الإخفاقات الصغيرة والأخطار والبشائر و الموت توجه كتاباته وتفجرها ٫ممتلئ بالتفاصيل و الوجع وأسباب السرور.
يكتب الأشكال الشعرية كلها ، لكنه يؤمن بالحرية و التجدد ، وإنسان اليوم ومشروع غده المحتوم ، متطلع دوما لحيوية الحديث و المختلف و المفارق ، يرى بأن الفكر الذي يدعمه الفن هو الأطول نفسآ والأبقى في هذه الحرب المتعاقبة بين السلطة و الرأي .
تبنى في كتاباته حلم اخرين يعيشون داخله ، أولاد و كهول ورجال تائهين ، ونساء يبنين وسط الخرائب ، فكان كل ذلك تأويلا لوجوده ، وتفهمه لسبب وجدوى هذا الوجود و حدوده .
ويؤكد أنه ستظل دوما قضيته هي الإنسان وحلمه .
وهكذا يفهم الشاعر «صالح قادربوه » جدوى وجوده ..
التقته «مجلة الليبية »
وحاورته حول المأزق الذي وقعت فيه الكتابة الشعرية العربية !،
والجدوى من كتابة نص إبداعي في وقت صار فيه تشكيل الوعي رهن الأيدولوجيا التي يمررها الإعلام !، وما الذي أنتجه الشاعر الليبي بعد عقد كامل من الحرب !، وكيف يمكن توظيف تاريخ ليبيا لتصبح بؤرة إشعاع ثقافي و أدبي وفني .
حاوره :مصطفى حموده
ماحصل في ليبيا أتاح الحرية أولآ
ثم الفوضى المطلقة هذا بالتأكيد نتج عنه نصوص لكنها تحتاج ضرورة إلى النقد
هل كتابة النص الإبداعي في ليبيا ذات جدوى ..؟
بمعنى هل الكتابةة الإبداعية في “زمن مابعد الحقيقة ” أصبحت مؤثرة في الوقت الذي صار تشكيل الوعى رهن الأيدولوجيا التي يمررها الإعلام ؟
قادربوه : دأبت الكتابة الإبداعية منذ وجودها الأول على محاولة مقاومة الهيمنة الأيديولوجية ،وكانت مناهضة أساسا لإرساء حقيقة مطلقة تحقق تغول السلطه بمعنييها السياسي و القيمي ، فواجهت الفلسفات التى توجه الناس إلى تبني وجهة نظر «فولاذية»تحبس وتحاصر وتعاقب ، فكانت بذلك ملاذ الفكر الحر، حتى وإن كانت أسلحتها بيضاء وناعمه من خلال الفنون و الأدب ، وفلسفتها حيوية غير منظمة أحيانا ، فالمصير الإنساني تاريخيا ارتبط بمصادر تغذية النفس التي يوفرها الإبداع ، كما ارتبط للأسف بالنفوذ الأيديولوجي وأذرعته الإعلامية ،لكن القرائن دلت منذ القديم على أن الفكر الذي يدعمه الفن هو الأطول نفسا والأبقى في في هذه الحرب المتعاقبة بين السلطة و الرأي .
تتضح علاقة الشعراء العرب بالغرب كونها علاقة تابع لمتبوع، فلماذا يكتب شعراؤنا متأثرين بأولئك، خصوصا أن ما يميز تاريخنا كعرب هو أننا أهلٌ للشعر ولفن الكلام، وأن بيئتنا المنفتحة على الخيال والمخاضات العسيرة تجعل منا رواداً للكلام..؟ ما تفسير ذلك من وجهة نظرك..؟
قادربوه: المأزق الذي وقعت فيه الكتابة الشعرية العربية هو تقديس النموذج الجمالي وتجريم الخروج عليه؛ فصار بذلك اتباع المثال النقدي وأمثلته النصية –الذي يتقيد كذلك بوجهة نظر سائدة متعالية سلطوية وقاهرة– هو سجن النص الإبداعي عموما، وفي مقدمته الشعر.
