×
نجاح مصدق

عتبة

      » نجاح مصدق

نجاح مصدق

وسط البلاد

       المسافة من بيتي لوسط البلاد لا تتجاوز الثماني كيلو متر تقريبا .. خمس عشرة دقيقة كافية للوصول إذا كانت الطريق غير مكتظة .

في طريقي أمر على باب العزيزية وسوق الثلاثاء الذي يتكيء على شرفات البحر، يرافقني البحر يسارا كأنه دليل صامت يأخذني نحو وجهتي ميدان الشهداء، أو كما نسميه في طرابلس العاصمة «وسط البلاد» حيث الكورنيش وحديقة الفندق الكبير في شماله الشرقي، والبحيرة الممتدة قبالة السرايا المنيعة شماله الغربي، يستقبلنا شارع عمر المختار شريان المدينة، يعبره المارون كحجيج يؤدون طقسا روحيا، يطل عليه مسرح «ميراماري» وذُور عرض مقفلة ومقاه صغيرة، ومن شرقه تتفرع عسارب شوارع البلاد، المقريف وبومشماشه

شارع البلدية والاستقلال وميزران، كلها طرقات

تقودك إلى احتمالات المدينة المختلفة.

كنت صغيرة حينما وقفت أول مرة في الميدان بدا لي فسيحا هائلا كحلم لا تسعه العين، كلما تذكرته تذكرت ألماً في أصابع قدمي وأنا أشارك في عرض مدرسي ارتدي مريولا بلون السحاب وجوربا أبيضًا وحذاء ضيقا تحت الشمس مع رفيقاتي في لوحة استعراضية، ثم كبرت وصرت شابة ارتاده ليلا في مساءات طرابلس الحالمة، كنا نشتري عقود الفل والياسمين من باعة ناصية الميدان، كان اللقاء بالميدان يبدو غير مصرح به كلانا ينظر للآخر ويرصده كأننا على موعد .

بعد 2011 اصبحت أشعر بأن الميدان لم يعد كما كان، عيني لاتلتقط صورا بل ترصد حركة أناس تتغير، باعة الحلوى، عربات الخيل، حيوانات نادرة، فتيات يلتقطن صور السلفي وشبان على درجات نارية، المشهد يبدو حركيا لكنه بلا صوت، أو كأني صماء أرى كل شيء ولا أسمع شيئا لا ضجيج ولا صوت موحد، فقط الهمس الذي اعتدت أن التقطه من البحر المقابل للميدان.

البحر الذي ظل المؤتمن الوحيد على سره..

ذاكرة الميدان تحفظ صورا ثقيلة، مشانق أيام الرعب، صور مفقودين، خيام انقسام، منصات سلطة وهتافات متنازعة مع ذلك كلما وقفت في منتصفه كنت أحلم..

لم أره مجرد بلاط أو رقعة جغرافية نتقاسمها بجوع للسلطة أو صخب فارغ بلا جدوى..

بل كان نحن في أعماقنا ..

وأنا وسطه وعيناي مغمضتان بالأمل كان صوتا داخليا يستدعي الهتاف ذاته الذي علا في كيب تاون يوم نطق مانديلا بحريته والكسندر بلاتز في برلين يوم سقوط الجدار والبساتيل في باريس والسوربون يوم ثار الطلبة وواشنطن حين حلم مارتن لوثر كينغ والهند في ظلال

غاندي..

حرية.. عدالة ..مساواة

ومازلت إلى اليوم أحلم لم افتح عيني بعد عل الميدان -الذي لم ينس شيئا-. يغفر لنا.

Share this content:

إرسال التعليق