شغف تحت الحصار

البيروقراطية تخنق الإبداع
في بيئات العمل المختلفة، يتجلى الإبداع كعامل أساس في تطوير المؤسسات ودفع عجلة الإنتاج. لكن لماذا يبدو القطاع الخاص أكثر قدرة على تحفيز الابتكار مقارنة بالقطاع العام؟ هل يتعلق الأمر ببيئة العمل، أم بالحوافز والمكافآت، أم بثقافة مؤسسية تحتضن الأفكار الجديدة؟ في هذا التحقيق، نرصد الفروق الجوهرية بين بيئات العمل في القطاعين العام والخاص، ونحلل أثر المنافسة والمكافآت على مستوى الابتكار، كما نستكشف دور الثقافة المؤسسية في تحفيز الإبداع أو إعاقته.
إلى جانب ذلك، نبحث العلاقة بين المال والإبداع: هل يمكن أن يزدهر الابتكار بوجود دعم مالي أكبر؟ وهل تفرض القيود الإدارية في القطاع العام سقفاً منخفضاً لقدرة الموظفين على الإبداع؟
إرث الحكومة كابح للتطور!!
نستند في هذا التحقيق إلى آراء خبراء الإدارة وعلم النفس، ونتناول تجارب موظفين من كلى القطاعين، لنفهم الأسباب الحقيقية وراء فقدان الشغف في الوظائف الحكومية، وما إذا كان بالإمكان إعادة إحياء روح الابتكار فيها.
>>| تحقيق : وفاء بوجواري
الإبداع بين الشخص والبيئة
ترى الصحفية “ربيعة حباس” رئيس الجمعية العمومية لشبكة
أصوات للاعلام : إن الإبداع يبدأ من إيمان الشخص بقدراته، فالشغف والتطوير المستمر هما المفتاح الحقيقي للابتكار. لكن البيئة المحيطة تلعب دوراً محورياً في إما نحفيز هذا الإبداع أو وأده. في القطاع الخاص، قد يكون النجاح مرهوناً بالدعم المالي والإمكانات، إلى جانب الدعم المعنوي من خلال الإشادة بالجهود والمتابعة المستمرة. في المقابل، يواجه موظفو القطاع العام معوقات تتمثل في التجاهل والإحباط والاستبعاد، مما يحد من قدراتهم على الابتكار.
هيكل إداري تقليدي يحذ من الابتكار
نعتبر حباس أن الهيكل الإداري في القطاع العام غالبا ما يكون تقليديا ومتوارثا، يفتقر إلى وجود إدارة فعلية تُعنى بالإبداع وتطويره. وحتى إن وُجدت، فإن دورها لا يتعدى تسجيل الحضور والانصراف وحضور الاجتماعات،
التجربة في الخاص حق مكلف!
جاذبية الاستقرار الحكومي في عالم الأعمال المتقلب

دون استراتيجية واضحة أو أهداف حقيقية. في حين أن القطاع الخاص قد يتيح مساحة للتجربة، لكنه لايتسامح مع الأخطاء.
المنافسة والإبداع .. بين الفرص والعوائق
في القطاع الخاص، تتمحور المنافسة حول استقطاب المواهب الرائجة (الترند)، بينما في القطاع العام، المنافسة تكاد تكون «مؤودة» وغير محفزة. وترى حباس أن الحوافز تؤثر بشكل كبير على روح الابتكار، فالموظف الذي يتلقى دعماً مستمراً ومتناسباً مع جهوده سيشعر بثقة أكبر ويحرص على تحقيق المزيد من النجاح. أما إذا كانت الحوافز رمزية أو لمرة واحدة، فقد يكتفي الموظف بالحفاظ على مستواه الحالي دون سعي للتقدم.
الإعلام بين القطاعين العام والخاص
حرية التعبير أم قيود المهنة؟
ترى الإعلامية نجوى الزوي أن هناك فروقات واضحة بين العمل الإعلامي في القطاعين العام والخاص، خاصة فيما يتعلق بحرية التعبير. فالقطاع العام يتيح مساحة أكبر لمشاركة الرأي والتواصل مع المسؤولين بطريقة سلسة وحيادية، دون فرض أجندات إعلامية محددة على الصحفيين. على العكس، يفرض القطاع الخاص نمطا
“وأسلوباً معيناً يجب على الإعلامي الالتزام به، حتى لو كان ذلك يشكل تحديًا أو خطرًا على مصداقيته المهنية.