كما أن محاولة تقليد نماذج من خارج الثقافة نفسها لم يكن ناجعا؛ فبدل أن تستوعب التجربة الشعرية العربية انحياز الشعر في ثقافات أخرى إلى الإنسان وزمنه وتحولاته وأسئلته وآماله وآلامه، قامت باستيراد طرائق الكتابة نفسها، بل وقلدت تجارب بعينها، ربما أحدث ذلك بعض الاختلاف لكن الأصالة الشعرية والصوت الإبداعي انحشر في الزحام، بين درب آمن يتمثل في التمسك بالشكل الشعري القديم وبين تقليد الآخرين.
الكتابة الآن بحاجة لوعي نقدي جاد ورجوع إلى الوجدان الشخصي والتواصل مع حياة الشخص وسط محيطه، مع وجوب التمسك بالحق الأصيل في الحرية الفكرية والاستقلال والجرأة.
محاكاة الآخر والتماهي مع نموذجه الشعري أصبحا هما معيار الجودة لكتابة النص الإبداعي، كما يقول الناقد العراقي عبد الله إبراهيم، في منتدى أصيلة الذي نظم مؤخراً، كيف تقرأ ذلك؟
الشاعر صالح قادربوه: نعم، هذا ما تحدثت عنه، إن فقر الحساسية المتصلة بعيش التجربة الخاصة وحرية الوقوع في الأخطاء والتفكير الفلسفي المستقل هو ما سبب هذا اللجوء إلى نماذج نجحت في إطار ثقافتها وأسئلة مجتمعها وزمنه وحركة إنسانه، بينما كان الأحرى هو صناعة كل كاتب كتابته الشعرية الخاصة، ومقاومة كل الضغوط الناتجة عن رفض اختياره الحر وشكل ذائقته ومنتجه العقلي الذي ينبغي أن يكون متفرداً.
الكتابة الآن بحاجة لوعي نقدي جاد ورجوع إلى الوجدان الشخصي والتواصل مع حياة الشخص وسط محيطه
مرّ عقد كامل من الحرب، هل أنتج الشاعر الليبي خلاله ما يمكن قراءته بموضوعية وشفافية وصدق، من قبل المهتمين بفهم منطقتنا من خلال الآداب والفنون؟.
الشاعر صالح قادربوه: تنتج حالات مماثلة دوما نصوصها، وهذا متوفر في الأدب العالمي دون استثناء؛ بيد أن ما حصل في ليبيا أتاح الحرية أولاً ثم الفوضى المطلقة، وهذا بالتأكيد نتج عنه نصوص لكنها تحتاج ضرورة إلى النقد، فحساسية هذا المشهد المقيد بهذه الشاسعة من الفوضى، والمتحرر من الرقيب القديم، ولكن المحاصر بأشكال رقابة قد تكون قاتلة، هي ما سيشكل كُتّابا وكاتِبات لهم ولكتاباتهم القيمة الممكنة، وكما ضحّى نجوم أدب عالميون انتصاراً لذواتهم ورأيهم وحلمهم وفلسفتهم سيتحتم أن تتم هذه التضحية من قبل هؤلاء الكتاب إن كانوا بالفعل حريصين على وجود ما يكتبون تاريخياً وتأثيره زمنياً، وللتضحية هنا وجوه وأشكال شتى، لكن ليس من بينها التضحية بالحرية والمعرفة والجدية.
من خلال مواكبتك لما يكتبه الشعراء الليبيون، من هو أكثر شاعر استطاع التعبير عن المعاناة التي يعيشها الناس، ويجب أن ننتبه لوجوده ونتمعن فيما يكتب؟.
الشاعر صالح قادربوه: حقاً ليس هناك تجربة يمكن أن تنعت بأكملها بأنها صوت الناس، فالشعر هو كتابة مختلفة تحكي وجدان الشخص نفسه عقلًا وشعوراً ورؤيا، وقد تتوافق سيرة هذا الوجدان الخاص مع القضايا العامة أو آلام وأحلام المجموعة أو المجتمع ككل، وقد يكون كل شعراء ليبيا مشتركين في أثر السيرة العامة وإن اختلفوا في تجاربهم الخاصة فردًا فردًا، ولعل الظرف التاريخي الذي تعيشه ليبيا وهيمنة الفوضى على المجتمع التي طالت حتى خياراته وقيمه وأفكاره؛ هو ما يعلل عدم وجود شاعر الجمهور ولا حتى شاعر وجدان جمهور ما، فالقيمة الإنسانية ممثلة في النظر للعالم عبر الذات، وأسئلتها هي سمة شاعر ليبيا اليوم، وشاعرتها.
