×

المغتربات في اختبار الانتماء

المغتربات في اختبار الانتماء

       

حين تغادر الليبية وطنها، لا تحمل في حقيبتها مجرد أمتعة، بل تأخذ معها إرثأ ثقيلا من الانتماء والحيرة والحنين. بين مدن غريبة تحاول احتضانها وأخرى ترفضها، وبين ثقافات تمنحها فرصاً وأخرى تضعها تحت الاختبار، تعيش المغتربة الليبية حالة من الترقب الدائم : هل الوطن في الجغرافيا أم في الروح..؟ هل يمكن لصوت المؤذن البعيد، أو لرائحة الخبز الليبي الذي تحاول طهوه في مطبخها الغريب، أن يعيد لها ما فقدته..؟ في هذه المساحة المشوشة بين الانتماء واللا انتماء، بين الحلم بالعودة والتأقلم مع الرحيل، تخاض معارك ذاتية لاترى بالعين، ولكنها تترك ندوباً على الروح، عضهن وجدن في المنافي ذاتا أكثر اتساعاً، وبعضهن ضعن في دهاليز الغربة، وأخريات اخترن الصمت بين محطتين: هنا وهناك، دون أن يعرفن أين ينتمين..!

      بين الوطن والمنف

   » استطلاع .. منال البوصيري

شهادات عن تحديات الهوية والمكان

في هذا الاستطلاع نقف على شهادات وقصص واقعية لنساء ليبيات اخترن الغربة.

   أسباب ومعطيات

تتنوع الأسباب التي تدفع المرأة الليبية إلى الاغتراب أهمها، أسباب تعليمية حيث تسعى عديد النساء الليبيات إلى الحصول على فرص تعليمية أفضل في الخارج، سواء كانت الدراسة الجامعية أو الدراسات العليا، وتسعى بعض النساء إلى الهجرة من أجل تطوير مهاراتهن وقدراتهن في مجالات معينة، مثل الفن أو الرياضة أو العلوم.

وبحثاً عن بيئات أكثر أماناً وأكثر وعياً بقيمة

المرأة ككيان مفكر ومستقل، وتجاوزاً لقيود اجتماعية مربكة والبحث عن بيئة أكثر تقبلاً وأكثر استيعاباً للآخر، بيئات تسمح لتحقيق المطامح الشخصية

والمهنية.

سلمى: ريشة تحلق بعيداً..

في أحد الأيام الحارة من صيف طرابلس، كانت سلمى تجلس في غرفتها الصغيرة، تمسك بفرشاتها، وترسم خطوطاً غير مكتملة على قماش أبيض لم يكن مجرد رسم، بل كان انعكاساً لما يدور في ذهنهارغبة عميقة في التحليق بعيداً، في استكشاف العالم خارج حدود مدينتها.

فمنذ طفولتها، كانت شغوفة بالفن، ترى الألوان بطريقتها الخاصة، وتجد في الرسم وسيلة للهروب من الواقع، وإعادة تشكيله كما تريد.

عندما حصلت على فرصة للدراسة في أحد المعاهد الفنية المرموقة في إيطاليا، لم تتردد. كان القرار شاقاً، والمغادرة مؤلمة، لكنها كانت تعلم أن مستقبلها الحقيقي كان هناك، حيث يمكنها أن تطلق العنان لموهبتها دون قيود.

عند وصولها إلى روما، شعرت وكأنها وُلدت من جديد، لكنها سرعان ما أدركت أن الأحلام لا تتحقق بسهولة. كانت المدينة صاخبة، واللغة حاجزاً صعباً، والناس مختلفين عن كل ما اعتادت عليه. في الأيام الأولى، شعرت بوحدة قاسية، وبحاجتها للعودة إلى منزلها ولكنها وعدت نفسها أنها لن تستسلم.

بدأت تتعلم الإيطالية بشغف، تقضي ساعات في قراءة الكتب والاستماع إلى المحادثات في المقاهي، كانت تواجه تحديات كبيرة؛ الأساتذة يطالبونها بالتجديد والتجريب، بينما كانت تحاول الحفاظ على هويتها الفنية التي استمدتها من جذورها الليبية.

بدأت تشارك في معارض صغيرة، تعرض أعمالها على جمهور لا يعرف عنها شيئاً، فازت بجائزة في معرض محلي، ثم دُعيت للمشاركة في معرض دولي، اليوم، بعد عشر سنوات في إيطاليا، أصبحت سلمى

فنانة معروفة.

تقول سلمى: « أردت أن أثبت للعالم أن المرأة الليبية قادرة على الإبداع والتميز في أي مجال تختاره، لم بكن الطريق سهلاً، لكنه كان يستحق كل التحديات.»

