لاأخاف خيانة اللغة لي
“عبد اللطيف البشكار” شاعر ليبي قدم منجزا شعريا مختلفا ولافتا، عبر اجتراح تجربة شعرية، وسمت نصوصه الإبداعية، اعتمد فيها على توظيف مفردات عربية غير مسبوقة، مستنداً إلى ظاهرة لغوية ترتبط بشكل كبير باللسانيات وعلم الصرف، تتمثل في اشتقاق ونحت وتوليد مفردات وتراكيب مزجية جديدة. ولقد ساهمت تجربته في إثراء النصوص بمعان وصور مبتكرة. وكانت أشهر وأهم هذه القصائد التي خفلها هذه السمات قصيدة «أناناهوكم»، التي بسببها أطلق عليه مجايلوه لقب «شاعر الأناناهوكم».
يحاول الشاعر، عبر لغته الشعرية، أن يصدم المتلقي ويحرك نوازع الدهشة الكامنة في وجدانه بعمق وغموض غير مخل. يقدم صورا جمالية تقدح الخيال وتشحذ الفكر، باجتراحه معاني تكشف فضاءات شعرية جديدة تنبض بالإبداع، مستمدا إلهامه من ثراء اللغة الغنية، مضيفا إليها بصمته الخاصة بتميز وإبداع، متجاوزا المألوف، وطارحا رؤى أكثر عمقا عن الذات والوجود.
في كل قصيدة جديدة يكتبها، يبرز اهتمامه بالتفاصيل اللغوية والتراكيب المعقدة التي تتطلب من القارئ الغوص في إعماق النص بحثا عن المعنى المخفي.
يحرص على أن تكون نصوصه ذات طابع فريد يعبر عن بصمته الخاص
في لقاء بشاعر الأناناهوكم “عبد اللطيف البشكار”:
لا أخاف خيانة اللغة لي
لأنني أستطيع تطويعها كما أشاء
الشاعر حر طليق لا سجن يقيده أو قاض يحاكمه لأنه يكتب في متسعات لا منتهية ليس لها علاقة إلا بالخيال ومهمته رسم الجمال.
تبقى اللغة العربية زاخرة بالقدرة على التعبير لأنها لغة معطاءة تتيح للشاعر قول كل ما يشعر به
أجرت مجلة الليبية حوارا مع الشاعر
“عبد اللطيف البشكار”.. وهذا نصه:
الليبية : ما هو الهاجس أو الصوت الداخلي الذي يدفعك للكتابة؟
البشكار: الشاعر بطبيعته قلق، يسيطر عليه شاغل
ما : وسواس أو صوت خفي لا يمكننا تفسيره بمعنىً عقلي.
فهو كغيره يعيش لحظات متباينة من الفرح والحزن والقلق والدهشة، إلا أن التجربة الشعرية تبقى
قد يعجز الشاعر أحياناً عن التعبير عن بعض الاختناقات النفسية لغوياً ما يدفعه لاجتراح وسائل إبداعية لتجاوز هذه العوائق
تعبيراً داخلياً ذاتياً عن موقفه من الوجود والكون.
الليبية: كيف ترى حدود اللغة؟ هل تعتبرها عائقاً يجب كسره أم تجد فيها حرية ومجالا أوسع للتعبير؟
البشكار: اللغة هي الخامة أو المعبر الذي يسرّب الشاعر من خلاله اجتراحاته وما يشعر به. قد تضيق اللغة أحياناً، لكنها تتسع مع تطويع الشعراء لها. نحن كشعراء عرب، نكتب باللغة العربية التي تمتاز بمرونتها وقابليتها للتماهي مع العصر. حيث يعجز الشاعر أحياناً عن التعبير عن بعض الاختناقات النفسية لغوياً ما يدفعه لاجتراح أساليب وصور إبداعية تتجاوز هذه العوائق. ففي إحدى تجاربي، بينما كنت أكتب نصأ شعرياً، انتابتني حالة من الضيق وأنا أبحث عن معنى لم أستطع التعبير عنمه، فانفجرت بحركة هوائية «أف، أف».
لجأت إلى ترميز هذا الصوت لكونه غير قابل للكتابة في القصيدة؛ لأن اللحظة الشعرية تجاوزت مدود الحروف العادية، لكن تبقى اللغة العربية زاخرة بالقدرة على التعبير، لأنها لغة معطاءة تتيح للشاعر قول كل ما يشعر به.
الليبية: نلاحظ في نصوصك تجليات فلسفية عميقة تكاد تنحتها بعناية شديدة. إلى من تتوجه بنص يتسم بتعقيد تراكيبه اللغوية؟
البشكار: الشعر لا يتفق تماماً مع الفلسفة؛ فالأولى تخاطب العقل، بينما يخاطب الثانى الخيال.
والتجليات الشعرية ما هي إلا سباحة في متسعات لا حدود لها، حيث نلمس العمق الجمالي والصور الإبداعية غير المألوفة التي تبدو فيها بعض الجمل غرائبية عجيبة يصعب على عقل المتلقي الربط بينها، لكنها تهدف إلى مخاطبة خامة الخيال من خلال النص التصويري.
تشتغل الفلسفة في المناهج النقدية على العقل، لكننا، عندما نقترب من النص نجد أن الخيال هو المسيطر، أي «التشريحية الخيالية». حيث تأتينا الفلسفة، ربما، بتحليل عقلي واحد يتضمن جانبا فكريا ، لكن الشعر لا يعتمد على جانب فكري وعقلي، إنما على الخيال وعلى تحقيق الجمال.
