(شعوب الحدائق الخلفية)
»محبوبة خليفة
أمضي عادةً وقتاً متقطعاً في رحلاتي في التأمل، فبعد الزيارات التقليدية لمعالم المدن، وما تركته حضارات سادت عندهم ثم بادت، ومعالم الحداثة التي جلبتها الصناعة والتطور العلمي المتسارع ، والذي ألبس سلوك سكان تلك الدول مسلك الإنسان المعاصر ، هيئةً وقيماً ورؤيةً للحياة من حولهم تختلف إلى حدٍ كبير عن غيرهم من الشعوب الأخرى الأقل حظاً.
غير أنني وعلى مستوى شخصي وبحكم انتمائي لمدينة يُعْرَف أهلها بعشقهم لتتبع-من جانب ايجابي طبعاً-لأحوال خلق الله*، فكنت دائما أتأمل من حولي مدققةً والإنسان عجيب فعلاً ، فهو لاشك ابن بيئته، تضاريسها وطقسها والأعراق التي استوطنتها أيضاً، فهذه العوامل توصم ملامحه ببصمة مؤكدة مع بعض الاستثناءات بحكم التنقل والهجرات واختلاط البشر.. والإنسان على مرّ التاريخ قد يدفع ثمن أفعاله، كالاستعمار وما فعله بالشعوب المُسْتَعْمَرَة ثم الهجرات أو الهجوم المضاد لتلك الشعوب بعد أن أجهدتها هذه الاستضافة القاتلة لهم ، وما خلَّفته من وجع وتعب وانهيار للبنية الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية والسياسية بالتبعية، وكأنها لعبة دومينو، تسقط كلها إن تحركت واحدة في غير وقتها ووضعها الصحيح.
وهذا ما جرى وما أراه جلّياً وأنا أتجوّل في شوارع (مدريد)العاصمة الإسبانية التي أذهلني جمالها واتساع ميادينها واحترام الإنسان عندهم ، فله الأولوية في السير، حتى أن الميادين الكبرى في المدينة لا تجرؤ سيارة على الدخول إليها أو محاولة إقلاق راحة الناس السياح وأهل المدينة- ومن يقيم بينهم.
حديثي هنا عمن يقيم بينهم ويتولّى خدمة سكانها ،إنهم سكان الحدائق الخلفية من الشعوب اللاتينية التي غزتها إسبانيا في الفترة مابين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر ..وخرجت منها بعد أن استنزفت خيراتها فتركت سكانها بحاجة للنجدة ولم يفعلوا لهم شيئاً بل تركوهم بعد استنزاف بشع لثرواتهم الطبيعية . سترى هنا تلك الشعوب في كل مكان،هم من ينظفون الشوارع ويخدمون السياحة ويعملون خدماً في البيوت بل واجتهد بعضهم فتبوأ مراكز كبيرة هنا، أما الأطباق الإسبانية فقد أعادت تشكيلها المطابخ اللاتينية ووضعت بصمتها عليها وهذا واضحٌ وجلّي. .
المعنى أن تلك الهجمة المرتدة وأنا أستخدم هنا تعبيراً كروياً بحكم تواجدي في عاصمة أكبر ناديين على هذه الأرض ، هذه الهجمة المرتدة ربما أشعرت الإسبان ببعض ندمٍ على ما ارتكبوه من حماقات كما فعلت كثير من الدول من حولنا.
ستجد في هذا البلد شعوب أميركا اللاتينية بين مقيم وزائر وربما مهاجر غير شرعي لكنهم عادوا محاولين استعادة ما نُهِب منهم بطريقة سلمية.
أمّا شعوب جنوب المتوسط وقد نالوا ما نالوه من زيارات استعمارية إسبانية وغير إسبانية ، مرتدة هي الأخرى وإن اختلفت الأهداف والنوايا فنرى بعضهم يحاولون تسلق الجدار الحضاري والنفسي والاقتصادي الفاصل بينهم وبين مستعمريهم الأوائل- أهل شمال البحر المتوسط- ليستكشفوا إمكانية العيش هناك ، مهاجرين أو طالبي علمٍ وسياح أو متتبعين لسيرة أجدادهم الأوائل ، فبينهم الباكي على مجدٍ تليد ضاع ولم يبق منه إلا المزارات السياحية التي تدل على من جاء وأقام وحكم ثم طُرد .
وبين حالمٍ باستعادة أمجاد أجداده ، وبين غير المهتم لابهذا ولا ذاك حتى أنهم ربما لا يعرفون من تاريخ عوالم ما خلف الجدار إلا يوم زيارتهم لهذه البلدان والاستمتاع بجمالها وتمني الرضا من هؤلاء الناس ، رغم أن القلوب لم تعد كما كانت ، صار التوجس هو من يحكم العلاقات بين الشعوب ويصنّفها أيضاً .
التاريخ حاضر وبقوة في شوارع إسبانيا وفي ملامح الناس فيها.
Share this content:
إرسال التعليق