لخلق هوية وطنية وتعزيز سياسات البلد المختلفة
تأتي أهمية دعم الدولة للفنون والثقافة، كونهما يشكلان الهوية الجامعة للأمة التي تعكس مدى قوة تماسكها، وإلى أي مدى وصلت إليه من تطور. عبر هذا الثنائي تنتقل القيم والمعتقدات والتاريخ بطريقة تنفذ إلى وعي ووجدان الفرد، مما يضمن استمرار الأثر الحضاري وتوارثه عبر الأجيال دون انقطاع. كما يساهمان في تطوير الاقتصاد الوطني وتعظيم مداخيله، باعتبارهما عنصري جذب يتوق السائح إلى اكتشافهما. ومن شأن ذلك أن يخلق فرص عمل جديدة، ويحسن من صورة الدولة على الصعيدين المحلي والدولي. ويعد دعم الدولة لفنون وثقافة البلد، واجبا ضروريا ومهما، وملح، بل وتشريعيا تلزمه القوانين الناظمة، أولا: باعتباره وسيلة لتوجيه المجتمع نحو الاستدامة الفكرية والإبداعية. ثانيا: لماله من دور في تشكيل هوية وطنية جامعة تعصم المجتمع من التفكك. ثالثاً: تطوير مفاهيم جديدة في العلوم والفلسفة والسياسة.
ولقد أدرك الكثير من الزعماء والسياسيين، منذ عصر الإمبراطوريات، والممالك، الدور الذي يلعبه دعم الفنون والثقافة في تماسك مجتمعاتهم، وما هما من دور في بناء وتمتين هوية وطنية ذات أثر غارق في تعزيز تماسك الأمة إزاء ما يحيق بها من مؤثرات خارجية لا يجب أن تطفى على أسلوب المجتمع المستمد من واقعه وبيئته.. ويذكرنا التاريخ الإسلامي بالسلطان “سليمان القانوني” (1566-1520) الذي كان راعياً للفنون والعمارة. ففي عهده، شهدت الإمبراطورية العثمانية نهضة كبيرة في الفنون، خاصة العمارة الإسلامية. فقد دعم المهندس المعماري (سنان) الذي قام بتصميم عديد المساجد الرائعة التي تعتبر من أعظم الإنجازات المعمارية في تاريخ العالم الإسلامي.
كما كان السلطان سليمان يدعم الشعراء والفنانين العثمانيين، وأصبحت الثقافة العثمانية في عصره نقطة جذب للمثقفين والفنانين من مختلف أنحاء العالم. كان حكمه مثالاً على كيف يمكن للقيادة
لدعم الدولي للفنون والثقافة
واجب تشريعي تلزمه
القوانين الناظمة
السياسية أن تدعم الإبداع الفني لخدمة الأمة والهوية الثقافية.. وعلى الجانب الأوروبي، يذكر الزعيم والسياسي الإيطالي “لورنزو دي ميدتشي” الملقب بالعظيم، الذي حكم فلورنسا في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، لتبلغ الدولة في ظل حكمه شأواً بعيداً، وذلك نتيجة لإدراكه مبكراً لحقيقة مهمة جداً؛ حقيقة أن الثقافة تعد جزءً أساسياً من المشروع السياسي والاجتماعي لحاكم يسعى إلى تقوية دولته.
مع (لورنزو) ازدهرت الثقافة والفنون، حيث كان أحد أبرز العوامل التي ساهمت في نهضة البلد الذي يحكمه، دعمه اللامحدود للفنانين والمفكرين، مثل “ليوناردو دافينشي” و”مايكل أنجلو” و”ساندرو بوتيتشيلي”، الذين أصبحوا من أهم الأسماء التي ترمز لحقبة عصر النهضة الإيطالية، وتصبح فلورنسا في ظل حكمه مركزاً عالمياً للثقافة والفن، سواء في الرسم أو النحت أو الشعر، وغير ذلك من المجالات الأخرى. هذا الدور يأتي لفهمه مبكراً العلاقة بين الثقافة والسلطة، وللمهمة التي يجب على الدولة الاضطلاع بها لتحقيق التنمية الثقافية والفنية التي نعتبر جزءًا مهماً في تقدم المجتمع وتطوره.
