الرئيسية / مقال / ذاكـــرة بلا جــذور

ذاكـــرة بلا جــذور

عتبة 

» نجاح مصدق 

تخيل‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬الرقمية،‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمل‭ ‬من‭ ‬عوالم‭ ‬سحرية‭ ‬ورؤى‭ ‬لا‭ ‬نهائية،‭ ‬قد‭ ‬واجهت‭ ‬يوماً‭ ‬لحظة‭ ‬الخفوت‭. ‬كأن‭ ‬الكلمات‭ ‬باتت‭ ‬كـطيور‭ ‬هائمة،تحلق‭ ‬بلا‭ ‬أعشاش‭ ‬بعدما‭ ‬انطفأت‭ ‬جذور‭ ‬البرمجة،‭ ‬وتاهت‭ ‬الأرقام‭ ‬في‭ ‬فراغ‭ ‬الصمت‭. ‬ماذا‭ ‬يحدث‭ ‬حين‭ ‬يفقد‭ ‬العالم‭ ‬ذاكرته‭ ‬الرقمية؟‭ ‬حين‭ ‬تنطفئ‭ ‬أعمدة‭ ‬الخوادم‭ ‬كسفن‭ ‬غارقة،‭ ‬تغمرها‭ ‬عتمة‭ ‬البحر؟

ماذا‭ ‬لو‭ ‬جاء‭ ‬زلزال‭ ‬مدمر‭  ‬أو‭ ‬إعصار‭  ‬بقوة‭ ‬مضاعفة‭ ‬عن‭ ‬إعصار‭ ‬دانيال‭ ‬يجوب‭ ‬العالم‭ ‬أو‭ ‬أسقطت‭ ‬الشمس‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬لهيبها‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الكوكب‭ ‬فأين‭ ‬ستذهب‭ ‬الكلمات‭ ‬الرقمية؟‮ ‬

لنعد‭ ‬قليلاً‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬كانت‭ ‬الكتابة‭ ‬الورقية‭ ‬مثل‭ ‬أوراق‭ ‬الشجر،‭ ‬تحتفظ‭ ‬بنبض‭ ‬الحياة‭ ‬مهما‭ ‬طال‭ ‬عليها‭ ‬الزمن‭.‬‮ ‬

علامة‭ ‬وأثر‭ ‬على‭ ‬لحظة‭ ‬تماه‭ ‬تاريخيّة‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬وأحداثها‭ ‬ونموذج‭ ‬حي‭ ‬على‭ ‬مراحل‭ ‬تطور‭ ‬البشرية‭ ‬ومحاولاتها‭ ‬الدائمة‭ ‬الباحثة‭ ‬عن‭ ‬الدهشه‭ ‬،‭ ‬فالأثر‭ ‬الباقي‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬الإنسان‭ ‬الأول‮ ‬‭ ‬على‭ ‬صخور‭ ‬الجبال‭ ‬والكهوف،‭ ‬ووثقه‮ ‬‭ ‬في‭ ‬أوراق‭ ‬الأشجار‭ ‬ليهبها‭ ‬الحياة‭ ‬ماظلت‮ ‬

أما‭ ‬الكتابة‭ ‬الرقمية،‭ ‬فماذا‭ ‬عسانا‭ ‬أن‭ ‬نصفها؟‮ ‬‭ ‬نجوم‮ ‬‭ ‬الليل‭ ‬البراقة،‭ ‬البعيدة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نعرف‮ ‬‭ ‬متى‭ ‬قد‭ ‬تنطفئ‭ ‬فجأة،‭ ‬تاركة‭ ‬فراغاً‭ ‬عميقاً‭ ‬في‭ ‬الكون‭.‬

ماذا‭ ‬سيكون‭ ‬مصير‭ ‬قصة‭ ‬صحافية‭ ‬تُكتب‭ ‬عن‭ ‬يومٍ‭ ‬قادم؟‭ ‬وفجأة‮ ‬‭ ‬توقفت‭ ‬لغة‭ ‬البرمجة‮ ‬‭ ‬كما‭ ‬يتوقف‭ ‬قلب‭ ‬الأرض‭ ‬في‭ ‬زلزال‭ ‬هائل‭.. ‬صحفي‭ ‬صغير‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬مكتبه‭ ‬في‭ ‬نيويورك،‭ ‬أو‭ ‬طرابلس‭ ‬أو‭ ‬تحت‭ ‬ركام‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬يحاول‭ ‬كتابة‭ ‬آخر‭ ‬مقال‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬تعجز‭ ‬فيه‭ ‬الأجهزة‭ ‬عن‭ ‬الاستجابة،‭ ‬شاشة‭ ‬حاسوبه‭ ‬أو‭ ‬هاتفه‭ ‬فارغة،وكلماته‭ ‬كأمطار‭ ‬تحاول‭ ‬النزول،‭ ‬لكنها‭ ‬تتبخر‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬الأرض‭.‬‮ ‬

ماذا‭ ‬لو‮ ‬‭ ‬كتبتها‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬أو‮ ‬‭ ‬حفرتها‮ ‬‭ ‬على‭ ‬حائط‮ ‬‭ ‬قديم‭ ‬يحدث‭ ‬نفسه‭ ‬متحسرا‭ ‬عن‭ ‬كلمات‭ ‬حبيسة‭ ‬وحروف‭ ‬معلقة‭ ‬مجهولة‮ ‬‭ ‬داخل‭ ‬قبر‭ ‬رقمي‮ ‬؟

الكتابة‭ ‬الرقمية،‭ ‬كزهرة‭ ‬الجليد،‭ ‬جميلة‭ ‬لكنها‭ ‬هشة،‭ ‬تفقد‭ ‬وجودها‭ ‬بمجرد‭ ‬ارتفاع‭ ‬الحرارة‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬تغير‭ ‬مناخي‭ ‬متوقع‭ ‬وقريباً،‭ ‬هي‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬رعاية‭ ‬مستمرة،‭ ‬وإلى‭ ‬عقول‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الحروف‭ ‬الرقمية‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬ترف،بل‭ ‬مسؤولية‭ ‬ثقافية،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬نحفظ‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬الرقمي،‭ ‬سيأتي‭ ‬يوم‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬أمام‭ ‬صحراء‭ ‬فكرية‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لها،‭ ‬كأن‭ ‬الكتب‭ ‬كلها‭ ‬أصبحت‭ ‬شمسًا‭ ‬غرقت‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬ولم‭ ‬يبقَ‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬ظل‭ ‬خافت‮ ‬‭.‬

فهل‭ ‬نحن‮ ‬‭ ‬نكتب‭ ‬لنبقى،‭ ‬أم‭ ‬أننا‮ ‬‭ ‬شهود‭  ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬‮ ‬‭ ‬الكلمات‭ ‬لفصلها‭ ‬الأخير‭ ‬واستحالتها‮ ‬‭ ‬لشبح‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الزوال‭ ‬الرقمي؟

شاهد أيضاً

اعوجــــاج لســـان العــــــــرب

 »  عفاف‭ ‬عبدالمحسن يقول‭ ‬الحطيأة‭ ( ‬الشعر‭ ‬صعبٌ‭ ‬وطويلٌ‭ ‬سُلَّمُه‭) ‬فهل‭ ‬لغة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬بالنسبة‭ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *