الرئيسية / مقال / النمر يخنق عقل الزرافة

النمر يخنق عقل الزرافة

» بقلم‭: ‬د‭.‬الصديق‭ ‬بودوارة 

هل‭ ‬تعرفون‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬النساء‭ ‬الزرافات؟‭ ‬

باعتباري‭ ‬جاوزت‭ ‬الستين‭ ‬الآن،‭ ‬اسمحوا‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬هادىء،‭ ‬وأن‭ ‬أمارس‭ ‬مهنة‭ ‬الكهول‭ ‬التاريخية،‭ ‬إنهم‭ ‬يروون‭ ‬الحكايات‭ ‬بلا‭ ‬توقف،‭ ‬ويظلون‭ ‬يتكلمون‭ ‬بصوت‭ ‬خافت‭ ‬حتى‭ ‬تأكل‭ ‬قطة‭ ‬الموت‭  ‬ألسنتهم‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ .‬

‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬‮«‬بورما‮»‬‭ ‬ثمة‭ ‬أُسطورة‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬قبيلة‭ ‬‮«‬الكارين‮»‬‭ ‬البورمية‭ ‬كانت‭ ‬تمتلك‭ ‬أجمل‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ( ‬طبعاً‭ ‬العالم‭ ‬لدى‭ ‬هذه‭ ‬القبائل‭ ‬البدائية‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭ ‬فقط،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬أقصى‭ ‬ما‭ ‬تعرفه‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ )‬،‭ ‬وإن‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬الفاتنة‭ ‬خرجت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬لتجلب‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬بئر‭ ‬القبيلة‭ ( ‬وعادة‭ ‬أن‭ ‬تجلب‭ ‬النساء‭ ‬بالذات‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬البئر‭ ‬القريبة‭ ‬هي‭ ‬تقليد‭ ‬عام‭ ‬تتبعه‭ ‬المجتمعات‭ ‬الرعوية‭ ‬عموماً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬الأرض‭ ‬لأسباب‭ ‬يطول‭ ‬شرحها‭.) ‬

المهم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الأُسطورة‭ ‬تواصل‭ ‬سرد‭ ‬متنها‭ ‬قائلةً‭ ‬إنها‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬عودتها‭ ‬تعرضت‭ ‬لهجوم‭ ‬نمر،‭ ‬هاجم‭ ‬النمر‭ ‬رقبة‭ ‬المرأة‭ ‬بالذات،‭ ‬وجرها‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬عرينه‭ ‬حيث‭ ‬افترسها‭ ‬تماماً‭. ‬

انتشرت‭ ‬الحادثة‭ ( ‬تقول‭ ‬الأُسطورة‭ )‬،‭ ‬وساد‭ ‬اعتقاد‭ ‬عند‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬النمر‭ ‬هاجم‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬رقبتها‭ ‬بالذات‭ ‬وكأنه‭ ‬يستغل‭ ‬نقطة‭ ‬ضعف‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬لتفاديها،‭ ‬وكانت‭ ‬ردة‭ ‬الفعل‭ ‬الجماعية‭ ‬أن‭ ‬قررت‭ ‬القبيلة‭ ‬أن‭ ‬تغطي‭ ‬جميع‭ ‬نسائها‭ ‬رقابهن‭ ‬بأطواق‭ ‬حديدية‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬يتكرر‭ ‬الحادث‭ ‬المؤسف‭. ‬

وهكذا،‭ ‬سكتت‭ ‬الأُسطورة‭ ‬ليتكلم‭ ‬الواقع،‭ ‬وأصبحت‭ ‬عملية‭ ‬إحاطة‭ ‬رقاب‭ ‬النساء‭ ‬بأطواق‭ ‬النحاس‭ ‬تقليداً‭ ‬واجباً‭ ‬لا‭ ‬مهرب‭ ‬منه،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الحماية‭ ‬من‭ ‬النمر‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الآن،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬حكماء‭ ‬القبيلة‭ ‬روجوا‭ ‬لسببٍ‭ ‬آخر‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬جمال‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القبيلة‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬رقبة‭ ‬طويلة‭ ‬تغري‭ ‬النمر‭ ‬البشري‭ ‬باختيارها‭ ‬شريكة‭ ‬له،‭ ‬فالمتعة‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬إلا‭ ‬بامرأة‭ ‬طويلة‭ ‬العنق،‭ ‬وما‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭ ‬حرمان‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬احتماله‭.‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬الحكاية‭ ‬الحزينة‭ ‬جداً،‭ ‬حكاية‭ ‬النساء‭ ‬الزرافات‭ (‬تشبيهاً‭ ‬بأعناقهن‭ ‬الطويلة‭ ‬بأعناق‭ ‬الزرافات‭ )‬،‭ ‬وهي‭ ‬حكاية‭ ‬أنتجت‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬مخلوقات‭ ‬مختلفة‭ ‬مشوهة‭ ( ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭  ‬الآخرين‭ ‬طبعاً‭ )‬،‭ ‬رقابها‭ ‬طويلة‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬طبيعي،‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭ ‬حلقات‭ ‬نحاسية‭ ‬لامعة،‭ ‬تتباهى‭ ‬بها‭ ‬النساء‭ ‬هناك،‭ ‬رغم‭ ‬الثمن‭ ‬الباهظ‭ ‬الذي‭ ‬يُدفع‭ ‬مقابلها‭. ‬