من الحكام والملوك الذين أدركوا أهمية الدور الذي تلعبه الفنون والثقافة على الأمة، وما لها من دور في تعزيز مكانة الأخيرة على الساحة الدولية، نشير إلى الملك الفرنسي “لويس الرابع عشر” (1643-
1715)، الذي حكم فرنسا لسبعة عقود ونيف، عمل خلالها على توجيه اهتمامه الكبير إلى دعم الثقافة والفنون، حتى تم خلع لقب «الملك الشمس» عليه شهدت فترة حكمه، تأسيس « الأكاديمية الملكية للرسم والنحت»، و»الأكاديمية الملكية للعلوم»،
و«الأكاديمية الملكية للموسيقى»، والأخيرة هدف من خلالها إلى تدريب الفنانين والمصممين والموسيقيين للارتقاء بمستويات تعاطيهم مع مختلف أشكال الفنون، من بينهم المؤلف الموسيقي “جان باتيست لولي” الذي تقلد في عهد الملك منصب المشرف على الفنون الموسيقية، ووضع أصول الأوبرا الفرنسية،
وجه الملك الفرنسي “لويس الرابع عشر” اهتمامه الكبير إلى دعم الثقافة والفنون حتى تم خلع لقب «الملك الشمس» عليه
وكذلك الرسام والمنظر في الفن “تشارلز لوبرون”، الذي كان شخصية مهيمنة في الفن في القرن السابع مشر. كما أمر لويس ببناء «قصر فرساي» الذي تميز بالفخامة والاتساق، ليكون رمزاً من رموز الثقافة الفرنسية، وبذلك يكون قد ساهم في تعزيز الإبداع الفني في فترة العصر الكلاسيكي لدولة فرنسا.
أدرك لورنزو ميديتشي مبكراً أن الثقافة تعد جزءا أساسياً من المشروع السياسي والاجتماعي لحاكم يسعى إلى تقوية دولته
أيضاً، هناك الإمبراطور “تشيان لونغ” (1796-1735)، كان قائداً مستنيراً، عرف بكونه راعياً للثقافة والفنون في بلاده، استمر حكمه ستة عقود، اعتبرت من أهم مرحلة من المراحل التي وصلت إليها الصين في تاريخ الفن الوطني. عرف عنه اهتمامه بحفظ الأعمال الأدبية والكتابات التاريخية، وإنشائه لورش خاصة للإنتاج الفني كان لها دور كبير في ازدهار الثقافة والفن في الصين في عهده، حتى سمي عصره بالعصر الذهبي. إضافة إلى القوة السياسية التي وصلت إليها الإمبراطورية، ولعل هذه القوة نابعة من التقدم الحضاري الذي عاشته البلاد نتيجة للدعم المشار إليه.
هذه الأمثلة تثبت أن دعم السلطة للفنون والثقافة لا يتوقف على النواحي الجمالية أو الترفيهية، بل يعد أداة أساسية مهمة من شأنها بناء الهوية الوطنية، وتعزيز قوة الدولة سياسيا واقتصادياً، وترسيخ مكانتها
عي العالم. ولقد أدركت الشخصيات الحكيمة التي نحدثنا عنها، أن هذا الدعم يلعب دوراً حيوياً وجوهرياً عي تقدم الأمم، لذا كانت الرعاية التي قدموها جزءًا أساسياً من سياساتهم، ساهمت في ازدهار الفنون وأحدثت تغييرات جذرية في مجتمعاتهم..تلك مرحلة مختلفة، كان خلالها دور الحاكم والملك الراعي للفنون والثقافة أمرا مهما ولا غنى عنه.. أما الآن، وبعد التقدّم الذي وصلت إليه الدول والأمم، وأصبح لديها وزارات وهيئات وجمعيات تعنى بشؤون الفنون والثقافة، دعماً وحفظاً، تطويراً وحتى إحياءً، عبر قوانين يسنها المشرّع (ممثل الأمة). فإن على هذه الجهات إدراك مسؤوليتها في أداء دورها المناط بها والذي تكفله القوانين، وذلك لتحقيق أهدافها التي أنشئت من أجلها، لخير الوطن والشعب.