سيدات عرضن عليهن العمل و لكن أو ل ما نطقت به المرأة كم راتبنا؟ و كم يستغرق وقت العمل؟ ، فأخبرنها أن الوقت لن يتجاوز 3 ساعات على أن يتقاضين 500 دينار لكل واحدة منهن مع طعام لعائلاتهن و كل ما يتبقى من الحفل ،و أنهن يحتجن ل15 شخص للقيام بمهام المناسبة، رفضت ضاحكة و قالت في نفس الساعات التي ذكرتها أستطيع جمع ضعف المبلغ الذي عرضته ، وقفت الفتاة مذهولة أمام ما سمعته ، و كتبت أنها تتساءل كم تجني هذه السيدة في اليوم الواحد ؟.
تقول الشيخة « هاجر محمد » التسول لا يجوز شرعا إلا في أحوال ثلاث قد بينها النبي في الحديث الصحيح وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن قبيصة بن مخارق الهلالي، عن النبي أنه قال: «إن المسألة لا تحل لأحد إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، ورجل أصابته فاقة فقال ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ثم قال: ما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكله صاحبه سحتًا».
فهذا الحديث: قد أوضح فيه النبي أنواع المسألة المباحة، وأن ما سواها محرم، فمن كان عنده ما يسد حاجته من راتب وظيفة أو تجارة أو غلة وقف أو عقار أو كسب يدوي من نجارة أو حدادة أو زراعة أو نحو ذلك حرمت عليه المسألة.. أما من اضطر إليها فلا حرج عليه أن يسأل بقدر الحاجة، وهكذا من تحمل حمالة لإصلاح ذات البين أو النفقة على أهله وأولاده.
وترى “ زينب عبد القادر “ الأخصائية الاجتماعية أن امتهان التسول، خاصة فيما يتعلق بالأطفال، غالباً ما يعبر عن قلق بالغ من الآثار النفسية والاجتماعية لهذا السلوك. من منظور اجتماعي، ترى الأخصائية أن التسول يمثل فشلاً في حماية حقوق الطفل الأساسية، مثل حقه في التعليم، والأمان، والنمو في بيئة صحية. عندما يُدفع الأطفال للتسول، يُحرمون من فرصة الحصول على حياة كريمة، وقد يخضعون لأشكال مختلفة من الاستغلال، سواء من قبل عائلاتهم أو شبكات إجرامية.. تشير إلى أن « تأثير التسول على الجانب النفسي، فهو يؤدي إلى تدمير تدريجي لثقة الطفل بنفسه. إذ يضطر الطفل إلى التفاعل يومياً مع أشخاص غرباء ويتعرض للإهانات أو التجاهل، مما يترك آثاراً نفسية مثل الإحساس بالدونية، والقلق، والخوف من الرفض. هذه التجارب تشكل شخصية الطفل بطريقة مشوهة وتؤدي إلى تطور صورة ذاتية سلبية لديه، وقد ينتهي به المطاف إلى تبني سلوكيات إجرامية أو عدوانية في المستقبل بسبب تأثير هذه التجارب.
تؤكد الأخصائية أيضاً على أن امتهان الأطفال للتسول قد يؤدي إلى قطع الصلة بينهم وبين المجتمع، مما يجعل عملية إعادة إدماجهم صعبة. وتضيف أن الحلول لا بد أن تبدأ من السياسات الاجتماعية الداعمة للأسر الفقيرة والتوعية المجتمعية حول حقوق الأطفال، فضلاً عن فرض عقوبات صارمة على كل من يستغل الأطفال في هذا السياق.
إكراه الأطفال على الشحاذة
يدخل ضمن إطار جرائم الاتجار بالبشر وإستغلال القٌصر
يقول «القانوني صلاح الدين شها » يُعتبر التسول، خاصة عندما يُستغل الأطفال أو يتم إكراههم على ممارسة هذا النشاط، انتهاكاً لحقوق الإنسان وخرقاً لقوانين حماية الطفولة. و ينظر القانون الليبي إلى التسول كجريمة يعاقب عليها القانون، ويتفاوت مستوى العقوبة حسب الظروف المحيطة بها. على سبيل المثال، يُعاقب الشخص البالغ الذي يمارس التسول، وقد يُواجه عقوبات أكثر صرامة في حال ثبوت استغلاله للأطفال أو إجبارهم على التسول.
حيث جاء في القانون رقم (11) لسنة 1961 بشأن تعديل بعض أحكام قانون العقوبات فقد جاء في المادة (3) كل من تسول في محل عام أو مفتوح للجمهور بطريقة منفرة أو مزرية أو باختلاق مرض أو عاهة أو باستعمال الشعوذة يعاقب بالسجن مدة لاتزيد على 6 أشهر .. يشدد على أن استغلال الأطفال في التسول يدخل ضمن إطار جرائم الاتجار بالبشر أو استغلال القُصّر، وهي جرائم يمكن أن تصل عقوباتها إلى السجن. حيث يتم حماية الطفل في هذا السياق بموجب قانون الطفل الليبي، الذي يجرم أي شكل من أشكال الاستغلال أو الإهمال الذي يعرّض سلامة الطفل الجسدية أو النفسية للخطر.
كما أن القانون يهدف إلى تقويض شبكات الجريمة المنظمة التي تستغل الأطفال في التسول، ويشمل ذلك فرض عقوبات مشددة على المنظمات أو الأفراد الذين يقومون بتشغيل الأطفال في هذا النشاط.
ويرى أن القضاء يحتاج إلى مزيد من التشدد في تطبيق العقوبات وردع هذه الجرائم عبر إجراءات سريعة وعادلة لحماية الأطفال وإعادتهم إلى بيئة صحية وسليمة.مؤكداً على أن القضاء وحده ليس كافياً، بل يجب تفعيل منظومة حماية اجتماعية أكثر شمولاً، و العمل على رفع الوعي لدى الأسر والجهات المسؤولة للحد من هذه الظاهرة.
ختاما
يظل التسول ظاهرة متشابكة ومعقدة في المجتمع الليبي تتطلب جهوداً شاملة ومنسقة من قبل الحكومة والمجتمع المدني والمواطنين. إن معالجة أسباب هذه الظاهرة واحتواء آثارها يتطلب وضع خطط طويلة الأمد تستهدف الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. في ظل هذه التحديات، يبقى الأمل معقوداً على مبادرات جديدة وشراكات بين مختلف الجهات للحد من التسول وتوفير حياة كريمة للجميع في ليبيا.