هي مدينة شحات الحالية، تقع في وادٍ خصب في المنطقة الخضراء على بعد 10 كيلومترات شرق مدينة البيضاء، وتعتبر ثاني أكبر مدينة في الجبل الأخضر بعد مدينة البيضاء كما أنها من أجمل مدن ليبيا، وقد تحصلت في أحد التصنيفات على المرتبة الثالثة من بين أجمل عشر مدن في الوطن العربي. وتميزت أيضاً بمناخها وبيئتها الخصبة وكثرة عيون المياه الطبيعية بها، وتنوع النباتات والأشجار فيها، إضافة إلى أنها تقدر بأنها من أعلى المدن الليبية من حيث مستوى هطول الأمطار سنوياً لدرجة أنها وُصفت بالمدينة ذات السماء المثقوبة لغزارة مطرها.
»الخبير الأثري: رمضان إمحمد الشيباني
* تأسيس قورينا
في النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد واجهت جزيرة ثيرا « سانتورين حالياً» الإغريقية في بحر إيجة أزمة سكانية نتيجة لزيادة عدد سكانها وإصابتها بالقحط والجفاف. ولذلك اتفق أهلها على أن يهاجر قسم منهم للاستيطان في موطن آخر. وقد رأى أهل الجزيرة أن يستعينوا بالكهنة والعرافين بمعبد دلفي قبل الإقدام على هذه الخطوة. وقد أشارت عليهم كاهنة المعبد بالذهاب والاستيطان في ليبيا. وبناء على ذلك قام الثيرانيون باختيار فرد من كل أسرة بقرى الجزيرة السبع وفق شروط تضمن حقوقهم في حال فشلهم ورغبتهم في الرجوع وقد وردت تفاصيل هذه الشروط في نقوش لوح المؤسسين الموجود حالياً في متحف آثار شحات . وقد عهد بهذه الحملة إلى أريستايوس وقد لقب لاحقاً بباتوس وقد أبحرت الحملة في مركبين من ذوات الخمسين مجذافاً وقد كان عدد أفرادها في حدود المئتي رجل (دون نساء). ونظراً لأن الثيرانيين كانوا يجهلون موقع ليبيا فقد استعانوا ببحار من جزيرة كريت قادهم إلى شواطئ ليبيا.
ونزل الثيرانيون عند وصولهم ليبيا عام 639 ق.م بجزيرة بلاتيا (جزيرة بمبا الحالية) بخليج بمبا وأقاموا بها لمدة سنتين عانوا فيهما من شظف العيش. فعادوا مرة ثانية لاستشارة وحي دلفي الذي سخر منهم هذه المرة حيث إنهم حسب رأيه لم يقيموا بليبيا الفعلية التي يعرفها ويعرف غناءها. عندها رجعوا وقام الثيرانيون بالنزول والإقامة على الشاطئ الليبي في موقع يسمى أزيريس (يعتقد البعض أنه مصب وادي التميمي أو أم الرزم والبعض الآخر أنه وادي الخليج). وقد رحب بهم السكان الأصليون من قبيلة الجيلجيماي وسمحوا لهم بالزواج منهم ثم اقترحوا عليهم بعد إقامتهم بالموقع ست سنوات أن يدلوهم على مكان أفضل لإقامتهم حيث يوجد ثقب بالسماء دلالة على غزارة الأمطار. فقادوهم ليلاً حتى لا يروا إقليم إيراسا أخصب أراضي القبيلة (يعتقد أنه درنة الحالية أو عين مارة) إلى موقع فوق هضبة يوجد به نبع (سمي فيما بعد بنبع أبولو) وقد كان هذا الموقع يقع في أراضي قبيلة الأسبوستاي خارج أراضي قبيلة الجيلجيماي. وقد أُعجب الإغريق بهذا الموقع حيث المراعي والأراضي الزراعية كثيرة وأقاموا به مدينة قوريني أو قورينا(شحات الحالية )عام 361 ق.م. ويعتقد أن اسم قوريني (أو قورانا حسب لهجة الإغريق في ذلك الوقت) قد اشتق من اسم نبات الزنبق البري والذي يسمى عند السكان الأصليين نبات «القورا» والذي كان ينبت بكميات كبيرة في موقع المدينة. وقام الإغريق كذلك ببناء ميناء للمدينة على بعد حوالي 20 كيلومتراً شمال المدينة تطور لاحقاً ليصبح مدينة مستقلة سميت أبولونيا( سوسة الحالية).
