خزانة الملابس .. مرآة الروح
كيف تشكل الموضة هويتنا..؟

»تحقيق : منى توكة
ذات يوم في إحدى الفعاليات الثقافية، لفت انتباهي شاب يرتدي ملابس غريبة تجمع بين الطابع العصري واللمسات التقليدية.. بدا وكأنه يريد أن يقول شيئاً للعالم دون أن ينطق بكلمة.. حينها أدركت أن الموضة ليست مجرد أقمشة وألوان.. إنها لغة صامتة تحمل رسائل عن الذات، الهوية، وحتى الثقافة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل هذه الرسائل نابعة من داخلنا، أم أنها انعكاس للضغوط التي تفرضها مجتمعاتنا، أم مجرد تقليد دون وعي.. ؟ تشكل الحالة النفسية للأفراد عاملا أساسياً في اختيار ملابسهم وطريقة ظهورهم أمام الآخرين، حيث يعكس المظهر الخارجي في كثير من الأحيان مشاعرهم الداخلية وتفاعلاتهم مع العالم.
أ. سالمة عبد اللّٰه ياقة، معالجة نفسية ومتخصصة في تعديل السلوك، ترى أن طبيعة الإنسان تنعكس في مظهره الخارجي ومزاجه. وتوضح أن الشخص عندما يكون في حالة مزاجية جيدة يظهر عادة مهندماً، بعطر مميز ومظهر جميل أمام الناس، بينما يميل إلى إهمال مظهره في حالات الاكتئاب أو عند مواجهة مشكلات شخصية أو عائلية، وتشير إلى أن اختيار الملابس يعكس أحياناً التصرفات الداخلية، حيث إنه قد يكون الشغف بالمظهر أو الاهتمام بالموضة نتيجة لتراكمات نفسية قديمة، مثل الحرمان في الطفولة أو محاولة إخفاء مشكلات حالية.
وترى «سالمة» أن البعض يلجمأ للملابس أو الموضة كوسيلة لإظهار القوة أو التميز أمام الآخرين، حتى لو كان ذلك يخفي شعوراً داخلياً بالضعف أو الحاجة للقبول وتضيف إن المبالغة في الاهتمام بالمظهر، مثل ارتداء أغلى الملابس أو العطور المميزة، قد تكون محاولة لجذب الانتباه أو لفت الأنظار، خاصةً في المجتمعات التي تعاني من تأثير الثقافات الدخيلة.
كما تشير إلى أن الموضة الغربية لها تأثير واضح على الشباب، حيث تؤدي أحياناً إلى طمس القيم الثقافية المحلية واستبدالها بأخرى مستوردة. وتوضح أن وسائل الإعلام تلعب دوراً كبيراً في تشكيل مفهوم الجمال، مما يدفع البعض إلى السعي وراء معاييسر غير واقعية، مثل الاعتماد المفرط على «الكريمات» التجميلية أو التغيير الجسدي المبالغ فيه.
الشغف بالمظهر قد يكون نتيجة تراكمات نفسية قديمة!!
سالمة ياقة

وتختتم حديثها بالإشارة إلى أن الموضة قد تكون
المجتمهات المحافظة. حيل القض الى الاهتمام
بالمظهر الخارجي وسيلة للتأقلم مع ضغوط الحياة اليومية أو لتعزيز الثقة بالنفس.
على الجانب الآخر، تتجاوز الموضة كونها انعكاساً للذات الفردية لتصبح رمزاً للهوية الثقافية والاجتماعية، فهي تعبر عمن القيم والمعتقدات التي يحملها الأفراد، كما تلعب دوراً محورياً في تعزيز الانتماء والهوية الجماعية.
أ. عائشة بن أحمد، أخصائية اجتماعية، ترى أن الملابس ليست مجرد أداة للتعبير عن الشخصية، بل هي انعكاس واضح للهوية الثقافية والاجتماعية للأفراد، وتشير إلى أن الموضة تؤثر بشكل مباشر على سلوك الأفراد وانتماءاتهم، حيث تعمل وسيلة للتعبير عن القيم والمعتقدات الاجتماعية.
وتضيف، أن الملابس يمكن أن تصبح رمزاً للتماسك الاجتماعي عندما تعكس العادات والتقاليد والموروث الثقافي، مما يعزز من شعور الانتماء والهوية الجماعية، وتوضح أن بعض الأفراد الذين ينتقلون إلى حالة اقتصادية أفضل قد يستخدمون الموضة وسيلة لإعادة تعريف مكانتهم الاجتماعية أو للاندماج مع شرائح معينة من المجتمع.
وتقول.. إن هذا السلوك يعكس ديناميكية العلاقة بين الفرد والمجتمع، حيث تسعى الأزياء إلى تحقيق التوازن بين التعبير الفردي والامتثال للمعايير الاجتماعية، وتضيف: «عندما تكون الموضة امتداداً للإرث الثقافي والتاريخي، فإنها تساهم في تعزيز القيم الاجتماعية والحفاظ على الهوية الثقافية، ولكن عندما تتحول إلى وسيلة لتقليد ثقافات دخيلة، فإنها قد تؤدي إلى إضعاف الانتماء الثقافي، وخلق فجوة بين الأفراد ومجتمعهم الأصلي.»
الإبداع في تصميم الأزياء جسر بين التعبير الفردي والهوية الثقافية
تشدد العديد من مصممات الأزياء على أن الموضة ليست مجرد صناعة للتجميل، بل هي أداة للتواصل بين الأفراد والمجتمعات، وتعبير عن الهوية والانتماء الثقافي. من خلال ابتكاراتهن، يعكس المصممون والمصممات التفاعل بين العوامل الاجتماعية والثقافية في تشكيل المظهر العام، مع احترام تقاليد المجتمع وتحديات العصر الحديث.
فاطمة صالح مرجان، مصممة أزياء وإعلامية
أكدت أن الأزياء تعكس التنوع الثقافي والاجتماعي، وهي أكثر من مجرد مظهر خارجي، بل أداة لفهم هوية الفرد، وأضافت أن ليبيا، بتنوعها العرقي، تتميز بأزياء تقليدية تعكس بيئتها
أصبح من الصعب الابتكار والاختلاف
فاتباع الصيحات الرائجة
هو الأكثر شيوعاً

