أدباء وشعراء عالميون يجيبون
في كتاب عنوانه (سراج الرعاة.. حوارات مع كتاب عالميين) لمؤلفه «خالد النجار»، أجرى خلاله الكاتب حوارات ممتعة مع عدد من أدباء وشعرء العالم، نجد أن للشعر والشعراء مكانة بارزة في فلسفاتهم بينما يقدمون رأيهم.. نلخص هنا ما قاله كل من الأديب الإيطالي ألبيرتو مورافيا، والشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، والشاعر الفرنسي بيير أوليفييه، حول الشعر والشعراء.
(1)
الشاعر لا يمكن أن يكون هامشياً فموقعه في قلب اهتمامات العالم وهمومه تقع في المركز.
)مورافيا(
فالأديب الإيطالي «ألبرتو مورافيا» يرى اللحظة كثافة حيوات وأزمنة والموازي لكل حياة، وهي في نظره سمة يحوزها الشاعر. يشتغل على الكتابة في كل وقت تأهبا للقبض على كل شيء في هذه اللحظة، خوفاً من أن تغيب نجمة عن قصيدته، أو تفلت منه إشارة إنسانية صغيرة.
في وصفه لموقف الشعراء الإنساني الذين يساهمون في تطوير الحياة، وما يوجد في الشعر الحقيقي الذي يكتبونه من قوة اجتماعية وتاريخية مستمرة، يقول: «لا يرون في زنزانة السجن المعتمة السماء والبحر والأشجار والنساء، بل يرون في أعماقهم -بينما هم مغمضو العيون وأجسادهم معذبة- ضوء الأشياء الحقيقي، جوهرها، ويحبونها بشكل أعنف، ويتسلل هذا الضوء الذي عانوه في الداخل إلى قصائدهم التي تمثل أملا له وللآخرين».. القصيدة في نظره لا تُعرّف، وكل تعريف بالنسبة إليه هو خاطئ بالضرورة، لأن العمل الشعري بألف وجه؛ لذلك يظل متعاليا على كل تعريف، بما لديه من عمق يستعصي على الفهم، لدرجة يمنح النقاد تفاسير متعددة ومختلفة يعجزون معها عن استنفاذ قصيدة حقيقية؛ لما تحتويه على قدر من المجهول إلى جانب المعلوم.
القصيدة في نظر مورافيا لا تقيّم من خلال ما تقوله بل من خلال ما تكونه وهي الأقدر على أن تحرّك في القارئ طاقته الذاتية الخلاقة.. الشعر الحقيقي -كما يرصد موقعه- يقع في مكان التقاطع الذاتي مع الموضوعي باعتباره معاناة أبدية مع الكلمة، إذ لا يتعاطى فيه الشاعر فقط مع الأشياء العابرة والمتغيرة، بل ويهتم في الآن ذاته مع الأبدي وبالثوابت التي تظل عصية على التغيير رغم تبدل النظم الاجتماعية؛ حيث الشعراء هم من يشكلون المشاعر الاجتماعية، وهنا تأتي مسؤوليتهم لتنظيمها وتحقيق اكتمال الإنسان من خلالهم. .ولم يكن الشاعر بالنسبة إليه هامشيا ولا يمكن أن يكون كذلك مهما بدا ذلك، فموقعه في قلب اهتمامات العالم، وهمومه تقع في المركز من هذه المساحة، وإن كان ما يكتبه يهم العالم فإن العالم سيهتم به ولو تأخر الزمن؛ حيث يكون الاعتراف به بقدر ما يتعرف العالم إلى وجه هذا الشاعر في شعره. آملا أن يأتي اليوم الذي يضيء فيه العمل الفني شعباً وبلاداً.
( 2)
الشاعر لا يعيش في الحاضر ولا في الماضي بل هو يهئ حياة المستقبل.
)ريتسوس)
مهما حاول النقاد تفسير القصيدة ثمة ركن ما داخلها عصي على الفهم وغامض؛ فالشعر في نظر الشاعر اليوناني «يانيس ريتسوس» هو التحقق السري للسر، لذا هو يرفض إعادة ما سبق أن قاله، وعندما يطلب منه الإجابة عن شيء، يجيب: «لقد أجبت في شعري». كل ما يريد أن يقوله قاله من خلال القصيدة، والجواب ماثل في أول عمل شعري له وهو (ملاحظات على هامش الزمن)، حين قال في قصيدة عنوانها (تقريبا):
(يمسك في يديه أشياء متباينة،
حجراً مكسوراً، عُلبتي كبريت محترقتين
المسمار الصدئ للجدار المواجه
ورقة الشجرة التي مرقت عبر النافذة
والقطرات التي تتساقط من أصص الزهور المرويّة
والقش الذي حطّته رياح البارحة في شعرك هي تأخذه
وهناك، في الفناء، تنشئ تقريباً شجرة.
وفي هذا التقريب يقع الشعر. هل تراه؟)
تقول إحدى فلسفاته حول الشاعر، إنه: «لا يعيش في الحاضر التاريخي، ولا في الماضي التاريخي، بل هو يهئ حياة المستقبل». إلى جانب ما يتذكره من الماضي، يتذكر ريتسوس حتى الأشياء التي لم تقع والتي ما تزال في المستقبل. وحين يتذكر المستقبل يشعر في الآن نفسه أنه يهيئ المستقبل، لأجل حياة أجمل، حياة تسودها الأخوة والعدالة والحرية والسلام. وحين يستقبل شخصا كما لو أنه يعرفه منذ زمن بعيد، وأنه التقى به في المستقبل، حتى لو لم يلتق به مجدداً.
(3)
الشعراء، شعرهم نشيد محبة، صمدوا عبر القرون لأنهم تغنوا بمحبة الوطن وبآلام المقهورين، ورفضوا مهانة الإنسان والتفاوت الطبقي.
(أوليفييه)
الشاعر الفرنسي «بيير أوليفييه» يرى أن من يستحق لقب الشاعر هو من يمتلك قلباً حساساً لمعاناة الناس ويكون ملتصقاً بالأرض، ليشهد على عصره وفقاً لما يقوله الشاعر التركي ناظم حكمت، وهؤلاء بحسب أوليفييه صمدوا عبر القرون لأنهم تغنوا بمحبة الوطن، وبآلام المقهورين، ورفضوا مهانة الإنسان والتفاوت الطبقي، وما شعرهم إلا نشيد كبير لمحبة الناس، يدفئ قلوبهم هؤلاء ويدفعهم للعمل نحو عدالة أكثر، وحرية أكثر، وفرج وجودي.
نظرة أوليفييه للشعر هي أنه مواز للوجود؛ لأجل هذا -يقول- نجد شاعر عصرنا كمن سبقه من شعراء الزمن القديم لا يكتفي بالتغني بالعشق، بالسماء الزرقاء والعصافير الصغيرة، ذلك أن الوجود بالنسبة إلى أغلب البشريين -أيا كان انتماؤهم- بعيد عن أن يكون شعراً. وهو حين يفكر في الإخوة الفلسطينيين وغيرهم من المناضلين من أجل تحرير أوطانهم من الاحتلال، يعرّف القصيد بأنه نشيد يصعد من أعماق القلب. يراه سلاح أكثر خطراً ومجداً من الطاقة النارية.