في القطاع العام، إذا كانت المادة الإعلامية المطروحة غير مناسبة للرأي العام، يمكن مناقشة الأمر مع الإدارة لإجراء التعديلات اللازمة. أما في القطاع الخاص، فإن التغيير يكون أكثر تعقيداً، حيث تفرض السياسات الإعلامية التزاما صارماً بخط تحرير محدد.
دور المنافسة في تحفيز الإبداع الإعلامي
تؤكد الزوي أن المنافسة في القطاع الخاص تدفع الشركات إلى الاستثمار في البحث والتطوير، وتبني
أفكاراً جديدة، وتسهم في جودة المنتجات والخدمات.
كما أنها تشجع على إدخال تقنيات متطورة وتحسين العمليات، مما يسهم في رفع كفاءة الإنتاج وتقليل
التكاليف.
أما في القطاع العام، فإن غياب المنافسة قد يؤدي إلى تقليل الدافع لدى الموظفين لتقديم أفكار مبتكرة، فالمنافسة، بحسب الزوي، تُعد عنصراً أساسياً في تعزيز الإبداع وتقديم محتوى إعلامي أكثر تطوراً وتأثيراً.
وإذا ماتوفرت الحوافز والدعم، فسيكون لذلك تأثير إيجابي كبير على الإبداع المهني، حيث يمنح الموظفون الحرية في تجربة أفكار جديدة دون الخوف من الفشل.
كما أن وجود بيئة عمل داعمة، مع توفير الموارد الأساسية مثل الإنترنت المستقر في الإدارات، يضمن استمرارية الأداء ويقلل من العقبات التشغيلية.
على الجانب الآخر تشير “رجاء الشيخي” مديرة تحرير مجلة البيت: إلى أن العمل في القطاع الخاص يستنزف الوقت والجهد على حساب الحياة الشخصية والعائلية. فبينما يضمن الاستقرار المالي، فإنه يأتي على حساب التوازن بين العمل والحياة، إذ يجد الموظفون أنفسهم غارقين في متطلبات العمل، بعيداً عن عائلاتهم وأصدقائهم، في المقابل، يتميز القطاع الحكومي بوتيرة عمل أقل إجهاداً، لكنه لا يوفر المقابل المادي الكافي الذي يمنحه القطاع الخاص.
في المقابل يرى رائد . “عوض العدولي” المتحدث الرسمي بديوان وكالة وزارة الداخلية أن المهارات بأنواعها سواء أكانت معرفية أوعملية هي إحدى أهم ركائز التنمية البشرية وتطوير الموارد الإنسانية، بما تمثله من قيمة مضافة على مستوى التطوير المعرفي وتنمية سوق العمل، وإشراك هذه الموارد في التنمية الوطنية، ومساهمتها في تنفيذ اهداف الرؤى المستقبلية.

في الإعلام المهارة تتجاوز قيود التمويل
نصر الله السعيطي .. معد ومقدم برامج قناة الأفق محرر بوكالة الأنباء الروسية سبوتينك محرر بوكالة أنباء المستقبل:
خطاب الإعلام مدفوع الثمن
غالباً ما يكون الخطاب الإعلامي المموّل عمره قصيرا، إذ سرعان ما يكتشف الجمهور طبيعته الدعائية، مما يؤدي إلى تراجع مصداقيته رغم قدرته المؤقتة على إثارة الجدل أو خلق حالة من الإرباك الجماعي.
الإبداع والاستقلالية الإعلامية:
الإبداع الإعلامي لا يرتبط بالتمويل، بل ينبع من الاهتمام بالقضايا الجوهرية التي تهم الجمهور وتدفعه للتفاعل. ورغم أن التطور التقني والموارد المالية قد تساهم في تحسين جودة الإنتاج الإعلامي، فإنها يست العامل الأساس في تحقيق الإبداع والتميز.