وثقافتها، مثل اللثام في الصحراء، العباءة في الجبل، والقميص الفضفاض في الشرق، والجيليه في الغرب، بالإضافة إلى أزياء الطوارق والتبو.
وفيما يتعلق بتأثير وسائل الإعلام على الأزياء، أكدت فاطمة أن التطور في عالم الموضة أصبح يعتمد بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، التي جعلت من الصعب الابتكار أو التميز، حيث أصبحت الصيحات الرائجة تهيمن على السوق، مما أثر على قدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم من خلال الأزياء.
«أصبح من الصعب الابتكار والاختلاف، ففكرة اتباع الصيحات الرائجة هي الأكثر شيوعاً الآن»، وأضافت:
«هذا الأمر أثر على القدرة على التميز والتعبير عمن الهوية». ومع ذلك، شددت فاطمة على ضرورة أن تكون الأزياء نابعة من ثقافة المجتمع، تعكس قيمه وتتناسب مع عاداته وتقاليده، مؤكسدة على أهمية الأصالة في تصميم الأزياء.
في عصرنا الحالي، لا تقتصر الموضة على الأذواق الشخصية أو التعبير الثقافي فقط، بل أصبحت وسائل الإعلام، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، تشكل أحد العوامل الرئيسة في تحديد اتجاهات الأزياء.
في هذا السياق، تعتبر فاطمة صالح مرجان، مصممة الأزياء، أن وسائل الإعلام قد حدت من القدرة على التميز الفردي في الموضة، حيث أصبحت الصيحات السائدة تهيمن على السوق بشكل يتطلب من الأفراد الانصياع للاتجاهات بدلاً من الابتكار، مما يؤثر على حرية التعبير الشخصي.
سارة الشريف، مصممة أزياء، ترى أن الموضة تمثل مزيجاً معقداً بين التعبير عن الذات والاستجابة لضغوط المجتمع. تقول سارة: «الموضة ليست مجرد اختيار قطع جميلة من الملابس، بل هي مزيج من فهم عميق لاحتياجات الناس ورغباتهم، سواء كانت نابعة من داخلهم أو مفروضة من الخارج». أكدت سارة أن المصممات غالباً ما يواجهن تحدياً كبيراً عند محاولة تصميم الأزياء، حيث يكون من الضروري التوفيق بين ما يطلبه المجتمع من اتجاهات الموضة والصورة التي يرغب الأفراد في تمثيلها من خلال أزيائهم.
وتؤمن سارة أن التصميم الحقيقي يبدأ من فهم شخصية الفرد وما يريد أن يعبر عنه. وأضافت: «غالبًا ما نجد أنفسنا نصمم وفقاً لمعايير اجتماعية وثقافية، لأن الموضة تعكس صورة المجتمع. لكنني أؤمن أن التصميم الحقيقي يبدأ من الداخل،
جميلة بشير الطاهر منصور، مديرة شركة الجميلة للخياطة والتدريب، تحدثت عن العلاقة بين الموضة والهوية في المجتمع الجنوبي الليبي، الذي يتمسك بالعادات والتقاليد. فقالت جميلة: «اللباس التراثي في الجنوب الليبي يحتفظ بمكانة وقيمة كبيرة، والملابس التي يختارها الأفراد تنقل رسائل حول هويتهم وقيمهم، وتعكس كيف يرغبون أن ينظر إليهم الآخرون»، وأوضحت جميلة أن المجتمع الجنوبي الليبي يضم تنوعاً ثقافياً من مكونات عربية وتارقية وتباوية، وكل مجموعة تعكس أصالة وعمقاً في تمسكها بالتراث والزي التقليدي.
وقالت جميلة: «الموضة بالنسبة لي وسيلة للتعبير عن الذات وتأكيد التفرد، وهذا ما يظهر بوضوح في تصاميمي التي غالباً ما تستجيب لرغبات الزبائن ومتطلبات المدينة التي أعيش فيها».
وأوضحت أن تصاميم الأزياء يمكن أن تعزز ثقة الأفراد بأنفسهم، مشيرة إلى أن هذا كان واضحاً من خلال تفاعل النساء مع تصاميمها، خاصة في الآونة الأخيرة، حيث أصبحت الأزياء أداة مهمة للشعور بالرضا والتفرد في المناسبات.
الحفاظ على التوازن بين الأصالة والمعاصرة
مفتاح الاستقرار الاجتماعي
الموضة والهوية الثقافية

