الحيـــاة هــــي الجمــــال والطيبــــة وليست الكراهيــــة والجشــع
» عطية صالح الأوجلي
كان ألكسندر جرمانوس ينتظر نضوج ابنه ببالغ الصبر ، فهو قد حقق نجاحاً اقتصادياً لا بأس به في تجارة الجلود وصناعة الأحذية ، وينتظر عون الابن
ومساعدته، غير أن الابن يوليوس كان يغوص أكثر فأكثر في عالم آخر، حيث كرس كل وقته وجهده لدراسة اللغات والتاريخ والنهل من الفنون والآداب.
هواجس الأب دفعته إلى الذهاب إلى أستاذ ابنه آرمين فامبيري،. كان الأب قلقاً من مسيرة ابنه لكن الأستاذ دافع عن مساعده الشاب قائلاً للأب «سيد جرمانوس، ابنك واعد جدًا. لا تعرقل مسيرته المهنية؛ دعه يدرس. لا تعتبر حاجته إلى الكتب حماقة..!! من فضلك ساعده، أضمن لك أنك لن تخيب».
كان ذلك اللقاء هو كل ما يحتاجه الابن ليتحرر من أحلام وضغوطات أبيه ولينطلق في عالم الفكر والأدب والاستشراق وليصير أحد أبرز علماء المجر في اللغات الشرقية والدين الإسلامي وتاريخ وفنون وآداب الشرق.
ولد يوليوس عام 1884 في بودابست أجمل مدن أوروبا آنذاك وملتقى أغنيائها ، تعلق وهو لا يزال طالباً بدراسة اللغات فتعلّم اللّغات الغربيّة: اليونانيّة، والّلاتينيّة، الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والإيطاليّة، والمجريّة، ومن اللّغات الشرقيّة: الفارسيّة والأورديّة، وأتقن العربيّة والتركيّة على يد أستاذيه: فامبيري، وغولد زيهر ، ثمّ تابع دراستهما بعد عام 1905م في جامعتي استانبول وفيينا. وصنّف كتاباً بالألمانيّة عن الأدب العثمانيّ (1906) ، نال عليه جائزة مكّنته من قضاء فترة مديدة في لندن، حيث استكمل دراسته في المتحف البريطاني.
وعاد 1912 أستاذاً للدراسات الشرقية في أكاديمية بودابست حيث علم تاريخ الفكر الإسلامي واللغتين العربية والتركية.
دعاه شاعر الهند الأكبر طاغور للقدوم للهند وتدريس التاريخ الإسلامي بجامعاتها ففعل ذلك بين عامي 1929و1932. وهناك أشهر إسلامه في مسجد دلهي الأكبر، وألقى خطبة الجمعة، وتسمّى ب ((عبد الكريم)). وقدم القاهرة وتعمّق في دراسة الإسلام على يد شيوخ الأزهر، ثمّ قصد مكّة حاجّاً وزار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم،
نشر في حياته عديد الكتب منها وصفه للحج بعنوان « الله أكبر»، و نُشر في عدّة لغات (1940) ، في مجلّدين: شوامخ الأدب العربي (1952) ، ودراسات في التركيبات اللّغوية العربيّة (1954). واُنتخب عضواً في المجمع الإيطالي(1952)، ومراسلاً للمجمع اللّغويّ بالقاهرة (1956)، وفي المجمع العلميّ العراقي (1962).
ويروي د. عبدالكريم قصة إسلامه قائلاً،. « وفي إجازة صيف كان من حسن حظّي أن أسافر إلى البوسنة وهي أقرب بلد شرقيّ إلى بلادي. وما إن نزلت بأحد الفنادق حتّى سارعت إلى الخروج لمشاهدة المسلمين وواقع حياتهم، حيث خرجت بانطباع مُخالف لما يُقال حول المسلمين، وكان هذا أوّل لقاء لي مع المسلمين. ثمّ مرّت بي سنوات وسنوات في حياة حافلة بالأسفار والدراسات، ومع مرور الزّمن تفتّحت عيناي على آفاق عجيبة وجديدة. كنت دائم الطواف في دنيا الله الواسعة ، أستمتع بروائع الآثار في آسيا الصغرى وسوريا، وأتعلم المزيد من اللّغات وأقرأ آلاف الصفحات من كتب العلماء، رغم كلّ ذلك فقد ظلّت روحي ظمأى. كان عطشي الروحي يزداد ،. كنت أتوق لمخرج ، وأبحث عن نور ما».
وفي أثناء وجودي في الهند، ذات ليلة رأيت ـ كما يرى النائم ـ كأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطبني بصوت عطوف: «لم الحيرة؟ ،. إنّ الطريق المستقيم أمامك مأمون ممهّد مثل سطح الأرض. سرْ بخطى ثابتة وبقوّة الإيمان»، وفي يوم الجمعة التالية، وقع الحدث العظيم في مسجد الجمعة في دلهيّ، حيث أشهرت إسلامي على رؤوس الأشهاد..
«كان التأثّر والحماس يعمان المكان، وقف الناس أمامي يتلقّفونني بالأحضان. كم من مسكين مجهد نظر إلىَّ في ضراعة، يسألني «الدعوات» ويريد تقبيل رأسي، فابتهلتُ إلى الله أن لا يدع هذه النفوس البريئة تنظر إليَّ- وكأنّي أرفع منها قدراً، فما أنا إلاّ حشرة من بين حشرات الأرض، أو تائه جادّ في البحث عن النور، لا حول لي ولا قوة، مثل غيري من المخلوقات التعيسة، لقد خجلتُ أمام أنّات وآمال هؤلاء الناس الطيِّبين، وفي اليوم التالي وما يليه كان الناس يفدون عليَّ في جماعات لتهنئتي، ونالني من محبتهم وعواطفهم ما يكفيني زاداً مدى حياتي».
في عام 1934، سافر جرمانوس إلى مصر والتحق بجامعة الأزهر . تمكن أثناء بقائه فيها من التعرف على أشهر الأدباء مثل محمود تيمور ، طه حسين ، محمد عبد الله عنان، الشاعر إبراهيم ناجي، توفيق الحكيم ، الروائي محمد حسنين هيكل ، و عباس محمود العقاد .
عاش جرمانوس حياة مثيرة مليئة بالانجازات فألف عشرات الكتب وألقى مئات المحاضرات وكان عضواً بالعديد من المحافل العلمية ومجمعات اللغات، رجع إلى بودابست حيث مات عام 1979 ودفن فيها ، وكانت آخر كلماته:
«أعتقد أن الكون خلق بفعل قوة أخلاقية قوية، وفقط الحب المجرد من الأنانية يستطيع الحفاظ عليه. الحياة هي الجمال والطيبة وليس الكراهية والجشع. ..».