مسلسلات الكارتو
الرسـوم المتحركـة منابــر تربويـة فــي زمـن مـا قبـل الستـالايـت
يشاهدهــا الكبــار ويتعلــم منهــا الصغــار
وتقدم رسالتها لبناء جيل
شهدت مرحلتا ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أي قبل عصر الستالايت والإنترنيت، عرض مسلسلات كارتون، مثل «السندباد»، «توم سوير»، «جراندايزر»، «رعد العملاق»، «هايدي»، «فلونة» وغيرها من الأعمال الهادفة الموجهة إلى شريحة الأطفال؛ حيث لم تكن مجرد وسيلة ترفيهية وحسب، بل كانت بمثابة نافذة ثقافية تربوية فتحت آفاق الوعي والخيال أمام أجيال كاملة، يعيش معها الأطفال قصصاً مستوحاة من مغامرات، حكايات خيالية، وأحيانا دروسا حياتية تمس الواقع، في عروض تبث على القنوات التلفزيونية الأرضية في مواعيد محددة، تجتمع حولها الأسرة بأكملها، تعلم الطفل معنى الانضباط، وتعزز من تواصله مع أفراد عائلته.
تأثير مسلسلات الكارتون على نشأة الأجيال
في تلك الحقبة الزمنية، كان التلفاز يعد نافذة لتواصل الطفل مع العالم الخارجي، وكانت الكارتون تساهم في تنمية شخصيته وتشكيل وعيه وسلوكه بطرق متنوعة. عمل مثل السندباد بما يقدمه من مغامرات مليئة بالتحدي والشجاعة، يعلم الأطفال مغزى الإصرار والسعي لتحقيق الأهداف في مواجهة المصاعب. ففي كل مغامرة جديدة، كانت القيم النبيلة مثل الشجاعة، الوفاء، والتضحية تزرع في نفوس الصغار دون الحاجة إلى محاضرات طويلة.
لقد مثلت الفتاة اليتيمة «هايدي»، أثناء اضطرارها للعيش مع جدها في الجبل، نموذجاً يعبر عن البراءة والعلاقة الحميمة التي من الممكن أن تنشأ بين الإنسان والطبيعة. فمن خلال العلاقة التي عقدتها مع المحيطين بها بما في ذلك الحيوانات، شكلت الحياة الجديدة نمطاً مختلفاً ومغايراً لما ألفته أثناء حياتها في المدينة التي تكتظ بسكان لا يجدون الوقت لنسج علاقات إنسانية مع بعضهم البعض. حتى يتكشف لنا عبر يوميات هايدي أن الإنسان جبل على القيم الإنسانية السليمة وعلى نقاء السريرة، وأن من شأن المحيط الذي نعيش فيه تعزيز مثل هذه القيم. في هذا العمل، نلمس سمات البساطة والقيم الإنسانية المثلى المتعلقة بالعطف، الحب والرحمة، وأهمية كبار السن في العائلة ودورهم وتأثيرهم في حياة الفرد «هايدي» علمت الأطفال أن الفرح ينبع من أبسط الأشياء، وأن العيش في توازن مع الطبيعة يحمل في طياته جمالاً وسكينة يصعب العثور عليهما في حياة مدينة تمتلئ بالضجيج والصخب.
كان التلفاز نافذة لتواصل الطفل مع العالم الخارجي وأعمال الكارتون تساهم في تنمية شخصيته وتشكيل وعيه وسلوكه بطرق متنوعة
من جانب آخر، ألهمت «فلونة» الأطفال قيمة التعاون وأهمية الاعتماد على النفس أثناء مواجهة الشدائد، من خلال قصة أسرة تحطمت سفينتها، فألقت الأمواج بأفرادها في جزيرة نائية، فلم تيأس أو تستسلم، بل سعت للتكيف مع ظروف الحياة الجديدة، والتغلب على التحديات والمخاطر التي تواجهها بفضل تعاون أفراد العائلة معاً والصبر الذي أبدوه في محنتهم، كما يعلم هذا العمل الأدوار المختلفة لكل فرد في الأسرة. الرسالة المهمة التي يوجهها ويعلمها هذا الكارتون للأطفال، أن الجماعة دائمًا أقوى من الفرد، وأن العمل بروح الفريق الواحد يمكن من تجاوز المحن ويعمل على التهوين منها.
