من حدائق التراب
محمود البوسيفي
في خريف العام 1982، وبالتحديد في ظهر السادس عشر من سبتمبر / طوقت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي مخيمي صبرا وشاتيلا
للاجئين الفلسطينيين وتركت قصداً معبرين تدفق منهما عناصر تنتمي لتنظيم حزب الكتائب اليميني، وأخرى كانت تحمل شارات جيش لبنان الجنوبي (الحر) الذي تم تأسيسه بقرار وتمويل إسرائيلي.. تقع قيادة الوحدات الإسرائيلية التي كانت قد بدأت قبل نحو ثلاثة أشهر اجتياحاً شاملاً للأراضي اللبنانية تحت إمرة الجنرال الدموي أرييل شارون فيما تولى السفاح إيلي حبيقه الإشراف على إدارة الجانب الكتائبي في العملية..
استمر الذبح ثلاثة أيام كاملة أحالت القوات الإسرائيلية خلالها ليل المخيم إلى نهار بالقنابل المضيئة والتصوير الليلي وأحدث أدوات تقنية الاتصالات…
كعادته ظل العالم الأول المتمدن والمتحضر والديمقراطي صامتاً والعالم الثاني الأقل تمدناً وتحضراً خجولاً والعالم الثالث والرابع والخامس في الغيبوبة .. لم يتحرك جفن أحد من ربطات عنق حقوق الإنسان.. وحين قدم ممثل الصليب الأحمر تقريره للحكومة اللبنانية قال إن حصر الجثث هو في حدود ال «٣٢٨» ضحية، لكن لجنة التحقيق الإسرائيلية التي تشكلت تحت ضغط محلي قالت إن العدد هو (460) جثة قبل أن تلجأ لتعديل الرقم بالتنسيق مع جهات لبنانية ليصل إلى (700) فيما نسب تقرير لإذاعة بي بي سي إلى مصادره هنا وهناك أن العدد يتجاوز ال (800) .. ناشطة حقوقية لبنانية أجرت إحصاء استقصائياً بين (17) قائمة تفصل أسماء الضحايا لتصل إلى رقم (1300) ، فيما أعلن الصحفي البريطاني ذائع الصيت روبرت فيسك نقلاً عن مسؤول في المجموعات اللبنانية المسلحة التي اشتركت في تنفيذ المذبحة) رفض كالعادة الكشف عن اسمه) أن جنوده قتلوا ما لا يقل عن (2000) فلسطيني .. الصحفي الفرنسي من أصل يهودي أمنون كابيلوك صرح أن الصليب الأحمر قام بتسجيل أسماء (3000) ضحية في ملفاته ، بينما جمع أفراد المليشيات أشلاء (2000) جثة إضافية. .. عثر من بين الضحايا على أكثر من ستمئة طفل أكبرهم في العاشرة غارقين في دمائهم وألف ومئتي امرأة تم اغتصاب نصفهن، وأربعمئة وخمسين شيخاً تجاوزوا السبعين ذُبحوا بالسكاكين، ونحو مائتي معتوه وألف من العمال والمدرسين والأطباء، تم إطلاق الرصاص على رؤوسهم.. وأكثر من مئتي شاب لبناني من المتعاطفين…
قررت لجنة التحقيق الإسرائيلي توجيه اللوم إلى شارون الذي رفض ذلك وقدم استقالته من الحكومة وشكل حزباً قاده مباشرة لانتزاع مقعد رئيس الوزراء .. اكتفت اللجنة بذلك اللوم المرفوض.. فيما تبادل زعماء العالم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس ورؤساء الوزارات والأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان ورجال الأعمال وجميع وسائل الإعلام التهاني بقرار اللجنة الإسرائيلية ووصفوه بالحكيم..! مرت قبل ستة أشهر 15 مايو الذكرى السادسة والسبعين لجريمة سرقة عصابة مؤدلجة بفكر تكفيري عنصري أرض فلسطين العربية، وسط ترحيب منقطع النظير من العالم الأول وشبه تصفيق من العالم الثاني وغضب خُلبي من بقية العوالم .. جريمة ما زالت طازجة حتى اليوم.. ما زالت دماء الفلسطينيين التي سالت منذ ال 1948 حارة، راعفة بالحلم والأمل والتحدي والعناد والثقة .. ستظل فلسطين بوصلة القلب وليخسأ التافهون.