نلحظ اهتماماً وميلًا نحو الثقافة البصرية على حساب المقروء منها.. بم تفسر ذلك؟.
الشاعر صالح قادربوه: لقد كانت الكتابة الشعرية متمحورة على الصور والمشهديات، ومازال لهذه العناصر قيمة كبرى بالنسبة لي، لكن إشكالية النظريات المتعلقة بالشعر أنها دوغمائية وإقطاعية حتى، فبالنسبة لي كل عناصر وجدان النص شكلًا ومضموناً تحمل الأهمية نفسها وتمنح النصوص ماء حياتها، إن انطلق الأمر في الأساس من الإنسان وحلمه وعالمه.
هل يمكن الحديث عن انتهاء الحرب بين أنصار القصيدة التقليدية ونظرائهم في القصيدة الحديثة، من ناحية الجدارة والاستحقاق؟
الشاعر صالح قادربوه: هذه الحرب إن وجدت اليوم فهي أرشيفية، لقد تقدمت الكتابة الجديدة منذ عقود فنيا، وذهبت الكتابة التقليدية إلى مكانها الأثير في الفولكلور، ولكل منهما جدواه وضرورته. المسألة لم تعد مسألة جدارة واستحقاق، فمازالت الشموع موجودة في عصر الكهرباء، لكن الحداثة لم تقم على ضوء الشموع بل على قوة المصادر التوليدية وديمومتها وموافقتها للجدة وتواصلها مع المعالجات. وجود نص تقليدي مفيد مناسباتيا وفي إطار الأنثروبولوجيا، لكن انفتاح واندفاع وحيوية النصوص الجديدة متعلق بقيمة سؤال الإنسان الحي الآن وعالمه ومصيره.
برأيك من الأكثر تعبيراً وتأثيرًا في هذا الوقت؟
الشاعر صالح قادربوه: أنا أكتب الأشكال الشعرية جميعها؛ لكنني مؤمن بالحرية والتجدد وإنسان اليوم ومشروع غده المحتوم، ومتطلع دوماً لحيوية الحديث والمختلف والمفارق، من حق هذا العصر أن تكون له بلاغة خاصة به، كما كان لعصور سابقة بلاغات قدسها كثير من المشتغلين بالأدب وناقشها الأحرار من علماء الأدب الجادين.
مازالت الشموع موجودة في عصر الكهرباء ، لكن الحداثة لم تقم على ضوء الشموع
هل يمكن الحديث عن وجود نقد أدبي في ليبيا يواكب المؤلفات الأدبية؟. وأين يكمن الخلل في ذلك؟
الشاعر صالح قادربوه: لا يمكن نكران وجود هذا النقد ولا يتسق الحكم بانتفائه، لكن وجوده غير فاعل، وتجاربه مبعثرة، وأصواته خافتة، تجامل أحياناً وتتراجع أحياناً ولا تبالي في أغلب الأحيان. ليس لدينا صحافة ثقافية جادة ولا محافل نقدية ولا جمعيات نقد ولا استقلال في الرأي النقدي إلا في تجارب محدودة، كل هذا ينتج تراجع تقديم المشهد بشكل صادق، ويوفر التخبط الذي تغيب فيه الجودة وجواب الأسئلة وتتبع الأساليب وتوجيه الكتابات غير الناضجة، إن هذا الحال هو كحال منظومة المعرفة في بلادنا التي يطالها التفكك والهشاشة وعدم التنظيم والهوى الخاص.
‘‘ما هي مرجعيتك التخيلية لبناء عالمك الإبداعي..؟ وما هي الينابيع التي تلهمك لإنجاز القصيدة؟’’.