البدائل الآمنة

تختار بعض النساء الليبيات الهجرة بسبب الزواج من أجنبي، حيث ينتقلن للعيش معه في بلده، أو هروبا من الصراعات والنزاعات، بعد المعاناة التي عاشتها البلاد، في ظل الصراعات والنزاعات المسلحة في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية والمعيشية، لذلك، اضطرت العديد من النساء الليبيات إلى الهجرة بحثاً عن الأمان والاستقرار.

كذلك تسعى بعض النساء الليبيات إلى الهجرة لأسباب سياسية والمشاركة في الحياة بعيدا في بلد أكثر ديمقراطية وحرية،

الأسباب الاقتصادية تعتبر عاملاً مهماً أيضاً، حيث تعاني ليبيا من أزمات اقتصادية متكررة، وارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب والخريجين الجدد، لذلك، تسعى العديد من النساء الليبيات إلى الهجرة بحثا عن فرص عمل أفضل في الخارج، حيث يمكنهن الحصول على رواتب أعلى وتطوير مهاراتهن المهنية.

بينما تطمح آخريات إلى تحسين مستوى معيشتهن وأسرهن من خلال الهجرة إلى الخارج، حيث يمكنهن الحصول على خدمات أفضل في مجالات التعليم والصحة والإسكان.

فاطمة بدر الدين، طبيبة ليبية متخصصة في جراحة القلب، تعمل في أحد أكبر المستشفيات في ألمانيا، مستشفى جامعة لودفيغماكسيميليان في ميونيخ، قبل أكثر من خمس سنوات بعد حصولها على منحة دراسية لاستكمال تخصصها الدقيق في جراحة القلب، وهو المجال الذي بدأت دراسته

لاوطن هنا

ولارجوع هناك

  وممارسته في ليبيا.

لم تكن البداية سهلة، فقد واجهت صعوبات في التأقلم مع اللغة والثقافة الألمانية، لكنها لحم

تستسلم.

تقول اجتهدت في تعلم اللغة، وثابرت في دراستي حتى تمكنت من إثبات نفسي، وحصلت على درجة الدكتوراه بامتياز، بعدها، سنحت لي الفرصة للعمل في مجالي، وأنا اليوم أخصائية في جراحة القلب، أمارس مهنتي بكل شغف، وأحظى بتقدير زملائي وثقة المرضى، أشعر بالفخر بما حققته، وأرى نفسي مثالاً للمرأة الليبية القادرة على النجاح أينما كانت.

رغم بُعد المسافة، لم تنقطع علاقتي بأسرتي، فنحن على تواصل دائم، وأزورهم كلما سنحت لي الفرصة، ورغم ضغوط العمل والتزاماتي الكثيرة، أحرص دائماً على البقاء قريبة منهم، حاضرة معهم في كل الظروف.

تواجه المرأة المغتربة تحديات كبيرة في التعامل مع نظرة المجتمع المتحفظة لها، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالخروج عن المألوف أو التقاليد.

التأقلم والاندماج

تعتبر تجربة التأقلم في بلد جديد تحدياً كبيراً للمرأة الليبية، حيث تواجه عديد الصعوبات، مثل ععوبة اللغة، فقد تواجحه بعمض النساء صعوبة في التواصل والتفاعل مع الأخرين بسبب عدم إتقانهن لغة البلد المضيف، أيضأ الاختلافات الثقافية فقد تواجه بعض النساء صعوبة في التأقلم مع الثقافة الجديدة، خاصة إذا كانت مختلفة بشكل كبير عن الثقافة الليبية.

وقد تشعر بعض النساء بالوحدة والعزلة بسبب

ابتعادهن عن أسرهن وأصدقائهن.

أيضاً التحديات المهنية تكون كبيرة، فقد تواجه بعض النساء صعوبة في الحصول على عمل مناسبفي البلد المضيف بسبب عدم وجود خبرة عملسابقة.

غالية عون.. سيدة ليبية غادرت ليبيا منذ أكثر من عشرين عاماً، كبر أولادها وعاشت بعيدة عن أهلها، فقدت أمها ووالدها ولم يتبق لها إلا أخت وحيدة تقول:

بعد كل هذه الرحلة وأنا أتطلع لنفسي في حجرة في الطابق الثاني من شرفة في هذا البلد البارد-إيرلندا-، يعتصر قلبي وأبكي لأنني لم أستطع أن أكون جزءاً من هذا المكان وإن نجحت في التواجد فيه طيلة هذه السنوات.

