بين الوصفة والوصية جسد التيباوي يبحث عن خلاصه
بشكل الطب التقليدي جزءا لا يتجزأ من التراث الإنساني عبر مختلف الثقافات، حيث اعتمدت المجتمعات منذ القدم على خبراتها ومعارفها الطبيعية لمواجهة الأمراض والإصابات. في ليبيا، يحتل الطب الشعبي مكانة خاصة، لا سيما لدى شعب التبو، الذي حافظ على إرثه الطبي المتناقل عبر الأجيال ليصبح جزءا أصيلا من هويتهم.
ويقدم خبراء الطب الشعبي التباوي خدماتهم العلاجية مجانا، مستندين إلى خبرة طويلة ومتوارثة، ما جعل هذا التراث الطبي ركيزة أساسية في ثقافة المجتمع التباوي..
لحقيق : منى توكا
ويعد شعب التبو من الشعوب الأصلية في جنوب ليبيا، ويمتلك تاريخا غنيًا يمتد عبر الصحراء الكبرى. لعب الطب الشعبي دوزا محوريا في حياتهم اليومية، فكان جزءا عن استراتيجياتهم التقليدية للتكيف مع قسوة البيئة.
لقد حافظ التبو على نظام طبي فريد يُعرف ب «الطب لشعبي التباوي، الذي ينتقل عبر الممارسة والخبرة، ولا يقتصر على مجرد علاج الأمراض، بل يعكس فهفا عميقا للبيئة المحيطة، جامغا بين الأعشاب والمعادن والأدوات البدائية وحتى الجراحة التقليدية، ليشكل منظومة علاجية متكاملة.

الطب التقليدي بين الثقافة والضرورة
يؤكد الدكتور سالم إبراهيم قرصدى أن «الطب التقليدي هو جزء أصيل من ثقافة شعب التبو، مثله مثل سباقات الهجن التي تحمل في طياتها تاريخ الشعب التباوي في الصحراء الليبية.» ويضيف أن هذه الممارسات لا تُمثل ماضيًا عفا عليه الزمن، بل تُعمد حملا أوليًا وضروريًّا قبل اللجوء إلى المستشفيات، خاصة في المناطق النائية التي تفتقر إلى الخدمات الصحيحة الحديثة.
ويشير د/سالم إلى أن اللجوء إلى المعالجين الشعبيين ليس مجرد عادة، بل خيارا تفرضه الظروف البيئية والاجتماعية والاقتصادية. فالمجتمع التباوي يثق بالخبرات المتوارثة، كما أن الوصول إلى المستشفيات الحديثة ععب، والطب الحديث قد لا يقدّم دائمًا النتائج المرجوة، بالإضافة إلى المخاوف من الاثار الجانبية وارتفاع التكاليف.
ويختم قائلًا: «في الماضي، لم يكن أمام الناس سوى الطب الشعبي، الذي وكان يمثل خط الدفاع الأول ضد الأمراض والإصابات.»
أدوات وأساليب علاجية بدائية لكنها فغالة
اعتمد الطب الشعبي التباوي على أدوات تم ابتكارها أو اكتشافها للحاجة.
ورغم بساطتها، كانت هذه الأدوات فعالة في علاج الكثير من الحالات الطارئة. ومن أبرز هذه الأدوات:
. الميسم الحديدي: يستخدم للكي.
. المشفاة الحديدية الحادة: تُستخدم لخلع الأسنان اللبنية.
. قوارير الحجامة: تُصنع من قرون الحيوانات أو الزجاج.
. المشرط المذبب: يُستخدم لجراحة اللوز.
. أغصان بعض الأشجار: تستخدم لتجبير الكسور.
وتغطي المعالجة الشعبية مجموعة واسعة من التخصصات مثل الكي لعلاج الآلام، وجراحة الرأس وتثبيت الكسور، وتجبير الكسور في الأطراف، والحجامة لعلاج آلام الظهر والرآس، وخلع الأسنان اللبنية للأطفال، والعلاج بالأعشاب والأملاح، إضافة إلى الجراحة العامة للتعامل مع حوادث الاعتداء والجروح الخارجية.
أمراض محلية وعلاجات محددة
يؤكد د. سالم أن “الطب الشعبي التباوي يمتلك منظومة علاجية متكاملة للأمراض التقليدية، وهي أمراض تحمل أسماء محلية متوارثة عبر الأجيال.» ومن أمثلتها: صبراه، مصازنوا، لاهاه، كشاه، أرفيه، مهانوا، ويانوا . كما توجد
أمراض مثل لوصكناه وأوراه
ويوضح أن لكل مرض وصفة محددة تعتمد على الأعشاب والأملاح والزيوت الطبيعية، مع الالتحزام بجرعات وفترات علاج دقيقة.

أمثلة على الأعشاب المستخدمة:
. الشيح (أداسورا): للالتهابات والمشاكل الباطنية . نبات السعد (ضبيي سورا): للالتهابات الجلدية والفطريات.
. خروب (قوبر): كمطهر طبيعي أثناء الولادة.
- الكرّاث (اللبصال): لتخفيف الالتهابات الصدرية
- دوم (صابو): للمشكلات الروماتيزمية.
- التمر الهندي (تمسكوا): لدعم التئام العظام.
ويشير د. سالم إلى أن بعض الأملاح مثل أوروي (العطرون)، وشبا (عشبة الشيبا)، تستخدم لتقوية الجسم وعلاج الأمراض الباطنية. فيما تقوم الزيوت الطبيعية مثل زيت الماعز وزيت البقر وزيت الزيتون بدور مهم في علاج مشكلات الجهازين التنفسي والهضمي، وتخفيف الالام المزمنة، وتحسين الدورة الدموية.
ويضيف أن “الطب الشعبي التباوي يعكس معرفة عميقة وخبرة متراكمة، ويُظهر قدرة الإنسان على التكيف مع البيئة الصحراوية باستخدام موارد الطبيعة، مع الحفاظ على إرث صحي متوارث.»
لولادة والأمراض في الطب الشعبي: حكمة الأجداد يقول د. سالم إن “الولادات في الماضي كانت تتم تحت شجرة نخيل أو في أماكن طبيعية مفتوحة، بسبب غياب المستشفيات أو الأختصاصيين.
“ويضيف أن عشبة القرض كانت جزءًا أساسيًا من طقوس الولادة التقليدية، حيث تطحن وتخلط بالماء لغسل المولود الجديد، لما لها من خصائص مطهرة ومضادة للبكتيريا.
ويوضح أن القابلات التقليديات كنّ يقصصن المشيمة وينظفن الطفل بعد الولادة لحمايته من الجراثيم، ما يعكس وعي المجتمع بأهمية النظافة رغم بساطة
الإمكانيات.
وعن علاج أمراض البروستاتا التقليدي، أشار د. سالم إلى أن الأهالي كانوا يستخدمون براز وبول حيوان الوبر الصخري، حيث يُسخن ويُوضع في الماء ليُشرب للمصابين باحتباس البول، ما يساعد على تخفيف الأعراض.
ويختتم الدكتور سالم قائلا: “هذه الممارسات التقليدية تعكس حكمة وتجربة الأجيال السابقة في التعامل مع الولادة والأمراض، وتظهر كيفية التكيف مع البيئة
الصحراوية الصعبة.”

جراحة المخ والأعصاب التقليدية
يصف د.سالم الطب الشعبي التباوي بأنه «إرث إنساني فريد»، ومن أبرز تخصصاته النادرة “داهو الندريي” أو جراحة المخ والأعصاب التقليدية.
ويضيف أن هذا التخصص، الذي يُمارس لدى قبائل التبو في تشاد والنيجر وليبيا، لم يُسجل وجوده لدى أي شعب آخر في الصحراء الكبرى. وقد نشأ نتيجة طبيعة المجتمع الجبلية والنزاعات التي كانت تستخدم فيها العصي، ما أدى إلى كثرة إصابات الرأس وكسور الجمجمة.
ويشرح أن هذه الجراحات “تجرى في الصحراء بعيدًا عن المستشفيات ودون تخدير أو أطباء متخصصين، وباستخدام أدوات بسيطة مثل الموس والسكين، ورغم ذلك حققت نتائج مبهرة.”
ويستذكر لقاءه مع الطبيب الشعبي الشهير شوها كردي، الذي ورث هذا التخصص عن أجداده، وأجرى أكثر من 25 عملية جراحية ناجحة لفتح الرأس ومعالجة كسور الجمجمة، وما زال العديد من مرضاه على قيد الحياة. ويؤكد أن شوها كردي يلتزم بأخلاقيات عمل واضحة، وينفي تمامًا وجود أي طقوس أو شعوذة.
كما أشار إلى الطبيب الراحل أديلي أبّاي، الذي كان من أشهر جراحي المخ والأعصاب التقليديين، وقد أثبت مهارته أمام الفرنسيين عندما طلبوا منه إجراء عملية لجَدي (ماعز)، فنجح فيها ببراعة.
لماذا يختار الناس الطب التقليدي؟
عن أسباب توجه السكان إلى الطب التقليدي، يوضح الدكتور سالم عدة عوامل: “أبرزها التمسك بالعادات والتقاليد، وسهولة التواصل مع المعالج الشعبي،
وفشل الطب الحديث أحيانًا في علاج بعض الأمراض المستعصية مثل السرطان وأمراض المناعة الذاتية، إضافة إلى الآثار الجانبية للعلاج الحديث، وارتفاع
التكلفة وصعوبة التنقل.”
ويختم: “جراحة المخ والأعصاب التقليدية في مجتمع التبو ليست مجرد ممارسة بديلة، بل هي دليل على قدرة الإنسان على التكيف والابتكار في أصعب الظروف، وحفاظه على إرثه الطبي عبر الأجيال.»
مع استمرار غياب الدولة
الطب التباوي يتحول إلى وزارة صحة بديلة
الطب الشعبي التباوي:
إرث وحل تكميلي
تعد جميلة التباوي، فنية مختبر وناشطة اجتماعية، الطب الشعبي التباوي «إرثا صحيًا غنيًا وحكمة متراكمة عبر الأجيال.» وتضيف أن الكثير من العلاجات الحديثة تعتمد على مستخلصات الأعشاب نفسها التي بستخدمونها.
وتذكر أمثلة على الأعشاب المستخدمة:
. التمر الهنمدي (الوه): علاج فعال لمرض السكر، ويُستخدم لنزلات البرد والاحتقان، ويقوي المناعة.
. الشيح (الادي سور): يُستخدم لعلاج الالتهابات وطرد الفيروسات، ويربط على معصم الأطفال حديثي الولادة كتقليد لحمايتهم.
. الصمغ العربي (الموغيي): يُستخدم لعلاج أمراض الكلى، وتقوية المناعة، وطرد الفيروسات، ويُعتقد أنه يقوي الشعر.
• عشبة القرض (الغوور): تُستخدم كمطهر للفم والأسنان، وللكلى والجهاز التنفسي، وتساعد في حالات الاختناق.
وتختم جميلة موسى قائلة: “الطب الشعبي ليس مجرد تقليد، بل هو علم متكامل قائم على التجربة والخبرة، وهذا ما يؤكده أن أغلب العلاجات الحديثة في جوهرها مستخلصة من هذه الأعشاب.”
سوكا بازنكة:
خبرة طويلة في علاج الأطفال
تمارس السيدة سوكا بازنكة الطب الشعبي في مدينة أم الأرانب منذ أكثر من اثني عشر عامًا، متخصصة في علاج الأطفال الرضع. وتقول: «أتعامل مع الأطفال من عمر ثلاثة إلى ستة أشهر، وأقوم بخلع جذور الأسنان اللبنية باستخدام المشرط، خصوصًا للأطفال الذين يعانون من الام البطن والإسهال المستمر.» وتوضح أن المعالجين الشعبيين يصفون هذه الحالات ب
“زونداه”، ويُعتقد أن الأسنان الناشئة هي السبب.
تتم العملية بتفحص دقيق للفم، وإذا ظهرت الأسنان بيضاء عند الضغط عليها، يتحم خلعها بعناية. وبعد الخلع، يُستخدم محلول من عشبة الشيح (أداسوروا)
لتطهير المسكان.
وتشير بازنكة إلى وجود معالجين متخصصين في خلع الكتفين، وعلاج مشكلات الحلق والألواز، وحالات فتق البطن، والصرع المبكر، والكسور.
تنويه من منظور الطب الحديث:
معظم الأطفال تنمو لديهم الأسنان بشكل طبيعي دون الحاجة للخلع، ولا توجد أدلة علمية تؤكد فعالية هذه الطريقة، لكنها تظل جزءًا من التحراث الطبي الشعبي
التباوي.
إرث الفصد التباوي
نروي كانجي موسى (90عامًا) خبرتها في ممارسة الفصد: «كنا نفعل الفصد للأطفال بين الأذن والعين منذ صغرهم، ونؤمن أنه يطرد الدم الفاسد ويحمي من الصداع والرمد.»
وتضيف: «لم نسجل أي حالات تعرضت لمضاعفات، فالفصد يبقى آمنًا ما دام المشرط نظيفًا ويُستخدم
بعناية.
استمررنا على هذه العادة عبر الأجيال، والفصد يظل جزءًا من تراثنا.»

تجربة شخصية:
الطب الشعبي أنقذ طفلي
تروي فاطمة كونما أنها لجآت إلى الطب التقليدي بعد فشل الطب الحديث في علاج طفلهما، فاستعاد صحتحه.
وتقول: «لدينا أطباء من التبو ومستشفيات، لكن لا نستطيع أن نتحرك العلاج التقليدي
فمثلًا، قص لسان المزمار، وهو إجراء غير متوفر في الطب الحديث، أنقذ قريبًا لي كان يعاني صعوبة في البلع، فقد انتهت كل مشاكله بعد أن خضع لهذا الإجراء التباوي.”
صداع مزمن وعلاج تقليدي
عانت زينب سعيد (68 عامًا) من صداع مزمن لم يتمكن الطب الحديث من علاجه. بعد أن زارت طبيبًا شعبيًا، اكتشف أن الصداع مرتبط بضربة قديمة. قام بحلق جزء من شعرها وكي المنطقة المصابة، ومنذ ذلك الوقت، أي منذ 15 عامًا، لم تشعر بالألم مجددًا. هذه التجربة تظهر كيف يعتمد البعض على الطب الشعبي لمعالجة مشكلات صحيمة يصعب على الطب الحديث تفسيرها.
التراث الطبي بين الماضي والحاضر
يختتم الدكتور سالم إبراهيم قرصدي حديثه بالتأكيد على أن «الطب الشعبي التباوي ليس مجرد علاج جسدي، بل منظومة متكاملة تشمل المعرفة العشبية، الجراحة التقليدية، والإسعافات الأولية، ويعكس حكمة التبو في مواجهة تحديات بيئتهم القاسية.» ويشير إلى أن العلاقة بين الطب التقليدي والحديث أصبحت محل اهتمام عالمي، حيث أدركت السلطات الصحية ومنظمة الصححة العالمية أهمية الطب البديل ووضعوا بروتوكولات لتنظيمه بشكل آمن.
ويختم بقوله: “الطب الشعبي التباوي يجمع بين الحكمة القديمة والخبرة العملية، ويظل إرثا حيّا ومصدر فخر لأجيال التبو، كما يشكل حلًا تكميليًا وفعالًا في بعض الحالات إلى جانب الطب الحديث.»
Share this content:
إرسال التعليق