وبالتالي، فإن جمالية الصورة هي من تولد المعاني، والأخيرة لا متناهية، من هنا يمكن القول إن اللغة الشعرية تعتمد على تراكيب غير معهودة تنتج معانسي جديدة، ويقع على القارئ المتمكسن كشف الفجوات والإيحاءات الموجودة في النص والربط فيما بينها، لفهم النص في عمقه.
الليبية: ما دافعك الأساسي الكامن وراء اجتراح النص وخوضك في غمار اللغة؟ وهل تبحث عن التغيير أم هو تعبيرُ عن الذات؟
البشكار: لا يوجد دافع معين. فالشاعر يكتب عندما

اللغة الشعرية تعتمد على تراكيب غير معهودة تنتج معاني جديدة يقع على القارئ المتمكن كشف
الفجوات والإيحاءات الموجودة في النص والربط فيما بينها لفهم النص في عمقه
يشعر بحالة خاصة تدفعه لبث ما في داخله. وهذه اللحظة لا يمكن للعقل تقييدها، إذ يمسك الشاعر قلمه ويكتب ما لديه. وبالطبع أن التغيير ضروري لجعل التجربة معاصرة ومختلفة، لأن الاجترار يزيف حقيقة النص الشعري. لذا يجب أن تكون لدى الشاعر بصمته الخاصة التي تميزه عن غيره.
الليبية: هل حدث وأن خذلتك اللغة وأنت تحاول اجتراح نص
إشراف : مصطفى حمود
جمال الشعر الحديث وقصيدة النثر تحديداً في الغموض وفي كسر الأغراض الشعرية التي تجاوزتها الحداث
جديد؟ كيف تتعامل مع قيودها في التعبير عن مشاعر وتجارب شديدة الخصوصية؟ وهل سبق وخفت أن تخذلك لإنتاج نص ما؟ البشكار: الخذلان لا يأتي من اللغة، بل من الحالة النفسية للشاعر لحظة الكتابة. هناك شعراء إسبان، إنجليز، فرنسيون وغيرهم جميعهم يكتبون.
لا يمكننا القول بأن هناك لغة ما تفسح براحا أكثر حرية وتداعيا، وتتيح للكاتب المبدع قول كل ما يشاء، فلا علاقة للغة بذلك، وهي لا تخذل، ويمكن التعبير عن المشاعر والتجارب والخصوصية بأي صورة
عن نفسي، لا أخاف من الخذلان من أن اللغة قد تخونني؛ لأنني أستطيع تطويعها كما أشاء.
وعلى العكس، فالشعر العمودي قد يتسبب في الوقوع في هذا الخلل نتيجة لكتابته تحمت شروط وقيود تتمثل في «علم العروض».
الليبية: من يقرأ نصك يشعر بأن ثمة معنى مخفيا تنتظر من القارئ أن يكتشفه، كيف تخلق هذا العمق في النص؟ البشكار: الشعرية الحقيقية لا تقيد القارئ بمعنى محدد؛ فالنص الجيد يولّد عدداً لا نهائياً من القراءات التي لحم يقلها الشاعر أو ينتظرها، بحل يتفاجأ بأن المتلقي استشفها من خلال تذوقه وتعمقه للنص، وذلك يعد جزءا من جمالية الشعر، لكون الشعر الحديث يتسم بالعمق والغموض اللذين يتيحان للخيال حرية التأويل. وهو ما تؤكده المدارس النقدية الحداثية التي اتكأت على ظاهرة التأويل، مثل التفكيكية والسيميائية وجماليات التلقي وغيرها، والتي اتفقت على أن النص الحداثي يتولد عنه عدد لانهائي من المعاني، والقارئ هو من يقوم باكتشافها.
النص الشعري لا يشتغل على الحقيقة، وجمال الشعرية الحداثية، وقصيدة النثر تحديداً، في غموضها، وفي كسرها للأغراض الشعرية التي تجاوزتها الحداثة، ولهذا فالقصيدة الحداثية لا تنطبق عليها القيود السابقة، ولا حتى الاحكام المتعارف عليها في النقد التقليدي. هنا الشاعر حر طليق لا سجن يقيده، أو قاضياً يحاكمه، لأنه يكتب في متسعات لا منتهية ليست لها علاقة إلا بالخيال، ومهمته رسم الجمال.
الليبية: كيف أثرت تجربتك النقدية على رؤيتك للشعر؟ هل تجد نفسك ناقدا لنصوصك الخاصة أثناء كتابتها؟
البشكار: لقد أضاف النقد لرؤيتي الشعرية بعداً تحليلياً، وطوّر من تجربتي الذاتية والخيال الذي يشكل رافد الكتابة لدي. وبالتالي، ليس هناك أي تعارض بين أن يكون الشاعر ناقداً لنصوصه، لأن النقد يساهم في تطوير التجربة الإبداعية.
الشعرية الحقيقية لا تقيد القارئ بمعنى محدد فالنص الجيد يولّد عدداً لانهائياً من القراءات التي لم يقلها الشاعر أو ينتظرها
الليبية: ما هي المعايير التي تراها أساسية للحكم على جودة النص الأدبي؟ وهل تنطبق هذه المعايير على شعرك الشخصي؟ البشكار: الحكم على جودة النص يعتمد على مدى تأثيره وجماهيريته، بالإضافة إلى جمالية الأسلوب وتفرد تجربة الشاعر. في الشعر الحديث، قد تكون معايير الحكم أكثر تعقيداً نتيجة الغرائبية والدهشة التي يحملها النص. وبالنسبة لي، أحرص على أن تكون نصوصي ذات طابع فريد يعبر عن بصمتي الخاصة

Share this content:
إرسال التعليق