فنان ارتبط اسمه في نظري بنمط رسم يحمل خصوصية وتميزاً، حتى أن طريقته في ذلك خارجة عما هو مألوف. فقط تأمل لبرهة إحدى لوحات الكاريكاتير التي يرسمها، سوف تدرك مدى اختلافها، سوف تشعر بأنها تنطق.
كل فراغ في لوحة أو في حائط بالنسبة إليه جماد عليه أن يتنفس، عليه أن يتحدث، وأن يوصل رسالة ناقدة أو جمالية ما، وهذا الفنان قدير في تحقيق ذلك عبر ريشته وألوانه.
في هذا الحوار نستضيف “نزار سيالة” عدو الجدران البيضاء، كما يصف نفسه، ليحدثنا عن تجربته في رسم الكاريكاتير.
حاوره: مصطفى حموده
لا يمكن لكلمة حرة أن تقال من وراء القضبان أو تحت نظام قمعي مستبد
لابد أن لبدايتك في مجال الرسم قصة تستحق أن تروى، أخبرنا عما جعلك تمارس فن الرسم وتستمر فيه..
نزار سيالة: كنت في السنة الأولى أو الثانية من المرحلة الإعدادية، وأذكر أنه استفزتني تهديدات أستاذ اللغة العربية (مصري الجنسية) لنا بالعقوبات التي سينزلها على المتهاونين في أداء الواجبات المدرسية، أو حال عدم الامتثال للنظام العام بالمدرسة (مشاغبة)، حينها قمت خلسة برسمه في “بورتريه” كاريكاتير على ورقة كراس الواجبات بشكل شخصية مخيفة.
كنت أتفرس في ملامحه وأقوم بنقلها مباشرة إلى الورقة باعتبار أنه في ذلك الوقت لم يكن قد انتشر التصوير عبر الهاتف. وأثناء رسمي له أثارت ضحكات زملائي انتباهه فاقترب مني ليكتشف ما قمت به. أخذ مني الرسم وقال لي في غضب وهو يضحك “جتلك داهية، إنتا طلعتلي منين”، وأفاد بأنه لم يتعرض لموقف من هذا النوع طوال حياته، وبأنه حائر في كيفية التعامل معه. طلب مني أن يحتفظ بالبورتريه، ووعدني بأنه لن يقوم بإرسالي للإدارة لتلقي العقاب، لكنه سيقوم بخصم 5 خمس درجات من معدلي العام، وكانت في حينها عقوبة مؤلمة جد، إلا أنها أهون من عقوبة الإدارة المدرسية واستدعاء ولي أمري في نظري. بعد هذا الموقف، من حين لآخر صار يهتم بي، ويخبرني أنه يجب علي “الاهتمام بموهبتي” ويحثني على دخول معهد للفنون لتطوير هذه الموهبة.
ما هو الظرف الذي حدث في حياتك جعلك تنتقل من مرحلة الموهبة في رسم الكاريكاتير إلى مرحلة الاحتراف؟
نزار سيالة: كان لوالدي فضل في دفعي لمرحلة الاحتراف عندما رأى اجتهادي وسيري على النهج العصامي وملاحظته لإصراري على الرسم، ولقد انتبه إلى أن الحيطان البيضاء كانت عدواً لي؛ حيث يشاهدني ممسكاً بأدوات الرسم أرسم وألون كل مساحة بيضاء موجودة بالبيت، كما لاحظ مشاركاتي في المناسبات الوطنية، وأعمال الديكورات والأعمال الحائطية المدرسية، وأيضا ملاحظته تحقيقي لمبيعات متواضعة من وراء هذا الفن، وشرائي لمستلزمات الرسم، ومن هنا قدم أعمالي لصديقه وابن عمه الأستاذ “امحمد علي سيالة”، مدير قسم الطوابع البريدية، حين ذاك أعجب بأعمالي الواقعية فقام بالترويج لها، ومن ثم ضمني إلى فريق يعمل تحت إشرافه مكون من أربعة فنانين يقومون برسم لوحات ويبيعها لمعارض، ذلك بحكم علاقاته بالسفارات الأجنبية ومعارفه من الدبلوماسيين وإقامته في أوقات خارج البلاد.
وكان “امحمد سيالة” المعروف بصراحته التي لا يفرق فيها بين قريب أو بعيد، والمعروف بعدم المجاملة، كان يخبرني بأن زبائنه يفضلون أعمالي لكونها تحمل طابعاً مميزاً من حيث الألوان والأداء، وهذا الأمر كان دافعاً كبير ومحورياً في حياتي من ناحية دفعي للاحتراف والانطلاق والمشاركة في المعارض داخل ليبيا وخارجها.
ما هو النمط أو الأسلوب الذي تتبعه في رسمك للكاريكاتير؟ وهل طريقتك وأسلوبك في الرسم هو من ابتكارك أم انك متأثر بفنانين آخرين؟
نزار سيالة: أسلوبي المتبع هو أسلوب الواقعية المباشرة، وحقيقة لم أجد نفسي إلا في نفسي، لم أتأثر بأي فنان محلي أو دولي مع كل احترامي وتقديري للفنانين الكبار في ليبيا وخارجها، وقد لاحظ المشاهدون والمتلقون ذلك في أسلوب رسمي من خلال المعارض التي أقيمها، ويخبرونني أن أعمالي مميزة بأسلوبها الخاص.
وكما تعرف أن اللوحات في المعارض سواء على المستوى المحلي أو الدولي تجد توقيع الفنان على اللوحة، بينما لا تجد هذا التوقيع في أعمالي، لأن العمل في نظري هو بصمتي، وبعد أن يعرف العمل يعرف توقيعي، وأنا لا تهمني نفسي بقدر ما تهمني الرسالة التي يحملها عملي، لأنني ذاهب بينما الفن سيبقى من بعدي، ولذلك أسجل توقيعي بشكل مبهم مع تاريخ الانتهاء من الرسم وفقط.
ترسم الكاريكاتير والفن التشكيلي الواقعي، إلى أي منهما تميل أكثر وتسخر له الوقت الأكبر؟
نزار سيالة: كلاهما جزء لا يتجزأ من حياتي وشخصيتي ومسيرتي، إلا أن الكاريكاتير يحمل عندي مكانة أسمى، من حيث الكلمة الحرّة والوقوف في وجه الظلم والاستبداد والفساد وكشفه ما وراء الكواليس وقدرته على نزع الأقنعة، هو مسيرة وثورة سامية ويستحق المضي في سبيله حتى النهاية، وستكون البداية بالطبع لفنان آخر يكمل مع نفس الراية.
وحقيقة في أسلوب حياتي وكل من عرفني يعلم ذلك، فمن بعض الصفات التي أحبها في نفسي وأفخر بها أنني لا أتهاون أمام الظلم، أقف مع الضعيف بأي طريقة كانت ولو كان بكلمة الحق، ولأنه لم تكن لدي قوة نابعة من سلطة أو قبيلة أو جيش تسمح لي بردع الظلم، استعملت قوتي المتمثلة في الريشة من خلال الكاريكاتير، وهذا هو نهجي وأسلوبي، حتى أن رسوماتي الكاريكاتيرية موجهة وتستهدف أشخاصاً بعينهم يثبت فسادهم بالأدلة بوضعهم في صورة المستبدين.
– لا تجد توقيعي في أعمالي لأن العمل في نظري هو بصمتي
فن الكاريكاتير يوصف بفن الحرية، في اعتقادك كيف يمكن أن نفهم ذلك، هل المقصود أنه فن يحارب من أجل الحرية أم أنه فن لا ينتج عنه إبداع إلا في مجال حر؟
نزار سيالة: كلاهما.. لا يمكن أن يكون هناك كاريكاتير كلمة حرة وناقدة إلا في مجال وبيئة حرة، بمعنى أنه لا يمكن لكلمة حرة أن تقال من وراء القضبان، أو تحت نظام قمعي مستبد.
ذلك يعني أن رسام الكاريكاتير لا يبدع في مناخ لا تتوفر فيه الحرية. ولا يستطيع التعايش مع أنظمة تسلطية تفهم كل شيء أنه رسائل موجهة ضدها!
لا يمكن بأي شكل من الأشكال لرسام كاريكاتير أن يتعايش مع أنظمة تسلطية، هذا رأيى وأقوله بإصرار، قد يتراءى للبعض تجارب رسامين في الأنظمة الدكتاتورية وتعاطيهم معها، هذا يحدث فعلاً مع رسامين مشهورين ذوي قدرات كبيرة جداً من حيث الإبداع والتأثير، طوعوا ريشتهم لخدمة الأنظمة بالنسبة لبعض الفنانين، ونحن لا نعلم ظروفهم، قد يكون ذلك تحت الضغط أو تحت الإكراه، ولكن كثيراً من رسامي هذا الفن يتنافرون مع هذه الأنظمة ولا يتعاطون معها أبداً، بل منهم من يعتزل هذه الرسالة النبيلة نهائياً خشية الاعتقال والتعذيب والقتل، وبعضهم يقرر المواجهة ويموت في سبيل ما يعتقد أنه الحق، وآخرون لا مع هذا ولا مع ذاك، يجد نفسه مبتعداً عن نقد الاستبداد في الميدان السياسي وفي ظلم ونفاق المجتمع والأسرة والفرد.
لم ولن أسعى للنشر في الصحف الفرنسية
فلا يمكن أن أتقن كلمة الشارع الفرنسي أكثر من رسام الكاريكاتير الفرنسي
في ليبيا عشت أكثر من مناخ، مرحلة قبل الحرب وأثنائها وبعدها، ثم هاجرت إلى فرنسا، فما الفرق بين تجربتك خلال هذه المراحل؟ هل لاحظت تغيراً طرأ على نوعية وأسلوب رسمك للكاريكاتير؟
نزار سيالة: فيما يخص الفن التشكيلي الواقعي، بلا شك أن المناخ في دولة أخرى تحمل ثقافة وبيئة وألوان وطبيعة غير بلد المنشأ يؤثر بلا أي شك في الأسلوب والروحانية في التعاطي مع اللوحة الفنية، خاصة وأنني متخصص إلى حد ما في المباني التاريخية والقصور والزخارف، وهذا متوفر في جمهورية فرنسا وكذلك اسبانيا، وهو يلهمني ويدفعني إلى العمل والإبداع، أنقل وأعكس في الوقت نفسه بيئتي الليبية ومناخي وترابي الذي نشأت فيه. وحقيقة لقد وجدت نفسي في المهجر بشكل أكبر.
هناك عديد الجمعيات والمؤسسات التي تدعم الرسامين، هل نظمت معارض في فرنسا؟
نزار سيالة: نعم.. لقد انتسبت إلى جمعية تدعم الفنون والفنانين وشاركت عن طريقهم في تنظيم ملتقً، وكان فرصة لإثراء الحديث والتبادل المعلوماتي والثقافي، وهي تجربة مهمة للتعرف على الفنانين والتواصل معهم، فقمت بعرض لوحات عن ليبيا كوني أمثل بلدي، إلى جانب بعض اللوحات عن فرنسا، وكان لي الفخر والشرف في عرض جوانب مشرقة من بلادي في لوحة زيتيه فنية إلى جزء آخر من العالم، وهذا أعطاني إحساساً وكأنني سفير لبلدي في مجال الفن أقدم ليبيا الحضارة والتقاليد والثقافة. وقد لاقى المعرض اهتماماً من الحضور، وتم على هامشه عقد مقابلة صحفية معي نشرت في إحدى الصحف المحلية الفرنسية.
رسم الكاريكاتير و التشكيل جزء لا يتجزأ من حياتي، إلا أن الأول يحمل عندي مكانة أسمى ، لقرته على الوقوف في وجه الظلم و الاستبداد و الفساد
الليبية: يمتاز أسلوبك في الرسم بطابع خاص يكاد يكون يميزك، ولديك احترافية عالية في التعبير عن المواقف الاجتماعية والسياسية والإقتصادية غيرها، هل حاولت النشر في الصحف الفرنسية؟
نزار سيالة: أشكرك على هذا الإطراء، وأعتز بشهادتك. حقيقة لم أحاول الرسم لصحف فرنسية، وكما أسلفت سابقاً قامت صحيفة بعمل لقاء صحفي معي وثم نشر المقال وكان ذلك فيما يخص الفن التشكيلي الواقعي، أما ما يخص الكاريكاتير فأنا لن ولم أسعى للنشر في الصحف الفرنسية لعدة أسباب، منها: أن رسام الكاريكاتير يتكلم عن بلده كونه ابن بيئته، فلا يمكن أن أتقن كلمة الشارع أو البيت الفرنسي أكثر من رسام الكاريكاتير الفرنسي نفسه، إلا أني أنشر أعمالي الكاريكاتورية في منصات التواصل الاجتماعي والتي تغطي الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية المحلية والفرنسية والدولية، كما أخطط لعمل معرض للكاريكاتير وسوف أتشرف بالتواصل معكم في إحاطتكم علما بتفاصيل الخبر إن شاء الله.