أديب بروح مؤرخ وناقد بنَفَس شاعر
يعد الأديب والناقد يونس شعبان الفنادي، الذي ولد في طرابلس عام 1961م، ودرس علوم الأرصاد الجوية لينال الماجستير من جامعة ريدينج البريطانية، اسما بارزا في المشهد الثقافي حيث يتسم نتاجه بالتنوع والتأصيل والتوثيق.. ورغم دأبه في التحصيل الأكاديمي، إلا أن رياح الأدب قد هبّت عليه منذ أيامه الجامعية، حين فاز عام 1981 بالترتيب الأول في كتابة المقالة الأدبية على مستوى جامعة طرابلس، ما شكل لحظة مفصلية في مسيرته، فتحت أبواب الإبداع أمام قلمه المتوثب
يونس الفنادي..
فوز الفنادي لم يكن مجرد جائزة فحسب، بل اعترافاً مبكرا بموهبة تمتلك ناصية اللغة وقدرة على بناء المعنى في سياق أدبي رصين. ومنذ تلك اللحظة، تبلورت شخصيته ككاتب منحاز إلى القيم الإنسانية والفكرية، يحمل هاجس التنوير، ويغترف من القراءة زاده، ومن التجريب منبع تجديده.
ولقد تميزت كتابات الفنادي بأسلوب نقدي شفيف، لا يخلو من شاعرية تضيء النصوص وتحفز القارئ على التأمل، كما يتسم أسلوبه بوضوحٍ منهجي ودفء إنساني يبتعد عن التعالي الأكاديمي، وهو ما يبدو جلياً في مؤلفه «في رحاب القصيد»، الذي ضم قراءات لنصوص شعرية ليبية وترجمات لقصائد عالمية، حرص من خلالها على استنطاق الجماليات وتفكيك بنية النصوص دون أن يقيدها بتوجهات فكرية أو معايير مسبقة.

خلال مسيرته المستمرة، ارتكز الفنادي في رؤيته على ضرورة فصل الإبداع عن الأيديولوجيا، وهذا ما كرّسه في كتابه «العاشقة الطرابلسية» حين أنصف أدب الكاتبة فوزية شلابي، موضحاً كيف حُجبت نصوصها خلف الحجب السياسية، ووجّه عبر ذلك رسالة صريحة بأن النقد لا بد أن يضع النص في المقدمة. هذه الرؤية الواعية هي ما يمنح الفنادي خصوصية في تناوله للنتاج الثقافي، إذ يبحث عن روح النص وليس عن بطاقة هوية صاحبه.
يشتغل الفنادي على النصوص كما يعمل الصائغ على الذهب، يطوّعها، يلمس وجدانها، ويكشف مكنوناتها. ففي «في رحاب القصيد» يقرأ الشعر الليبي والعالمي بعينٍ ذائقة، لا تفرض على النصوص معايير صارمة، بل تستنطقها، وتتأمل انفعالاتها، من القصائد الإفريقية إلى الشعر الليبي، باحثًا عما يربط
خاض الفنادي الحراك الذهني في ساحة الفكر السياسي دون أن يفقد توازنه أو صدقه.
الإنساني بالكوني، والعاطفي بالفكري.
وإلى جانب اشتغاله على الأدب، خاض الفنادي غمار الصحافة السياسية بمقالاتٍ نشرت في صحف متعددة مثل «الجماهيرية والمنارة والصباح»، مجسدا دور المثقف العضوي، الذي يرى في الكلمة وسيلة للمساهمة في التوعية العامة. حيث جاء كتابه «قلمي والسياسة»، شهادة حية على الحراك الذهني الذي خاضه الفنادي في ساحة الفكر السياسي، دون أن يفقد توازنه أو صدقه. إذ كتب عن الوطن، عن قضاياه، وعن أوجاعه بصدق المثقف بصوت المُحرّض. ورغم توقفه عند «منعطف معين»، كما قال، لحم يتخل عمن دوره التنويري، بل استبدل المنبر السياسي بمرآة الأدب والنقد.
ومن بين أبرز إصداراته، كتاب «سيكا.. وبياتي..
ميكروفون»، الذي يشكّل وثيقة فنية توثق تجربته الإذاعية الممتدة لأكثر من ثلاث عقود، ومقاربة نقدية للمشهد الفني الليبي في المسرح والغنماء والدرامما.
حيث يعد كاتبا ينتمي إلى الأدب التوثيقي بامتياز، ويمنح القارئ نافذة على ذاكرة الوطن الثقافية.