الشاعر صالح قادربوه: حلمي هو مرجعيتي الأولى، بوصفي إنسانًا حياً في عالم حي بالقوة، حتى وإن تعطلت إرادته بالفعل. الآلام الإنسانية وصور التواصل بين موجودات الذات والوجود الواسع، والإخفاقات الصغيرة والأخطار والبشائر والموت كلها توجه كتابتي وتفجرها، وللشعر عندي ولع بالسينما والسرد والمسرح، إني ممتلىء بالتفاصيل والوجع وأسباب السرور لكني لا أحب التعقيد لذا لا أخوض مع الخائضين، وأتأمل مطولا قبل أن أقفز قفزتي الواسعة إلى أعلى التل، أو إلى الهاوية.
كيف يتجلى الوطن في قصائدك؟’’.
الشاعر صالح قادربوه: لعل سؤالًا كبيراً يختبئ خلف هذا السؤال: هل يمكن أن نجعل من الوطن مثالا وأن يكون نصنا عنه نموذجاً؟ في تجربتي كان الوطن في أطرافي وأغطيتي ونظرتي، لكنه ليس الحمل الثقيل والمبدأ الكبير والهوية التي لا محيد عنها، فأنا أفهم كينونتي عبر تنفسي صعودًا وهبوطاً، ولم يكن وطني يوما إلا داخل هذا الحزن الأصيل الذي لم يفارقني منذ كنت طفلًا، والذي لا معنى ولا بقاء لي بدونه، ليس وطني شعارا بل خطوة نحو مكان ما وتقاعس ضروري عن خطوة أخرى، إنه سفر شخصي، بارد جدًا وملتهب جدا ودائم.
هيمنة الفوضى على المجتمع التى طالت حتى خياراته وقيمه وأفكاره ،هو ما يعلل عدم وجود شاعر الجمهور ولا حتى شاعر وجدان جمهور ما.
ما هي القضايا الكبرى المضمرة التي تحملها قصيدتك؟
الشاعر صالح قادربوه: وُوجِهت في البدء ثم وُوجِهت معي قصائدي بجدار العقل، كان العقل الجمعي حائطاً مبكياً ومذبحا، لذا لم أكن تماماً منحازاً لهذا الجدار العدمي، فتمثلت قضيتي في حياة الإنسان الخاصة وحريته، وفي تخففه من أسئلة العالم العامة وقضاياه، فتفردت تلك القصيدة وكان حتمياً أن لا تفهم وتتهم وأن لا تلقى الاهتمام، فالقيمة دوما كانت للنجوم لا للأصوات القابلة للرفض. تبنيت في كتابتي حلم آخرين يعيشون داخلي، أولاد وكهول ورجال تائهين، بل ونساء يبنين وسط الخرائب، فكان كل ذلك تأويل وجودي نفسه، وتفهمي لسبب وجدوى هذا الوجود وحدوده، وستظل دوما قضيتي هي الإنسان وحلمه.
إشكالية النظريات المتعلقة بالشعر أنها دوغمائية و إقطاعية
هل تفكر في كونك قد تكون شاعراً منسياً، كغيرك من الشعراء الذين أهملهم الوطن، وماتوا يحملون حسراتهم في ضلوعهم..؟ هل انتابك هذا الشعور يوما ما أو مراراً؟.
الشاعر صالح قادربوه: نعم، حصل الأمر. أصبت مراراً بالحنق والخذلان والحسرة والثورة، لكن في زمن الفوضى وواقع التبلد لا قيمة للجودة والحياة وهذا هو السلوان، كلما تم رفضي ونسياني زاد يقيني بما أكتب وتمسكي بأحلامي، كان ذلك غرائبياً ومضحكاً لكنه كان عظيمًا. أن تبقى ثابتاً على مبادئك مؤمنا بتصورك لضرورة وروعة وأهمية الفن في بيئة التراجع والتحقير والتمييز والتيه والفراغ والغرور هو انتصار لذاتك أولًا ولكتابتك ثانيًا ولتاريخ الأدب ثالثاً.
دولة بحجم ليبيا التاريخي الممتد منذ آلاف السنين، لا يلحظ اهتمامها بالثقافة، كيف يمكن توظيف هذا التاريخ لجعل منطقتنا بؤرة إشعاع ثقافي وأدبي وفني؟.