أصبح باتوس قائد الحملة أول ملك على المدينة وعرف بباتوس الأول أو المؤسس (631 ق.م – 600 ق.م) وقد استمر حكمه مدة أربعين سنة واتصف حكمه بالعدل والاتزان. وخلفه في الحكم ابنه أركسيلاوس الأول (600 ق.م – 583 ق.م) والذي حكم لمدة ستة عشر عاماً كانت امتداداً لحكم والده. وبعد أن استقروا في شرق ليبيا سمى باتوس هذه المستوطنة الجديدة (سيرين أو قورينا ). بالإضافة إلى تسمية المستوطنة جعل باتوس جميع المستعمرين يقسمون اليمين. هناك نقش مؤرخ من القرن الرابع قبل الميلاد والذي يحتوي على اليمين الأصلية،. على الرغم من أنه لا يُعرف إلا القليل عن عهد باتوس إلا أنه بدا أنه يحكم باعتدال . كما يبدو أنه حاكم قوي ونجح في ترسيخ مستعمرة والاستفادة من البيئة المحيطة الطبيعية وكسب ود السكان الأصليين .
أهم معالم المدينة
تتميز مدينة شحات بغزارة معالمها، لعل من أهمها المتحف والذي يعد الأكبر للمنحوتات في ليبيا إذ يحتوي على حوالي مئتي قطعة أثرية نادرة لعلّ أبرزها تمثال الحسان الثلاث الذي يبرز جمال آلهة الحسن والبهاء في الحضارة الإغريقية إضافةً إلى الموقع الأثري المسمى بالحرم الديني الذي يشمل البوابة الإغريقية ومبنى مجلس القادة (السترتيجون) وبوابة الحرم الرومانية النافورة الهلنستية ومعبد هاديس ومعبداً لمؤله مجهول ومعبد جايوس ماجنوس ومعبد أبولو ومذبح معبد أبولو وعمود براثوميديس ونافورة الحورية قورينا ومعبد أرتميس ومذبحه ومعبد هيكاتي والمسرح الإغريقي الذي تحول إلى إمفتياتير في العصر الروماني وكان للمدينة 6 مسارح وهو من غير المعتاد أن تجد في مدينة هذا الكم من المسارح فقد كانت هناك نهضة فكرية وفنية غير معتادة
كما تحتوي المدينة على الفورم أو الميدان العام وأهم معالمه هو المسرح الهلّنستي أو الأوديون. وجدار نيكوداموس وحمامات تراجان.
وفي منطقة التل الشرقي يقع معبد زيوس وحلبة سباق الخيول إضافة إلى منطقة مقابر قورينا التي تتكون من مجموعة كبيرة من المقابر المتنوعة.
معبد زيوس
يعد أكبر معبد إغريقي في ليبيا خصص لزيوس كبير الآلهة الإغريقية. وهو أكبر حجماً من البارثينيون في أثينا. يعتبر المعبد ثاني أكبر المعابد على لائحة المعابد المخصصة لعبادة كبير الآلهة اليونانية بعد معبد ومذبح «زيوس» و«هيرا» بمدينة أوليمبيا المقدسة.