الملابس التقليدية تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية للشعوب، وتحمل قيمة كبيرة في التعبير عن الموروث الاجتماعي والثقافي، كيف تأثرت بالموضة؟.
محمد كوري، يرى أن الحفاظ على الملابس التقليدية يعكس التمسك بالهوية الثقافية رغم التأثيرات الحديثة للموضة. وقال: «الملابس هي انعكاس مباشر للتراث الثقافي، حيث يشهد تأثير الثقافات المجاورة على أزيائنا التقليدية. ولكن على الرغم من هذا التأثير، فإن الاحتفاظ بالملابس التقليدية يجب أن يكون جزءاً من هويتنا الثقافية.
أعتقد أن الاحتفاظ بهذه الأزياء يجب أن يتم في المناسبات الرسمية والعامة، كما يجب المداومة على ارتدائها. وفيما يتعلق بالموضة الحديثة، أعتقد أنها لم تؤثر بشكل كبير على أزيائنا التقليدية، إذ لا زلنا نحافظ على طابعنا الثقافي الذي يعكس تراثنا.»
تأثير الموضة في الأدب
قصي البسطامي (كاتب روائي» يتناول دور الموضة في الأدب وكيف تساهم في بناء الشخصيات وتحديد هويتها من خلال الأزياء؟ ويشدد على أن الموضة كانت دائماً جزءاً من الأدب، حيث تساهم الملابس في تحديد الطبقات الاجتماعية وتصوير شخصيات الروايات، ويشير إلى أن الأدباء عبر العصور، مثل الأدب الفرنسي والروسي، كانوا يعتمدون على الوصف الدقيق للأزياء لتمثيل الفوارق الطبقية. كما يلاحظ أن الموضة العصرية أصبحت رمزاً للتمرد على الماضي، ما يعكس روح العصر الحديث. كما يوضح البسطامي أن الموضة تعكس خلفيات ثقافية معينة، مشيراً إلى تأثيرها في الأدب الإفريقي، الذي يستخدم الموضة للتعبير عن الهوية الثقافية والمقاومة ضد الهيمنة الثقافية، كما يعبر عن تأثير وسائل الإعلام في تشكيل الموضة، حيث يتم تسويق ثقافات معينة من خلال الأسواق التجارية والإعلام، مما يؤثر في الأدب والشخصيات الأدبية.
تختلف وجهات نظر الأفراد حسب خلفياتهم الثقافية والاجتماعية ويعبر عن تنوع الأفكار حول كيفية استخدام الملابس كوسيلة للتعبير عمن الحذات أو التوافق مع معايير المجتمع.

الموضة العصرية أضحت رمزاً للتمرد على الماضي
تعتقد عفاف التاغدي (مدرسة) أن الموضة تمثل
تحديًا للمرأة في مجتمعاتنا، حيث إنها قد تعبر عن الحرية الشخصية، حتى لو كانت تتعلق بالنقاب، إذ يرى البعض أن الملابس تمثل تعبيراً عن الشخصية. وتضيف: «الاستقلالية في اللباس تتطلب الموازنة بين نظرة المجتمع والتوفيق بين الدين والعرف، بحيث يتمكن المرء من مواكبة العصر مع الحفاظ على الستر.» كما تشير إلى أن «الاستغلال التجاري واضح من قبل التجار، الذين يفرضون ملابس معينة بأسعار غالية لا تتماشى مع دخل المواطن، وتعتقد «عفاف » أن هذه المسائل تتطلب نظرة محافظة من المرأة للحفاظ على مكانتها الاجتماعيةوالسياسية بعيدًا عن إثارة اللغط.
تتفاوت الآراء حول الموضة، حيث يراها البعض تعبيراً عن الذات أو انعكاساً للحالة النفسية، بينما يعتبرها آخرون وسيلة للتعبير عن الهوية الثقافية والاجتماعية. كما يؤكد البعض أن تأثير وسائل الإعلام وصيحات الموضة قد يحد من حرية التعبير الشخصي.
في النهاية، تبقى الموضة مزيجاً من التعبير الفردي والامتثال لضغوط المجتمع.
Share this content:
إرسال التعليق