ولم يقف الفنادي عند حدود بسلاده، بل عبر الجغرافيا النقدية إلى الأدب التونسي من خلال كتابه «الخطاب الروائي عند فاطمة بن محمود»، ثم اتجه نحو التجربة الأردنية في كتابه «جماليات النص الأدبي»، ليقدّم قراءة بانورامية للإبداع العربي، مستكملاً رسالته في مدّ الجسور الثقافية بين الأقطار..
أما مؤلفه «على هامش النص» فهو عمل مرجعي بامتياز، ضم ثلاثة وعشرين مقالة نقدية تتناول أبرز أعلام وأجناس الأدب الليبي، بدءاً من خليفة التليسي، وفضيلة الشيخ عبداللطيف الشويرف، والحقوقي محمد طرنيش، وشاعرة الفصحى حواء القمودي، والقاصة عزة كامل المقهور، والأديب محمد السنوسي الغزالي، مروراً بفاطمة الحاجي، وصولا إلى الشعر المحكسي محمد الدنقلي وسالم العالم وتجارب الكتابة النسوية شريفة القيادي. وقد قدّم فيه الفنادي قراءة انطباعية حية للنصوص، تستند إلى علاقة وجدانية بالكتابة، مدفوعة برغبة أصيلة في إبراز قيمة النص الليبي وأهميته في خريطة الأدب العربي.
وعلى صعيد النصوص الفردية، في قراءته لقصيدة
«أما للكره والبغضاء حد»، نراه يحاور الشعر كما يُحاور الإنسان، يبدأ من العلاقة الشخصية بالشاعر عبد المولى البغدادي، ثم يغوص في النص ليكشف عن طبقات من المعنى، من الجمال، من الجرح الوطني والوجداني. نقده لا يقف عند المبنى، بل يتوغل في المعنى، يرسم للقارئ خارطة تفتح له الطريق.
أما «على هامش النص»، فهو متحف مقالات، ترصع أفق الأدب الليبي بأسماء وتجارب، بلغة نقدية شفافة، فيها شيء من الحنين، وشيء من الوفاء، وشيء كثير من الإيمان بأن الأدب هو مرآة لأمة في تحول دائم.
يونس الفنادي، في مجمل تجربته، ليس ناقدًا
يسكن في الأبراج العاجية، بل كاتب ينحاز للناس، للقصيدة، للذاكرة، وللجمال. هو مزيج رائع من التأمّل الأكاديمي والدفء الإنساني، ومن التوثيق الهادئ والموقف العميق. إذ أن نصوصه، تتجاور المعرفة بالحمس، واللغة بالعاطفة، والواقع بالحلم. لا يكتب من أجل أن يقول: «أنا هنا»، بل ليضيء ما حوله، بوعي يليق بمن يعرف أن الكلمة مسؤولية، وأن الأدب مرآة تتطلب النزاهة من أجل تراب الوطن.
إن ما يميز هذا الكاتب، ليس فقط تعدد مجالات اهتمامه، بل روح المثابرة التي تطبع مسيرته، وحرصه على أن تكون كتاباته جسور تواصل بين القارئ والنص، وبين الماضي والمستقبل، وبين المحلي والعربي. هو مثقفُ شمولي، لا تؤطره حدود تخصص، بل تنقله حماسته من ميدان إلى آخر، دون أن يفقد بصمته الخاصة في اللغة والأسلوب والرؤية.
وفي زمن يتراجع فيه حضور النقد الجاد، يظل يونس الفنادي علامة فارقة، وأحمد الذين يكتبون وفي نيتهم أن يبنوا لا أن يهدموا، أن ينيروا لا أن يزايدوا، أن يقرؤوا الأدب من أجل الإنسان، وليس من أجل الأيديولوجيا.
– كل ما سبق يستند إلى المواد المنشورة في صحيفة الصباح، صحيفة الوسط، بلد الطيوب، ديوان العرب، وغيرها من المنابر التي احتضنت صوت الفنادي.
يكتب وفي نيته أن يبني لا أن يهدم، أن ينير لا أن يزايد، أن يقرأ الأدب من أجل الإنسان، وليس من أجل الأيديولوجيا.

إذ يركز على ضرورة فصل الإبداع عن الأيديولوجيا..
في مجمل تجربته ليس ناقدًا يسكن الأبراج العاجية بل كاتباً ينحاز للناس
للقصيدة، للذاكرة والجمال
Share this content:
إرسال التعليق