تاريخ تشييد المعبد يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد حيث تم تشييده آنذاك بأعمدة ضخمة على الطراز الدوري الكلاسيكي وتم هدمه عقب تمرد اليهود في المدينة بين عامي 116 – 117 بعد الميلاد. حيث أُعيد بناؤه على يد الإمبراطور كومودوس وتبلغ مساحة المعبد 70 . 32 متراً وبصفين من الأعمدة الدورية الكلاسيكية. كان بالمعبد تمثال لزيوس حجمه أكبر من حجم الإنسان الطبيعي باثنتي عشرة مرة . وفي العصر الروماني قدم الإمبراطور أغسطس نسخة طبق الأصل لتمثال زيوس الشهير الذي نحته النحات الشهير فيدياس لم يتبق منه سوى الرأس وبضعة أصابع من اليد وهي معروضة في متحف المنحوتات في شحات .
السلفيوم
اكتشف الإغريق هذا النبات منذ وصولهم إلى ليبيا فى جزيرة بلاتيا الواقعة فى خليج بمبا وهناك نص «ثيوفراستوس» القائل بأن السلفيوم كان قد ظهر قبل سبع سنوات من تأسيس مدينة قوريني سنة 631 قبل الميلاد.وانقرض من عهد بليني الأكبر و يصفه ثيوفراستوس بأنه نبات حولي ذو جذور غليظة ممتلئة و ساق سميكة وأوراقه تشبه ورق الكرفس وأوراقه تفتح في فصل الربيع وأهمية النبات فى عصارته التي يتم استخلاصها من الجذر أو من الساق.
ولقد ذكره أبوقراط بفوائده الطبية الشفائية حيث استعمل طبياً في تركيب الأدوية ونجد الطبيب الشاعر نيكاندر القولوفوني فى القرن الثاني ق. م قد ذكر السلفيوم في قصيدته كونه نوعاً من الترياق الذي يشفي من السموم .. وكذلك استخدم لعلاج أمراض أخرى كالصداع والحمى والاسنان والعيون .. كما انه استخدم كنوع من التوابل النفيسة .
ونظراً لأهمية هذا النبات كانت الدولة تحتكره و تصدره إلى مختلف أرجاء العالم القديم و قد وجد على صحن للملك اركسيلاوس أحد ملوك قورينا الذي بخزنة الأوسمة فى المكتبة الوطنية بباريس و هو يشرف بنفسه على وزن السلفيوم و كان يباع بوزنه فضة وأحياناً ذهباً .
كذلك عثر في مدينة «شوية» على تماثيل فخارية لنساء يحملن نبات السلفيوم و بلغت شهرة السلفيوم حيث اتخذ رمزاً لقورينا و نقش على نقودها التي أصدرتها في مختلف العهود وهذه كلمات تغنى بها الشاعر الروماني ( كاتلوس) لحبيبته ليبيا :
« ما أروع أرضك ياليبيا … و ما أكثر مباهجك
هناك يجود السلفيوم بعصيره في قورينا.
و هناك معبد آمون المثير …وهناك قبر باتوس المقدس
مدينة شحات الليبية تمنح جائزة السياحة العالمية
في سنة 2009م تحصلت مدينة شحات الأثرية على جائزة السياحة العالمية كأفضل معلم أثري سياحي في معرض لندن السياحي من بين أكثر من 160 مدينة في العالم حيث أعلن أن مدينة شحات مدينة للتنمية المستدامة بهدف المحافظة على قيمتها التاريخية وصيانة وترميم معالمها. حيث اعتبر مانحو الجائزة أن هذه المدينة نموذج متكامل للمدينة الأثرية على مستوى شمالي افريقيا وخاصة لجهة محافظتها على تراثها الحضاري وحسن إدارتها وإن هذه الجائزة تمثل تقديراً لقيمة المدينة الأثرية الحضارية ومقوماتها السياحية. وفي عام 1982م تم الاعلان عن تسجيل مدينة قورينا بمنظمة اليونيسكو كموقع تراث عالمي .