فيمارأت الدكتورة ليلى الأوجلي.. مدير إدارة العجزة والمسنين وذوي الإعاقة بوزارة الشؤون الاجتماعية، بنغازي :
أن بيئة العمل في القطاع الخاص تختلف عن نظيرتها في القطاع العام من عدة جوانب جوهرية. فبينما تتسم المؤسسات الحكومية بهياكل بيروقراطية متعددة المستويات قد تؤدي إلى بطء اتخاذ القرارات، يتمتع القطاع الخاص بمرونة أكبر تسمح له بالاستجابة السريعة لمتطلبات السوق. كذلك، يتميز القطاع العام بمستوى عالٍ من الاستقرار الوظيفي، حيث توفر الوظائف الحكومية الأمان الوظيفي طويل الأمد، في حين أن القطاع الخاص قد يكون أكثر عرضة للتقلبات الاقتصادية، مما يؤثر على استقرار الوظائف ولكنه في المقابل يفتح آفاقاً واسعة للنمو والتطور المهني.
الفرق بين القطاعين لا يقتصر فقط على البنية الإدارية، بل يمتد أيضاً إلى نظام الرواتب والحوافز. في حين تقدم الوظائف الحكومية رواتب ثابتة مع مزايا مثل التأمين الصحي والمعاشات التقاعدية، يتمتع العاملون في القطاع الخاص برواتب تنافسية وحوافز مالية مثمل المكافات، مما يعزز من دافعيتهم للإبداع والتميز. كما أن فرص التدريب والتطوير في القطاع الخاص غالباً ما تكون أكثر تنوعاً وثراءً، إذ تستثمر الشركات بشكل كبير في رفع كفاءة موظفيها، مما يمنحهم فرصاً أفضل للنمو الشخصي والمهني.
كما أن تنوع فرق العمل، الذي يجمع بين أشخاص ذوي خلفيات وتجارب مختلفة، يثري بيئة العمل ويؤدي إلى تبادل أوسع للأفكار، مما يساعد على الوصول إلى حلول غير تقليدية.
ومع ذلك، يبقى التمويل أحد التحديات التي تواجه الإبداع. ففي حين يُعتبر المال عنصر اضرورياً لتحويل الأفكار المبتكرة إلى مشاريع فعلية، قد يشكل نقص التمويل عائقًا أمام تنفيذ العديد من المبادرات الإبداعية.
لذلك، تعتمد الكثير من الشركات على استراتيجيات متعددة لتمويل الابتكار، سواء من خلال الاستثمارات المباشرة أو القروض أو المنح المخصصة للمشاريع
الإبداعية.
د.سالم بن غربية .. مستشار :
تعد الثقافة المؤسسية الداعمة للإبداع عاملاً أساسياً في تحقيق النجاح المؤسسي. فالمؤسسات التي تخلق بيئة تحفّز التفكير الابتكاري وتوفر للموظفين الأدوات والحرية اللازمة لتنفيذ أفكارهم، تكون أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات ومواكبة التطورات، مما يضمن استمراريتها ونموها في سوق يتسم بالتنافسية المتزايدة.
عفاف عبد المحسن .. أديبة وإعلامية :
تشهد بيئة العمل في القطاعين العام والخاص اختلافات جوهرية تؤثر بشكل مباشر على مستوى الإنتاجية والابتكار. ففي القطاع العام، يسود التراخي في تطبيق قوانين العمل، ما يؤدي إلى تسيّب وظيفي، حيث يضمن الموظف راتبه بغض النظر عن أدائه. في المقابل، يعتمد القطاع الخاص على معايير صارمة تضمن جودة الخدمة، حيث يرتبط استمرار الموظف في عمله بمستوى إنتاجيته وأدائه. كما أن الحوافز والتدريب تُعدّ عنصراً أساسياً في بيئة العمل الخاصة، بينما تظل هذه العوامل محدودة في القطاع العام، مما يؤثر سلبا على روح المنافسة والتطور الوظيفي.
الفرق الأبرز يكمن في مبدأ التقييم؛ ففي القطاع الخاص، لا تعتمد الترقيات وزيادة الرواتب على الأقدمية، بل على الكفاءة والإبداع، بينما في القطاع العام،
مبدعون أوقفهم الختم الأحمر وعبارة .. (انتظر الرد)

غالباً ما يُنظر إلى الأقدمية باعتبارها المعيار الأساسي للترقيات. وهذا ينعكس على مستوى الأداء، حيث يصبح الابتكار سمة أساسية في القطاع الخاص، بينما يفتقر القطاع العام إلى بيئة تنافسية تدفع الموظفين نحو التميّز. ومع ذلك، يحظى الموظفون في القطاع العام بقدر أكبر من الأمان الوظيفي والاحترام الذاتي، حتى وإن كانت الرواتب أقل.
من ناحية أخرى، ثُعد البيروقراطية في القطاع العام من أبرز العوائق أمام الإبداع. فالإجراءات الإدارية المطوّلة، وكثرة الأوامر والتعليمات، تضع الموظف في دائرة الروتين، حيث يصبح الالتزام بساعات العمل الشكلية أهم من تحقيق الإنجازات الفعلية. كما أن بعض القيود الإدارية تكرّس ثقافة الحضور والانصراف، دون الاهتمام بجودة الأداء أو المخرجات الفعلية. على العكس من ذلك، يتيح القطاع الخاص مساحة أكبر للتجربة والخطأ، حيث يُنظر إلى الخطأ كفرصة للتعلّم والتطوير، ما يعزز روح الابتكار لدى الموظفين، شرط أن تتبنى الشركات سياسات تشجع على النمو المهني، بدلا من فرض قيود تحد من إمكانات الموظفين.
الهياكل الإدارية تلعب دوراً حاسماً في اتخاذ القرارات وتنفيذ الأفكار الجديدة. ففي المؤسسات ذات البيروقراطية الثقيلة، يتأخر تنفيذ المبادرات بسبب كثرة المستويات الإدارية والاختلاف في وجهات النظر.
مما يعرقل إنجاز المشاريع بكفاءة. في المقابل، تعتمد الشركات الخاصة الناجحة على هياكل إدارية أكثر مرونة، ما يسمح باتخاذ القرارات بسرعة وتنفيذها بفعالية. على سبيل المثال، في المؤسسات الإعلامية، من الضروري أن تكون العلاقة مباشرة بين الإدارة العليا
والإدارات الفنية، دون تدخل غير ضروري من الأقسام الإدارية، لضمان سلاسة العمل ورفع مستوى الإنتاجية.
الخاتمة
كما لاحظنا وفي ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها عالم الأعمال، يبرز الإبداع كقوة دافعة للتميز والتطور، سواء في القطاع العام أو الخاص. فبينما يمنح القطاع الخاص مجالاً أوسع للابتكار بفضل مرونته وسرعته غي اتخاذ القرارات، يظل القطاع العام ركيزة للاستقرار والتخطيط بعيد المدى. غير أن التحمدي الحقيقي يكمن غي كيفية تحقيق التوازن بين الاستقرار والانفتاح على الأفكار الجديدة، لضمان بيئة عمل أكثر إنتاجية وتحفيزاً للإبداع.
إن تعزيز ثقافة الابتكار داخل المؤسسات يتطلب دعماً من القيادات، وبيئة تحتضن الأفكار الجديدة، وتقديراً للمواهب التي تساهم في تطوير الأداء المؤسسي، كما أن المنافسة والمكافآت تلعبان دوراً حيوياً في تحفيز الأفراد على التفكير الخلّاق، مما ينعكس إيجاباً على جودة المنتجات والخدمات المقدمة.
وفي النهاية، تبقى العلاقة بين الإبداع والتمويسل علاقة تكاملية، حيث يمثل المال الوسيلة التي تحمول الأفكار إلى واقع ملموس، بينما يظل الإبداع المحرك الأساس للنمو والتقدم. لذا، فإن تبني سياسات تشجع على الابتكار وتوفر الموارد اللازمة لدعمه، هو المفتاح لبناء مستقبل أكثر تطوراً واستدامة.
Share this content:
إرسال التعليق