كيف نعيش بأثـــر رجعــي..
عبدالرزاق الداهش
السابق دائماً على خطأ.
هذا ليس تعبيراً للفانتازيا، إنما ثقافة حكمت سلوكنا لأزيد من ألف عام
الرئيس السابق على خطأ، والمدير السابق على خطأ، والخليفة السابق على ضلال.
كل شيء يبدأ من الآن، ومن الصفر، وما علينا إلا أن نهيل الرماد على قديم مثلّنا بجثته.
حتى مهرجاناتنا تعودنا أن نقول: المهرجان الأول، والمؤتمر الأول، ولو كان العاشر.
العباسيون نبشوا قبور بني أمية وأخذوا يجلدون عظامهم، في عملية إعدام للموتى لا تحدث إلا في عالمنا.
واللغة العربية كانت سخية في توفير مفردات على نحو: البائد، والهالك، والمتردي، والمنهار والمنقشع، وغيره.
فنحن نتصور أننا وحدنا من يحتكر الصواب، ووحدنا من لا يخطئ.
ذهنية القطيعة المعرفية، هي التي تحكم علاقتنا مع كل ما هو سابق، بعيداً عن أي تراكم معرفي أنتج كل هذا المبتكر.
كيف تطورت السيارة، من تلك التي لا تتجاوز سرعتها خمسة كيلومترات بالساعة، وتتحرك على ثلاث عجلات، إلى السيارة الذكية بدون سائق، والسيارة الطائرة.
لقد أخذ هذا التطور أكثر من قرنين على صهوة التراكم المعرفي.
وكيف كان أول جهاز كمبيوتر بحجم شقة، وبوزن 30 طناً، ليصبح بعد سبعين عاماً على هذا النحو، نتيجة التراكم المعرفي.
وكيف سيختفي مرض السرطان، الذي أكل منا أصدقاءً، وأحباءً، وذلك عبر التدخل الجيني، وتقنية الذكاء الاصطناعي؟
وهل سيكون الذكاء الاصطناعي بدون شخص اسمه أبوجعفر الخوارزمي، أول إنسان رقمي على الإطلاق؟
والغريب رغم هذه العداوة للفائت، والسابق فنحن أكثر انحيازاً لما هو أسبق، ولما هو موغل في الماضي.
هذا الانحياز للقديم جداً، منعنا من المساهمة في أي انتاج علمي، فنحن فقط مستهلكون للحضارة.
نحن نبيع لحم ثرواتنا الطبيعية لشراء سيارات ذكية، ولا ننسى تزويدها بتعاويذ ضد حوادث السير.
العالم يفكر في السير على كوكب المريخ، ونحن نناقش: هل يجوز دخول الحمام بالقدم اليمنى أم اليسرى.
حتى عندما جاءت كورونا، نزل العالم للمختبرات لإنتاج اللقاح لحماية الملايين، أما نحن فقد رحنا نشرب منقوع ورق السرول، واليوم قد بدأ بالأمس.
هذه هي نتيجة ثقافة القطيعة، وازدراء كل ما هو سابق في قطار يتقدم على سكة التراكم المعرفي.
ولهذا صارت لنا السيارة أهم من الوصول، والهاتف أهم من التواصل، والكمبيوتر أهم من المعرفة.
وكم هو مؤلم حد الوجع عندما نكتشف ذات حقيقة بأننا شعوب تعيش بأثر رجعي.