وفي «توم سوير»، نكتشف عالماً مختلفا يجسده طفل تفيض روحه نقاوة رغم شقاوته، هذا الطفل يهوى خوض المغامرات ويقبل بروح مقدامة على الاستكشاف. يقدم العمل رسالة تكشف عن سجايا الطفل، ورغبته في اكتشاف ذاته والعالم من حوله بطرقه الخاصة والمتفردة أحياناً، حيث يحمل الكارتون في طياته درساً قيماً للأطفال مفاده أن المغامرة ليست بالضرورة رحلة نحو الخارج فقط، بل يمكن أن تكون رحلة داخلية لاكتشاف الذات.
عروض تبث في مواعيد محددة تجتمع حولها الأسرة بأكملها وتعلم الطفل معنى الانضباط
وتعزز من تواصله مع أفراد عائلته.
من أكثر أعمال الكارتون حضوراً في مخيلة أجيال تلك المرحلة، قصة البطلين الخارقين «رعد العملاق» و»جراندايزر»، حيث يقدم العملان عالماً خيالياً يصور للأطفال مفهوم القوة التكنولوجية وكيفية استخدامها في الخير أو الشر، من خلال أبطال يحملون قوة خارقة يقوم البشر بتوجيهها لنصرة الخير. مزيج الخيال والمبادئ الأخلاقية في العملين، كان يعلم الصغار أن العلم قوة عظيمة، ويجب استخدامه بحذر ومسؤولية.
أثر الكارتون على شخصية وسلوك الطفل
ساهمت مثل هذه الأعمال في تشرب الأطفال مفاهيم وقيما لم تكن تتطلب شرحاً مباشرا، بل عبر رسائل ضمنية تجسدها الشخصيات وتكشف عنها مواقف على قدر كبير من القيمة مثل أهمية الصداقة، مساعدة الآخرين، الشجاعة في مواجهة الصعاب، الحكمة في اتخاذ القرارات، ونصرة المظلوم، وغير ذلك من القيم الإنسانية الخالدة، التي استطاعت الشخصيات إيصالها بأيسر الطرق، جعلت منهم أبطالاً يمكن الاقتداء بهم في الحياة الواقعية. كما ساعدت، عبر ما تقدمه من تجارب متنوعة من عوالم مختلفة، على توسيع مداركهم، وجعلهم أكثر استعدادً لفهم الحياة وقبول الفروقات بين البشر، سواء كان ذلك من خلال حياة الريف التي عاشتها «هايدي»، أو مغامرات البحار في «السندباد»، أو حتى القتال من أجل العدالة في «جراندايزر» و»رعد العملاق»، حيث كانت أعمال كهذه تفتح أمام الأطفال نافذة على عالم آخر مليء بالخيارات والمسؤوليات. وتتضمن قيما سهل عليهم استيعابها، ما جعلهم أكثر تعاطفًا مع الآخرين، وأكثر تقديرًا للجمال في البساطة والعمل الجماعي.
خلاصة القول، إن هذا النوع من الأعمال لم يكن مجرد تسلية وحسب، بل وسيلة تربوية غير تقليدية من أفضل الوسائل التي عايشها الأبوان، بما تركته من بصمة عميقة في تشكيل هوية أطفالهم. حيث لا يمكن إنكار أن الكثير من هؤلاء الأطفال، الذين تحولوا إلى شباب اليوم، يتحلون بالكثير من القيم والأخلاقيات التي زرعتها تلك الرسوم المتحركة في نفوسهم.