قورينا مدينة الفلسفة والعلوم
ازدهرت الحياة الفكرية والثقافية في قورينا خلال العصر الإغريقي بكافة جوانبه من بداية الاستيطان الإغريقي لمنطقة الجبل الأخضر وتأسيسهم مجموعة من المدن، وظلت هذه المدن تحت السيطرة الإغريقية فترة طويلة من الزمن بدأت بحكم أسرة باتوس ثم حكم الارستقراطية الإغريقية بالمنطقة وأخيراً آلت هذه المدن إلى حكم البطالمة بعد أن استولى الإسكندر المقدوني على منطقة وادي النيل عام 332 ق. م وظلت المنطقة بذلك تحت حكم الإغريق إلى أن سلمت إلى الرومان عام 96 ق. م. لقد كانت هناك حضارة وثقافة في المنطقة قبل قدوم الإغريق إليها فالنصوص والرسوم والنقوش المصرية الفرعونية ساعدت على التعرف على بعض معالم حضارة وثقافة الليبيين. وازدهرت الحركة الفلسفية والعلمية والأدبية في المدن الإغريقية في ليبيا، ومن مظاهر هذا الازدهار: – انتشار مختلف العلوم الفلسفية والرياضية والفلكية والجغرافية والطبية وغير ذلك من مجالات الفكر والحياة كما انتشرت مختلف الآداب من شعر ونثر ومسرح وما إلى ذلك. وقد استفاد الإغريق في الإقليم في نهضتهم الثقافية والفلسفية والعلمية والأدبية مما تحقق وكان يتحقق في بلدهم اليونان الأم من نهضة ثقافية وفلسفية وعلمية وأدبية، وأنتجت هذه النهضة كثيراً من الفلاسفة والعلماء والأدباء الذين ينتمون إلى قوريني ويعتزون بانتمائهم إليها إذ صارت قورينائية أحد المراكز الثقافية في حوض البحر الأبيض المتوسط شهيرة بعلمائها من جغرافيين وفلاسفة وأدباء وشعراء وأطباء ورياضيين نالوا الجوائز الأولى في بلاد الإغريق، وخلقت صفحات خالدة في تاريخ الفكر الإنساني وأعطت للثقافة و الفكر أسماء لامعة في العالم القديم في ميدان الفلسفة و الرياضيات والأدب وقد استطاعت مدينة الإسكندرية بما حققته من نشاط اقتصادي وثقافي أن تجذب إليها علماء قورينا وفلاسفتها وأدباءها، وتكون قوريني قد ساهمت في نهضة الإسكندرية في العصر الهلينستي. وظلت قورينائية تواكب بلاد الإغريق نفسها في حضارتها وازدهارها . وبهذا تكون قورينا قد ساهمت في الحياة الفكرية للعالم اليوناني القديم من خلال فلاسفتها وعلماء الرياضيات المشهورين إذ ازدهرت الفلسفة في هضبة برقة من خلال مدرستها الفلسفية الخاصة إذ نشأت في قورينا مدرسة “Cyrenaics” الصغيرة السقراطية التي أسسها Aristippus، والذي ربما كان صديقاً لسقراط.
كانت قورينا أيضاً مسقط رأس إراتوستينس، الذي حدد محيط الأرض، كما تمّ اكتشاف تماثيل فلاسفة وشعراء وتمثال نصفي لديموستينيس في قورينا، مما يدل على الثقافة العظيمة التي ازدهرت في هذه المنطقة من شمال إفريقيا، التي زارها أفلاطون في إحدى الفترات.
وقد قدمت قورينا نماذج رائدة في مجالات العلم والمعرفة والفنون للعالم فمن لا يعرف الفيلسوف القوريني أرستيبوس مؤسس الفلسفة القورينائية أو فلسفة اللذة التي من رموزها الكبار الفيلسوف كرينادس الذي يعتبر من كبار الفلاسفة أصحاب الدعوة إلى الحرية الإنسانية والعالم ، والفيلسوف والفلكي إيراثوستينيس الذي كان تلميذاً لكاليماخوس وتسلم منه إدارة مكتبة الإسكندرية والذي ينسب إليه أنه أول من قاس محيط الأرض وكان يسمى بالخماسي كونه كان ضليعاً في خمسة علوم.