قصص وشهادات

على الرغم من التحديات التي تواجهها المرأة الليبية في الغربة، إلا أن هناك عديد القصص الملهمة لنساء استطعن تحقيق النجاح والتأقلم في بلاد المهجر ،. منهن نساء رائدات في مجالات مختلفة.

هناك العديد من النساء الليبيات اللاتي حققن نجاحات كبيرة في مجالات مختلفة، مثل الطب والهندسة والأعمال والفن والأدب.

صباح خليفة.. مقيمة في ألمانيا وأم لأربعة أبناء، تحدثت عن تجربتها قائلة:

«الاغتراب ،ليس خيار اسهلاً، بل هو من القرارات المصيرية التي تتطلب قدرة كبيرة على تحمل المسؤولية ومواجهة الصعوبات، لم يكن الأمر بسيطاً، فقد واجهت عديد التحديات، بدءًا من المجتمع والبيئة

ونمط الحياة المختلف، وصولًا إلى اللغة والمخاوف التي رافقتني في البداية، لكن بعد مرور أربعة أعوام، أجد أنني بدأت أرى طريقي وطريق أبنائي بوضوح.

وتضيف: «رغم المسافة، لم أنفصل عن ليبيا يوماً، فأنا أتابع كل ما يجري فيها وأهتم بتفاصيلها، ربما ابتعدت عن الناس، لكن الوطن يسكنني دائما.

رحلة الإبداع والتفوق

حين تكون المغتربة حالمة ذات ابداع لا يحده مكان وخيالها ولد ليكون طائراً لا يستقر في مرفأ تصبح النتائج والتجربة رحلة ملهمة وحكاية مروية

واكتشافا بأبعاد مختلفة

رزان المغربي، الكاتبة والروائية الليبية المقيمة في هولندا، والتي خاضت رحلة غنية بالتجارب بين عدة دول وثقافات.

تسرد تفاصيل عن مسيرتها الأكاديمية والمهنية، والتحديات التي واجهتها كامرأة مغتربة، وكيف نجحت في بناء حياتها الأدبية بعيداً عن الوطن أعيش في هولندا منذ سنوات، لكن علاقتي بالغربة لم تكن وليدة تجربة واحدة ، بل امتدت عبر محطات مختلفة في حياتي. قبل ذلك، عشت في سوريا حيث نشأت ابنة لعائلة من ضمن الجالية الليبية التي هاجر أجدداهم إلى بلاد الشام، وأكملت دراستي الجامعية، ثم عدت إلى ليبيا، ومنها بدأت رحلة أخرى انتهت بي في هولندا. الغربة لا تمثل انتقالا جغرافياً، بل تجربة متجددة لإعادة التعريف بالذات والبحث عمن الانتماء.

بداية، درستُ المحاسبة وتخصصت فيهما أكاديمياً، لكن الكتابة كانت دائماً عالمي الحقيقي. منذ البداية، لم أكن أرى الأرقام وحدها، بل القصص التي تختبئ خلفها، وكانت تجربتي المبكرة -أقصد البدايات-هي التي جعلتني أتفهم كيف تتواءم الموهبة مع الدراسة الأكاديمية في خلق التوازنات الدقيقة التي تشبه بناء الشخصيات في الرواية، لاحقاً، تحولت إلى الكتابة الإبداعية بالكامل، حيث أصبح الأدب مشروعي الشخصي.

وعن طبيعة نشاطها وما يواجهها تقول:

أنا كاتبة وروائية، أعمل في مجال الأدب، وأتنقل بين مشاريع مختلفة تتراوح بين كتابة الروايات والمقالات، وأحياناً الرسم. الصعوبات في البدايات لم تكن مرتبطة فقط بالجانب المهني، بل بالصوت الداخلي الذي يبحث عن مساحته في عالم لا يعترف بسهولة بالمبدعات. تجاوزت ذلك بالإصرار والتجريب المستمر، وبالإيمان أن الكتابة ليست وظيفة، بل نمط حياة.

أما المرحلة التي سبقت التفرغ للكتابة، فقد عملت في مجال تخصصي لسنوات طويلة، ومن ثم عملت مع مجلس الثقافة العام حتى هجرتي إلى هولندا.

فالهجرة ليست قرارا يُتخذ في لحظة، بل رحلة من الأسئلة والمخاوف والتجارب. لم يكن الدافع واحداً، بل تظافرت عوامل شخصية وثقافية واجتماعية جعلتني أبحث عن أفق أوسع، عن مساحة أكبر رحابة

حقيبة ممتلئة

وفراغ داخلي

لأفكاري، التحدي الأكبر كان إعادة بناء النفس بعيداً عمن جذوري الأولى، أن أكون في مكان جديد دون أن أفقد جوهري، وأن أجد صوتي في سياق مختلف.

