×

كقبيلة ذئاب مكلومة..

كقبيلة ذئاب مكلومة..

       إلى ذكرى صديقي السالك في الطريق عن قناعة.. إلى ذكرى عقله الحكيم المحتجز وراء جدران مستشفى قرقارش الرهيب.

» جمال الزائدي

   

كان زاهداً في مظاهر الترف وأدوات الراحة، ومجمل ما حوله يوحي بالتقشف؛ المكان خالٍ تقريبًا من أي أثاث، عدا سرير في غرفة النوم، وكراس مبعثرة هنا وهناك، وعدد لا يُحصى من المرايا بمختلف الأحجام تغطي جدران الشقة. ربما كانت تلك المرايا تميمة من نوع ما، لمنع سوس الوحدة من النخر في جذع روحه الهشة.

تسمّر في مواجهة السطح المصقول لمرآة بطول الحائط، وشرع في الصغير. كان لحنا شجيًا منقوشا في ذاكرة صباه، يتناغم مع مزاج الحنين الذي استولى عليه.

في الضفة المقابلة، كان انعكاس صورته يتحدّى استغراقه في هدوءه.

بعد قليل قال الآخر:

– هل تعرفني..؟

لم يُحر جوابا، واستمر في الصغير.

في طفولته، كانت المرأة العجوز كثيرًا ما تنهاه عن

الصغير، يُخيفه صوتها وهي تردد بيقين:

– الصغير يجلب الشياطين، والشياطين يرغبون في التهام قلوب الأطفال الأشقياء من أمثالك..

لم يبكِ، ولا تشنجت ملامحه فزعًا، لكن قطرات ماء دافئة كانت تتسرّب منه، لتبلّل سرواله الداخلي.

باكرًا، صار والخوف توأمين لا يفترقان، بل صار الخوف حياته: مأكله ومشربه، والهواء الذي يتنفسه، والشريك الذي يقاسمه وسادة نومه.

يندس في أحلامه، وفي تفاصيل يومه، في البيت والمدرسة، في الشارع، وفي الطريق إلى المخبز..

أعاد الآخر السؤال:

– هل تعرفني..؟

لم يُحر جوابًا هذه المرة أيضًا، فقد اعتاد أن تتحرش به الصور المنعكسة في مرايا الشقة بالأسئلة الغريبة، وأحيانًا بالحركات والإيماءات..

تأمل البياض الناصع الذي تأجّج في كامل شعر رأسه ولحيته، وارتسمت ابتسامة رضاء واستسلاما على صفحة وجهه، ثم همس لنفسه مطمئنًا:

– لعلها قريبة..

اعتلت نملة إصبع قدمه اليمنى، وصعدت عبر ساقه

وصولًا إلى صدره، حتى وقفت على أرنبة أنفه.

قالت النملة:

– لو كان الخيار لي، ما كنت نملة… ولو كان الخيار لك،

ماكنت أنت…

نفخ الهواء بقوة من شفتيه المزموتين، فطارت النملة. حك أنفه دون أن يخالجه ندم على فعلته، ولم ينتبه إلى أنه يقف عاريًا كما ولدته أمه، سوى في تلك اللحظة.. تذكر يوم الكشف الشخصي عندما تقدم لامتحان الالتحاق بمعهد الشرطة.. تركوهم وسط الحجرة الواسعة عراة بالكامل، وكان جندي نحيف جداً، بملامح «بوبريص»، يتفحص كل واحد من الأمام والخلف كما لو كان خروفًا يُعدّونه للذبح.

بدا طعم الفكرة مستساغًا حين استعاد حكمة النملة، وتخيّل: لو ترك له الخيار، فإنه بكل تأكيد لن يكون كما هو الآن؛ لعله سيكون ذئبا متوحّدًا، يجوب البراري البعيدة، مستمتعًا بالطراد والعواء الطويل تحت قرص القمر الفضي، تمامًا كما يحدث في المسلسلات الكرتونية..

أن تعيش الحياة ككتلة من الضراوة والشهوات، معفيًا من لعنة العقل الذي يورث التفكير والسؤال والتردد…

فتلك الجنة التي يحلم بها كل كائن حي متعطش للإبحار في لغز الوجود.. اختلس نظرة عن يمينه، ليرى انعكاس صورته من زاوية مختلفة.

قال الرجل الذي يُشبهه أكثر مما يُشبه نفسه:

– أنت أجبن من أن تكون ذئبًا.. الذئاب لا تخشى الشياطين التي يجذبها الصغير.

كوّر قبضة يده اليمنى، وبعزم يائس وجّهها إلى المراة الصقيلة، لتتناثر شظاياها في كل مكان، وتنفتح مكانها كوّة شاسعة تُفضي إلى الخارج المعتم..

زحف عبر الكوّة بجرح نازف، كان دمه يسيل مع كل خطوة، قطرة قطرة. ومن كل قطرة تصل الأرض، يولد ذئب صغير بحجم النملة المغدورة.

حين وصل إلى منتصف الغابة، وقف هناك دون أن يُخجله عُريه الفاضح. رفع نظره إلى سماء بعيدة، مرصّعة بالنجوم والترقب، ثم أطلق عواءً مريراً، أقرب إلى النشيج..

كأنه قبيلة ذئاب مكلومة.

Share this content:

إرسال التعليق