×

لحم بالمجان

الصديق بودوارة

لحم بالمجان

        د‭. ‬الصديق‭ ‬بودوارة‭ ‬المغربي

في‭ ‬التيبت‭ ‬البعيدة،‭ ‬يعتقد‭ ‬البوذيون‭ ‬بممارسة‭ ‬تبدو‭ ‬غريبة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا،‭ ‬بل‭ ‬ومستهجنة‭ ‬وغير‭ ‬مقبولة‭. ‬أنهم‭ ‬ينقلون‭ ‬جثة‭ ‬المتوفي‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬مرتفع،‭ ‬ويتركونها‭ ‬هناك،‭ ‬ويتأملون‭ ‬المشهد‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الخشوع‭ ‬والرهبة‭.‬

في‭ ‬ذلك‭ ‬المكان،‭ ‬تكثر‭ ‬النسور،‭ ‬وبطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬الجثة‭ ‬وليمة‭ ‬شهية‭ ‬لمناقيرها‭ ‬المعكوفة‭ ‬الصلبة،‭ ‬وتبدأ‭ ‬في‭ ‬مجاميع‭ ‬حفلة‭ ‬الأكل‭ ‬والالتهام‭ ‬وربما‭ ‬الضحك‭ ‬أيضاً،‭ ‬هذا‭ ‬لو‭ ‬تصورنا‭ ‬أن‭ ‬النسور‭ ‬يمكنها‭ ‬الضحك‭.‬

بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬طقس‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بدون‭ ‬أسانيد‭ ‬يتكيء‭ ‬عليها،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬لا‭ ‬يفعلون‭ ‬ما‭ ‬يفعلونه‭ ‬بدون‭ ‬منهج‭ ‬يقودهم،‭ ‬فهم‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الجسد‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬شيئاً،‭ ‬إنه‭ ‬مجرد‭ ‬وعاء‭ ‬كان‭ ‬يستضيف‭ ‬الروح،‭ ‬ومادامت‭ ‬الروح‭ ‬قد‭ ‬تحررت،‭ ‬فلا‭ ‬قيمة‭ ‬للجسد،‭ ‬إنه‭ ‬يصبح‭ ‬عند‭ ‬ذاك‭ ‬مجرد‭ ‬كومة‭ ‬من‭ ‬اللحم،‭ ‬ومادام‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬فلا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬كسب‭ ‬مودة‭ ‬النسور‭ ‬بمائدة‭ ‬من‭ ‬لحمٍ‭ ‬ساخن‭ ‬لا‭ ‬تنقصه‭ ‬طيبة‭ ‬المذاق‭ .‬

مشكلة‭ ‬هذا‭ ‬الطقس‭ ‬إنه‭ ‬يرسخ‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬الانسان‭ ‬التيبتي‭ ‬أن‭ ‬الجسد‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬له،‭ ‬الروح‭ ‬فقط‭ ‬هي‭ ‬الأساس،‭ ‬وهي‭ ‬الركيزة‭ ‬التي‭ ‬يركض‭ ‬بها‭ ‬المرء‭ ‬طيلة‭ ‬حياته،‭ ‬وهي‭ ‬القيمة‭ ‬المقدسة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬قداسة‭ ‬بعدها،‭ ‬وهذه‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬حقيقة‭ ‬راسخة‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬ان‭ ‬نعتقد‭ ‬بغيرها،‭ ‬ولكن‭ ‬أين‭ ‬تكمن‭ ‬المشكلة‭ ‬هنا؟

إنها‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬طغيان‭ ‬قداسة‭ ‬الروح‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬الجسد،‭ ‬فالجسد‭ ‬حسب‭ ‬هذا‭ ‬الطقس‭ ‬مجرد‭ ‬وعاء‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬وعظم،‭ ‬وعاء‭ ‬بدون‭ ‬قيمة‭ ‬ولا‭ ‬هيبة،‭ ‬إنه‭ ‬كوعاء‭ ‬الفخار‭ ‬بالنسبة‭ ‬للماء،‭ ‬قيمته‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬وعاء‭ ‬صنع‭ ‬من‭ ‬فخار،‭ ‬لكن‭ ‬قيمته‭ ‬الحقيقية‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬الذي‭ ‬يحتويه،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يفرغ‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬حتى‭ ‬يصبح‭ ‬كسره‭ ‬أو‭ ‬تشققه‭ ‬مجرد‭ ‬حدث‭ ‬عابر‭ ‬بلا‭ ‬أهمية‭. ‬فالماء‭ ‬هو‭ ‬القيمة‭ ‬وليس‭ ‬وعاء‭ ‬الفخار‭.‬

هي‭ ‬إذاً‭ ‬معادلة‭ ‬عرجاء،‭ ‬يوجد‭ ‬طغيان‭ ‬هنا‭ ‬للروح‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الجسد،‭ ‬الروح‭ ‬تحتفي‭ ‬بها‭ ‬السماء‭ ‬والجسد‭ ‬تنهشه‭ ‬مناقير‭ ‬النسور‭.‬

في‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬يختلف‭ ‬الأمر،‭ ‬ثمة‭ ‬توازن‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكاره،‭ ‬عند‭ ‬السومريين‭ ‬مثلاً‭ ‬الانسان‭ ‬جسد‭ ‬مخلوق‭ ‬من‭ ‬طين،‭ ‬وروح‭ ‬خلقت‭ ‬من‭ ‬أنفاس‭ ‬الآلهة،‭ ‬وعند‭ ‬الموت‭ ‬يرجع‭ ‬الطين‭ ‬إلى‭ ‬الطين،‭ ‬وتعود‭ ‬الروح‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬نفوذ‭ ‬الآلهة‭ ‬حيث‭ ‬العالم‭ ‬السفلي‭ ‬الغامض‭ ‬بلا‭ ‬تفاصيل‭.‬

في‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬هناك‭ ‬حبك‭ ‬متقن‭ ‬أكثر،‭ ‬لكل‭ ‬فرد‭ ‬روح‭ ‬قرينة،‭ ‬هي‭ ‬‮«‬البا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تغادر‭ ‬الجسد‭ ‬عند‭ ‬الوفاة،‭ ‬لكنه‭ ‬فراق‭ ‬مؤقت‭ ‬لأنها‭ ‬ستعود‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬فترة،‭ ‬ولهذا‭ ‬كانت‭ ‬شريعة‭ ‬التحنيط‭ ‬صارمة‭ ‬ومنظمة‭ ‬ومقننة‭ ‬بعناية‭ ‬وحرص،‭ ‬لأن‭ ‬الروح‭ ‬لن‭ ‬تتعرف‭ ‬على‭ ‬الجسد‭ ‬إذا‭ ‬تعفن‭ ‬وأدركه‭ ‬التحلل،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬التحنيط‭ ‬ضرورياً‭ ‬لكي‭ ‬يحتفظ‭ ‬الجسد‭ ‬بملامحه‭ ‬حتى‭ ‬تتعرف‭ ‬الروح‭ ‬عليه‭.‬

بين‭ ‬معادلة‭ ‬التيبت‭ ‬العرجاء،‭ ‬وبين‭ ‬مفهوم‭ ‬الفراعنة‭ ‬وطين‭ ‬السومريين‭ ‬ثمة‭ ‬رابح‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬إنها‭ ‬النسور‭ ‬التي‭ ‬تنعم‭ ‬بمذاق‭ ‬اللحم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تدفع‭ ‬الثمن‭.  

Share this content: