حين ضاقت النوافذ وتكلّمت الجدران..
ليس من المبالغة القول إن العمران مرآة لروح الإنسان، وحين كانت البيوت الليبية القديمة تنبض بالحياة، تتنفس الضوء والهواء، وتصمم بحكمة تنسجم مع المناخ والخصوصية، أصبحت المدن ليوم تبنى على عجل، وتكذس كتلا إسمنتية صامتة، تخنق ساكنيها أكثر مما تأويهم.
من الحوش والمناور، إلى الشرفات المسدودة والغرف المظلمة!.. فقد شهد النمط المعماري الليبي تحوّلا دراميا، تغذيه الحروب والنزوح والضغط السكاني، وتغذيه أكثر غياب التشريعات والرؤية العمرانية المتكاملة. وبينما نغلق نوافذنا، نخسر شيئًا فشيئا التهوية الطبيعية، وضوء الشمس، والفسحات التي تمنح للعيش معناه.
البيت الليبي
الهندسة على مقاس الضوء
استطلاع: منى الشلحي
في هذا السياق، تصبح الأسئلة حول الراحة والكرامة والجمال، أسئلة معمارية بامتياز، فهل يمكن استعادة التنفس في بيوتنا ومدننا؟ وهل يكفي الحديث عن قوانين وتوصيات، دون إعادة النظر في ثقافة البناء ذاتها؟
إن معالجة الإشكاليات المرتبطة بالتوسع العمراني والعشوائيات لا يمكن أن تعتمد فقط على التحليل النظري أو القرارات المركزية، بل تتطلب فهمًا عميقًا للواقع اليومي وتعقيداته. ومن هذا المنطلق، سعينا في هذا الاستطلاع إلى تناول الظاهرة من مختلف جوانبها، تحليلا وتشخيصًا، مستندين إلى المعايير الحضرية والتجارب المقارنة. ولأن الأسئلة أكثر تعقيدًا من أن تُجاب نظريًا فقط، ولأن الواقع العمراني يتجاوز ما تكتبه الأقلام وتقرّه النصوص، رأينا أن نستكمل هذه الرؤية من خلال لقاءات مع من خبروا الميدان، من مهندسين ومخططين ومعماريين، لنتلمس من خلالها تشخيصاتهم للمشكلة، واقتراحاتهم للمعالجة.

لذا كان لنا لقاء مع الدكتور فوزي عقيل.. عميد مدرسة العلوم التطبيقية والهندسية بأكاديمية الدراسات العليا فرع الخمس، الذي حدثنا عن أزمة التخطيط العمراني في ليبيا نحو منظومة حضرية متكاملة ..وأفادنا قائلا:
عندما نتحدث عن التخطيط العمراني في ليبيا لا بد أن نبدأ من الواقع الراهن الذي تعيشه مدننا حيث التمدد العشوائي وضعف الخدمات وتفكك البنية التحتية أصبحت سمات بارزة في المشهد الحضري. هذا الواقع لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة لتراكمات طويلة من السياسات غير المتوازنة، وغياب منظومة تخطيط حضري فعالة تستند إلى قواعد ومعايير واضحة.

للأسف، في كثير من الأحيان، كانت الخطط الحضرية مجرد وثائق تُعدّ لتملأ الأدراج، دون تنفيذ فعلي على الأرض. كما أن عمليات التنفيذ – إن حدثت _ كانت تخضع لتوجهات سياسية ومناطقية ضيقة، لا تعبر عن رؤية وطنية شاملة. وبالتالي، لم يتم احترام المعايير الحضرية التي تضمن جودة الحياة، مثل نسب توزيع الخدمات، الكثافة السكانية، والربط بين مكونات المدينة.. في الدول التي تحترم مفهوم التخطيط، تخضع كل قطعة أرض لمنظومة معرفية تحدد ما يُبنى عليها، وكيف؟ ولماذا؟ بينما في مدننا، أصبح البناء يتم غالبًا بمنطق الحاجة الفردية أو النفوذ الاجتماعي، لا وفق تصور عمراني متكامل. ومن هنا نشأت العشوائيات، وتفككت المدينة إلى جزر معزولة من الإسكان والخدمات، دون أي تناغم.
أضف إلى ذلك أن ما نُفّذ من مخططات قديم جدًا، ولا يواكب الديناميكيات السكانية والاجتماعية والاقتصادية الحالية. كما أن إشكالية التمويسل، وضعف الكادر البشري المؤهل في مجال التخطيط، وغياب أبعاد ضائعة في مشهد عمراني مأزوم اللامركزية الفعالة، أمور زادت من تعقيد المشهد.
الهوية.. البيئة.. والقيم:
أبعاد ضائعة في مشهد عمراني مأزوم
اللامركزية الفعالة، أمور زادت من تعقيد المشهد المسألة لا تتعلق فقط بالمباني والطرق، بل بنموذج حضري يجب أن يُبنى على العدالة المكانية، بحيث بحصل كل مواطن على فرص متساوية في السكن،و العمل ، و التنقل والخدمات ، هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بإرادة سياسية جادة، ومؤسسات قادرة على فرض القانون، ومشاركة مجتمعية تعيد الثقة بين المواطن والدولة.. كما أكد الدكتور عقيل بأننا بحاجة إلى إعادة
النظر جذريًا في كيفية فهمنا للتخطيط، لا بوصفه إجراءً فنياً فقط، بل كأداة للتنمية والعدالة والاستقرار
الاجتماعي. لا يمكن بناء دولة حديثة دون مدن فاعلة،ولا يمكن أن تكون لدينا مدن فاعلة دون تخطيط عمراني حقيقي

من جهة أخرى حدثنا المهندس مسعود السعداوي.. مدير مشروع البنية التحتية للطريق الرابط من الساحلي بتاجوراء لطريق الشط بجهاز تنفيذ مشروعات الإسكان والمرافق وعضو
بمجلس النقابة العامة للمهن الهندسية ليبيا.. حيث أضاف
قائلا: بأن البناء العشوائي الحقيقي هو أزمة قيم قبل أن تكون أزمة عمران.. في العادة، عندما نتحدث عن البناء العشوائي، تتجه أذهاننا إلى المنازل غير
المرخصة، والأحياء التي تنشأ دون تخطيط عمراني، مما. يسبب مشاكل في البنية التحتية والخدمات الأساسية لكن، إذا نظرنا بعمق، سنجد أن هناك نوعا آخر من البناء
العشوائي أكثر خطورة وتأثيرًا على المجتمع ، إنه بناء جيل يفتقر إلى القيم والأخلاق،محاربة البناء العشوائي لا يجب أن تقتصر على هدم المنازل غير القانونية، بل
ينبغي أن تبدأ بمحاربة التدهور القيمي والأخلاقي. فالسلطة المحلية، إلى جانب المؤسسات التربوية والإعلامية، مطالبة بالتركيز على بناء الإنسان قبل كل
شيء، لأن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ بالجدران، بل بالعقول.لتي تسكنها.
من جهة أخرى أوضح المهندس حسام باش امام.. وهو من
أبرز المهتمين بقضايا الحفاظ على التراث العمراني في ليبيا
حيث قال:

إن التراث المعماري ليس مجرد شواهد حجرية بل هو
جزء من الهوية الثقافية التي ينبغي الحفاظ عليها.
وأضاف: «على الرغم من الحاجة للتحديث والتوسع،
إلا أن بعض المساجد في طرابلس تحتاج إلى تدخلات
دقيقة للحفاظ على طابعها التقليدي في ظل متطلبات
العصر الحديث».
التحديات العمرانية في المدن الحديثة..

وفي ذات السياق، ذكر المهندس حسام أن «التوسع
العمراني العشوائي في بعض المدن الليبية قد ساهم
في تضارب بين النمو الحديث والتخطيط الحضري
حقيقي.
القائم على الأسس التاريخية». وأشار إلى أن «الحفاظ
على التراث لا يتناقض مع الحاجة إلى تحديث المدن،
بل يجب أن يترافق مع استراتيجيات مبتكرة تدمج بين
القديم والجديد».
النمو السكاني والمتطلبات الحضرية
وتعليقًا على النمو السكاني السريع، شدد المهندس
على أهمية تقديم حلول مرنة لاستيعاب الزيادة
السكانية دون التأثير على الهوية المعمارية، مؤكداً على
ضرورة استخدام تصميمات تتماشى مع ثقافة المكان.
وتاريخه. وأوضح أن «المدن الليبية بحاجة إلى خطط
توسعية تضمن الراحة والخصوصية للسكان، خصوصًا في
الأحياء التقليدية».
التخطيط الوطني والمستقبل
وفي ختام تصريحاته، دعا المهندس حسام باش امام إلى تطوير برنامج تخطيط عمراني شامل يأخذ في اعتباره الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكل مدينة،
مع التركيز على الحفاظ على التراث المعماري وتوفير بنية تحتية حديثة تلبي احتياجات المجتمع. وقال:
«التحدي الأكبر يكمن في تحقيق التوازن بين الحفاظ على التراث والتطور العمراني الذي يتماشى مع الحياة
أما من منظور بيئي.. حدثنا الدكتور نوري محمد فلو.. خبير في البئية والثروات الطبيعية.. قائلا :
ممن خلال نظرة سريعة إلى الوضمع الحالي في ليبيا، نجد فرقًا شاسعًا وكبيرًا بين طراز البيوت القديمة – التي كانت سائدة في ستينات القرن الماضي – وبين البيوت الحديثة التي نشهدها اليوم في القرن الحمادي والعشرين.
البيت القديم كان يتميز بعدة خصائص إيجابية:
- وجود الفناء المفتوح (الحوش) الذي كان يوفّر التهوية الطبيعية،
- الطابع الاجتماعي العالي حيث كانت تسكن في البيت الواحد خمس، ست، وربما سبع عائملات، وجلسات المساء اليومية التي كانت تجمع أفراد العائلة والجيران، وهي من العادات التي افتقدناها اليوم, حتى من الناحية الإنشائية، كانت نوعية الطوب أو «البلوك» المستخدم في البناء تحمل مزايا كبيرة من حيث العزل الحراري والصلابة، وكانت تتماشى مع الطبيعة الجيولوجية للمنطقة، ما ساهم في راحة السكان..
أما البيوت الحديثة اليوم، فهي أقرب إلى «الصناديق الإسمنتية» المغلقة من جميع الجهات، فلا تهوية، ولا طابع هندسي مميز، ولا حتصى روح اجتماعية تجمع السكان. السبب الجذري وراء هذا التحول هو الزيادة السكانية السريعة داخمل المدن، وخاصة الهجرة العكسية من الأرياف والضواحي نحو المراكز الحضرية.
غعلى سبيل المثال، مدينة طرابلس اليوم تضم ما يقارب 3 إلى 3.5 مليون نسمة، وكأنها تمثل ليبيا بأكملها. هذا الضغط السكاني الكبير أدى إلى توسع أفقي غير منظم، وأدى إلى اختفاء الأراضي الخضراء، والمناطق المفتوحة، والغابات، وهو ما يُعد من أخطر التحديات التي ستؤثر سلبًا على الأجيال القادمة.

التحول من «البيت المفتوح» إلى
«الصندوق الإسمنتي» له تبعات اجتماعية خطيرة:
- ازدياد الضغط النفسى،
- ارتفاع معدلات الطلاق والانفصال،
- تفكك الأسرة،
- فقدان التواصل الإنساني والاجتماعي الذي كان يميز
-
مدن تنمو خارج السيطرة:
فشل التخطيط
وتكاثرت العشوائيات
المجتمع الليبي سابقًا.
البيت المفتوح كان يمثل صدرًا مفتوحًا، قلبًا مفتوحًا، وأبوابًا مفتوحة بحسن نية وروح ترابط قوية بين الناس.
أما الآن، فقد انغلق كل شيء داخل جدران إسمنتية باردة، انعكس أثرها على الفرد والأسرة والمجتمع ككل.
Share this content:
إرسال التعليق