وتضيف عن شكل الخطط والحياة في الاغتراب:

التخطيط في الغربة يشبه السير في ضباب كثيف، لا يمكنك أن ترى الطريق بوضوح، لكنك تستمر في المشي لأنك تؤمن بأن وجهتك موجودة. لم أخطط بالمعنى التقليدي، لكنني كنت واعية لما أريد: أن أكتب، أن أكون صوتاً مستقلا، أن أستمر في إنتاج أدب يعكس هويتي وتجاربي. كل خطوة كانت بناءً على خطوة قبلها، وأحياناً، كانت الصدف والتجارب تفتح لي أبواباً لحم أخطط لهما مسبقاً ما ساعدني هو قدرتي على التكيف دون أن أذوب، طفولتي كانت مليئة بالانتقال بين المدن والأمكنة المختلفة، في كل مرة أتعلم التأقلم مع الثقافة الجديدة دون أن أنسى ثقافتي الأصلية، ساعدني الفضول، الانفتاح على التعلم، واستمرار الكتابة كجسر يربطني بنفسي وبالعالم، كلها

عوامل كانت أساسية. وأيضاً، لم يكمن هنماك نجاح دون الإيمان بأن لكل إنسان دوراً في هذه الحياة، وأن الغربة يست ضعفًا بل مساحة للتطور لإعادة إنتاج نفسي بالذات في بلد لغته صعبة. وأتيت في عمر من الصعب فيه أن أجيد اللغة وأبحث عن وظيفة ، لهذا وجدت لنفسي طرقاً لم أفكر بها سابقاً يمكنها أن تحقق لي الاكتفاء.

وعن التكيف والاندماج والاستقلالية توضح:

التكيف يأتي بالمران، بالتدرب وخضت هذه التجربة مرات كثيرة ، التكيف هو سلسلة طويلة من التغيرات الداخلية والخارجية. لم يكن الأمر سهلاً دائماً، لكنني نعلمت أن أكون صبورة مع نفسي، أما فيما يخص استقلالية المرأة، فقد تعاملتُ مع الأمر بشكل طبيعي، لأنني كنت أؤمن أن الاستقلالية ليست قراراً ظاهرياً، بل هي امتداد لفكر أؤمن به، التحدي لم بكن في مواجهة الأفكار الخارجية، بل في مواجهة التساؤلات التي تطرحها الغربة على المرأة: كيف تحافظين على ذاتك؟ كيف لا تسمحين للظروف بسأن نعيد تشكيلك بغير إرادتك؟

وتضيف حول تجربة الليبيات المغتربات

المغتربات الليبيات لكل منهن رحلتها الخاصة، لا أستطيع إطلاق أحكام عليهن بالطبع، بالتأكيد ما جمع المغتربات هو أن تكون كل امرأة جسراً يصل بين ثقافات متعددة، وكل واحدة منهن تُمثل ليبيا بطريقة ما، سواء بالنجاح الأكاديمي، المهني، أو حتى بالحفاظ على هويتهن في أماكن مختلفة.

وعن التواصل ومتابعة مايدور في الوطن تقول:

تواصلي مع وطني دائم، وإن كان بشكل مختلف. لا

بيوت باردة ولهجات مكسورة

وأحلام تهاجر مرتين

يمكن للكتابة أن تكون منعزلة عن الذاكرة الأولى، ولا يمكمن للإنسان أن ينفصل عمن جذوره مهما ابتعد.

ولكل فتاة تفكر في الاغتراب

أن تكون طموحة وأن تتحمل مسؤولية هذا الطموح، الطريق ليس سهلاً، لكنه ممكن، والإيمان بالذات هو المفتاح الأول لكل شيء. لا تجعلي الخوف من المجهول يعطلك، ولا تنتظري الإذن من أحد لتعيشي الحياة التي تستحقينها. الطريق أمامك واسع، لكنه يتطلب الشجاعة، والصبر، والأهم: أن تصنعي قصتك بنفسك، لا أن تتركي أحداً يكتبها لكِ.

ختاماً

الغربة ليست مجرد تجربة فردية، بل رحلة مليئة بالتحديات والطموحات، حيث تواجه المغتربات عقبات في التكيف مع الثقافات الجديدة، والبحث عن الفرص، والحفاظ على روابطهن بوطنهن وهويتهز بين الخوف من الفشل وإصرارهن على النجاح، يتجلى في كل تجربة تحمل في طياتها دروساً وقوة، إن قصصهن ليست مجرد حكايات، بل هي شهادات حية تعكس روح التحدي والإرادة، وتفتح أفقاً لأسئلة عديدة عن تجارب خارج حدود الأوطان .

Share this content:

إرسال التعليق