إن‭ ‬عملية‭ ‬إطالة‭ ‬الرقبة‭ ‬هذه‭ ‬تبدو‭ ‬أشبه‭ ‬بعملية‭ ‬التحنيط‭ ‬عند‭ ‬قدماء‭ ‬المصريين،‭ ‬هي‭ ‬إنجاز‭ ‬فكري‭ ‬وديني‭ ‬وطبي،‭ ‬لكن‭ ‬التحنيط‭ ( ‬في‭ ‬تفاصيله‭ ) ‬عملية‭ ‬بشعة‭ ‬مقززة،‭ ‬وكذلك‭ ‬عملية‭ ‬إطالة‭ ‬الرقبة‭ ‬هذه،‭ ‬فمنذ‭ ‬بلوغ‭ ‬الطفلة‭ ‬سن‭ ‬الخامسة‭ ‬يوضع‭ ‬طوق‭ ‬نحاس‭ ‬على‭ ‬رقبتها،‭ ‬وكل‭ ‬ستة‭ ‬شهور‭ ‬يتم‭ ‬إضافة‭ ‬طوق‭ ‬آخر،‭ ‬وهكذا‭ ‬مع‭ ‬تقدمها‭ ‬في‭ ‬العمر‭ ‬حتى‭ ‬تصل‭ ‬الأطواق‭ ‬إلى‭ ‬عدد‭ ‬عشرين‭ ‬طوقاً‭. ‬

مع‭ ‬هذه‭ ‬الأطواق‭ ‬تستطيل‭ ‬الرقبة‭ ‬قسرياً،‭ ‬ولا‭ ‬تتمكن‭ ‬النسوة‭ ‬من‭ ‬شرب‭ ‬الماء‭ ‬إلا‭ ‬بقصبة‭ ‬طويلة،‭ ‬ويصبح‭ ‬الانحناء‭ ‬عملية‭ ‬أشبه‭ ‬بالموت،‭ ‬ويصاب‭ ‬العنق‭ ‬والعمود‭ ‬الفقري‭ ‬بالتشوه،‭ ‬وتحرص‭ ‬الواحدة‭ ‬منهن‭ ‬على‭ ‬المشي‭ ‬على‭ ‬مهل‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يؤلمهن‭ ‬احتكاك‭ ‬المعدن‭ ‬بالرقبة،إننا‭ ‬نتحدث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬ثمن‭ ‬باهظ‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬جمال‭ ‬مختلق،‭ ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬الأكاذيب‭ ‬المختلقة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭.‬

لقد‭ ‬ماتت‭ ‬أجمل‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬القبيلة‭ ‬بمخالب‭ ‬نمر،‭ ‬هذا‭ ‬صحيح،‭ ‬لكن‭ ‬النمر‭ ‬الأول‭ ‬أكل‭ ‬عشاءه‭ ‬ومضى،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬ثمة‭ ‬نمر‭ ‬في‭ ‬الغابة،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬ثمة‭ ‬غابة‭ ‬من‭ ‬الأساس،‭  ‬لكن‭ ‬الخوف‭ ‬منه‭ ‬لم‭ ‬يمت‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

‭ ‬أصبح‭ ‬الخوف‭ ‬هو‭ ‬النمر‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬مازال‭ ‬يفترس‭ ‬النساء‭ ‬من‭ ‬رقابهن،‭ ‬ويمكن‭ ‬كهنة‭ ‬الأمر‭ ‬الواقع‭ ‬من‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬الموقف‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬الدنيا‭ ‬ومن‭ ‬عليها‭.‬

حتى‭ ‬الآن‭ ‬مازالت‭ ‬المأساة‭ ‬مستمرة،‭ ‬وحتى‭ ‬الآن‭ ‬مازال‭ ‬نمر‭ ‬‮«‬بورما‮»‬‭ ‬مظلوماً‭ ‬وبريئاً‭ ‬من‭ ‬ذنب‭ ‬نساء‭ ‬القبيلة‭ ‬براءة‭ ‬ذئب‭ ‬اليهود‭ ‬من‭ ‬دم‭ ‬ابن‭ ‬يعقوب‭. ‬

النمر‭ ‬ليس‭ ‬مسؤولاً‭ ‬عن‭ ‬عذاب‭ ‬نساء‭ ‬قبيلة‭ ‬‮«‬الكارين‮»‬،‭ ‬إن‭ ‬الخوف‭ ‬وكهنة‭ ‬التخلف‭ ( ‬كعادة‭ ‬كل‭ ‬الكهنة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭) ‬يرتكبون‭ ‬ذنب‭ ‬الإساءة‭ ‬ثم‭ ‬يعلقون‭ ‬جريرة‭ ‬ما‭ ‬يصنعونه‭ ‬في‭ ‬رقبة‭ ‬أول‭ ‬نمر‭ ‬يمر‭ . ‬

شاهد أيضاً

Stanly Cap

 » حسام‭ ‬الوحيشي سنترك‭ ‬نقاش‭ ‬القضايا‭ ‬الإستراتيجية‭ ‬وشأنها‭ ‬العميق‭ ‬ليتداولها‭ ‬ذوو‭ ‬الاختصاص‭ ‬من‭ ‬أكاديمي‭ ‬جامعة‭ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *