»مصطفى علي
إنّها قرية لو سافرت إليها فإن أكثر شيء سيثير في نفسك التساؤلات منظر ذاك الكوخ المنعزل ذي اللون الأبيض المخالف لبقية الأكواخ، والذي ستجده أقرب البيوت إلى شاطئ البحر. كما ستجده محاطاً بحديقة من أروع حدائق القرية، والتي ترسو في ركن من أركانها عربة خشبية، وبالتحديد يسار الداخل من الباب. وبالقص الأيمن حيث شجرة توت مربوط في غصنها أرجوحة ومشدود إليها فرسٌ أصيلة شهباء اللون. وتلك الأرجوحة أنشأها صاحبا الكوخ لطفليهما الذي اعتقدا بأنه قد فارق الحياة بالرغم من أنهما يشكان في حدوث ذلك، ومع ذلك لم تبق منه سوى ذكراه الجميلة.
لقد صار أبواه يتخيّلانِه جالساً يلعب بلعبته المفضلة –الأرجوحة- ببراءة كما كان يفعل من ذي قبل، بينما ستشعر أنت بأن البيت وكأنه بيتك وكأنك سكنت فيه من ذي قبل، وسيشدك الحنين لتلك الأرجوحة التي ستجلس عليها، وبينما أنت تتأرجح بها ستتذكر أن هذه اللحظة لم تفُتك بل تعقّبتك ذات مرة.. ولكن أين؟ ومتى؟
وستظل تقلّب في ذكرياتك لترجمة ما يجول في ذهنك، لكنك لن تفهم شيئاً، لكن صدقني ربما كنت أنت ذاك الولد الذي اختفى في ظروف غامضة، فهو بالتأكيد لم يمت.. وإلا فأين جسده؟ وأين رفاته؟
وإذا ما صعدت قليلاً نحو الغرب فستجد سهلاً فائق الروعة، ستفترشه، ولنقل أنك مسيّر ولا تدري ما أنت فاعله، أفلا تشعر بأن يداً خفية لا تكاد تراها تحركك على هواها. ستنبهر بذاك الصوت الندي القادم من مكان لم تستطع تحديده إذ أنك ستلتفت في كل الاتجاهات حتى تعرف أن من كان يناديك هي الزهور التي دُسْتَ عليها وهي تدعوك لكي تقطفها وتستمتع بعبق أريجها، ولن تستطيع الرفض أمام سحرها، بل إن رفضت سترتكب ذنباً ربما يتسبب في إرجاعك من حيث أتيت أول مرة. وإذا ما اشتممت رائحتها حتما ستنتعش وستذب الشجاعة في أوصالك، وستضفي عليك روح المغامرة، ولن يهنأ لك بال حتى تحل لغز هذه القصة، وحتماً ستعيش أحداث قصة بطل القصة، ستراه في الوقت الذي لن يتمكن هو من رؤيتك، ولكنك لن تتمكن من مد يد العون له.
وعقب استنشاقك لعبير الزهور سترى أشجار التفاح تقترب منك أكثر فأكثر، وستقدم بين يديك ثمارها، متوسلة إليك أن تأكل منها، وأن تأخذ معك بعضاً منها لذاك الكوخ الأغر، لكنك لن تفهمها، فأنت لا تفقه لغة الشجر، وستظن نفسك في طور حلم. ستنسى نفسك للحظات، وستغفو تحت ظل شجرة، وعندما تزحف الشمس مقتربة منك ستوقظك بنعومة ودفء أصابعها، وسترى عندها ما يسر ناظريك، قطعان من الغزلان تحيطك، جواميس وأغنام، تتدلى من أعناقها أجراس توقظ في نفسك شيئاً ما طال سباته، ربما هي نشوة الحياة بعد أن أصابها الملل والفتور، وستطرب نفسك لعذب الألحان الذي تشجيه الأجراس. ستندفع وتنحدر من على السهل باتجاه القرية، وبينما هناك شيء ما يدفعك للحاق بالقطعان ستتوقف فجأة على منظر عجوز متكئ على عكازٍ مهترئ يكاد يقع به، سيشدك منظره وستدفعك الشفقة إلى الاقتراب منه كي تسأله، وقبل أن تفعل أنت ذلك سيسبقك وسيكون سؤاله لك وبدون أن تتحرك شفتاه: هل أنت أنا؟ ستهرع لهذا المنظر، وستنسى أنك أنت بمجرد تفكيرك في سؤاله، وعندها سينتقل إحساسك لجسده، وستعم الطفولة في أوصاله وستبقى أنت كما أنك لست بأنت، سيذهب العجوز بل الطفل تاركاً إياك وحيداً لقدرك المحتوم وسيبقى مصيرك معلقاً قد لا تجد له مرسىً إن صارت قصتك حكايةً يسردها الأجداد لأحفادهم، وعندها لن يفكر أحد بالاقتراب منك كي لا يأخذ مكانك، لذا ستظل تنتظر أحداً ليأخذ مكانك، ويحاول الاقتراب منك، وربما يكون ذلك بلا جدوى، فقد يطول انتظارك، عندها فلتؤمن بأنك لن تحيا ولن تموت.
سترى العجوز بل الطفل يدخل إلى ذلك البيت الذي طالما انتظرت كي ترى سكّانه، وسيخرج مسرعاً ليتجه صوب الجبال، ويصعد المنحدر إلى قمته وستشعر بأن التعب يدبّ في أوصالك مع أنك لم تبذل جهداً، وستراقب الصغير عن بعد يعتلي القمة، سيلوح لك بريق يتلألأ جراء انعكاس الضوء من الواجهات الزجاجية لقصور المدينة، مع أن الجبال تحول بينك وبينها، لكن لا تظنن نفسك بأنك فردٌ، بل إنك اثنان ، وأنك لست في مكان، بل في مكانين، وستكتشف لاحقاً بأنك لا تعاصر زمناً واحداً بل زمنين..