التوازن الصعب:
الطابع كنقطة التقاء بين الفن والسياسة والتاريخ
من العثمانيين إلى الاستقلال «بداية البريد»
استطلاع : زهرة موسى
بدأت رحلة البريد الحديث في ليبيا أواخر العهد العثماني، حين كانت الرسائل تنطلق من مكاتب الإدارة المركزية مزينة بالطوابع العثمانية الرسمية، شاهدة على عصر كان فيه لكل رسالة مكانتها ودلالتها ومع الاحتلال الإيطالي عام 1911، ظهرت طوابع جديدة، تحمل رموز المستعمر، لتجسد سلطة القوة الأجنبية على الأرض وبعد الحرب العالمية الثانية، شهدت ليبيا إدارات مختلفة في برقة وفزان، فتعددت الطوابع واختلفت، حاملة أسماء المناطق بدل الدولة كأنها تحكي تنوع التجارب السياسية للبلاد.
وعندما أعلن استقلال ليبيا عام 1951، ولد أول طابع ليبي باسم المملكة الليبية»، يتوسطه علم الاستقلال وصورة الملك إدريس ليصبح رمزا لميلاد وطن جديد وفي العقود التالية، تغير شكل الطابع مع التحولات السياسية، من الجمهورية إلى الجماهيرية، فكانت الطوابع أحيانًا أدوات خطاب سياسي تحمل صورا وشعارات رسمية، وأحيانًا مجرد لوحات صغيرة توثق المعالم التراثية والثقافية لليبيا.

الفن والطابع: لقاء التاريخ والإبداع
ومن بين رواد الرسم البريدي في ليبيا، يبرز الفنان محمد سيالة، الذي أمضى سنواته في تجسيد التاريخ والهوية على الطوابع. شغفه بدأ منذ أيام الدراسة في إيطاليا، حيث كان يقلد ويرسم الطوابع، مستلهمًا خبرة الفنان الإيطالي جورجيو فانديلو.
يقول سيالة في لقاء نشر له عبر موقع ( بوابة الوسط ) إن الطابع في ليبيا لم يكن مجرد ورقة صغيرة، بل أداة تاريخية وفنية. ففي الستينيات، حين كان يعمل في البريد، أطلق أول أعماله الرسمية في الأول من سبتمبر 1969 بعنوان «جيشنا ذراعنا الواقي»، معبرًا عن الموروث الوطني في قالب فني صغير.
ويشير إلى أن الطوابع تتغير دائمًا وفق المراحل السياسية: العهد الملكي، الجمهورية، الجماهيرية، وكل مرحلة حملت رموزها على الورق. بعض الطوابع النادرة، مثل مجموعة «فزان الأولى»، لم يبق منها سوى القليل اليوم، لكنها تحمل قيمة تاريخية وفنية عالية.
نموذج ليبي يصبح عالمي
يصف سيالة الطابع بأنه توازن بين التاريخ والسياسة والفن، مضيفًا ابتكاره لتصميم ستة عشر لوحة صغيرة في مربع واحد، نموذجًا ليبيًا أصبح لاحقًا عالميًا. ويؤكد أن الطوابع لم تعد وسيلة اتصال فقط، بل هواية وذاكرة واستثمارًا، حيث قد تصل بعض الإصدارات الملكية إلى آلاف الدولارات.
ويختتم حديثه بأمنية واضحة: أن يُؤسس متحف للطوابع البريدية في ليبيا، يحفظ ذاكرة الوطن ويجمع شتات تاريخه الضائع.

الطابع البريدي كجسر للذكريات
بين صفحات الطوابع البريدية، تكمن قصص لا تظهر في الأرشيف الرسمي، لكنها حقيقية في ذاكرة الهواة «مروة إبراهيم» كانت شاهدة على ذلك منذ صغرها، حين أصبح الطابع أكثر من مجرد ورقة صغيرة، بل جسرًا يربطها بعالم أكبر.
تعود مروة بذاكرتها إلى أواخر ثمانينات القرن الماضي، زمن بدون إنترنت ولا هواتف نقالة، حيث كانت قراءة المجلات الأجنبية نافذة على العالم، ومن خلالها بدأت اكتشاف الطوابع البريدية والتعرف على أصدقاء يشاركونها الشغف نفسه.
وتستعيد مروة لقاءها مع جيرانها المغاربة:
«كان لديهم أرفف مليئة بالكتب والمجلات، ومعظمها يحتوي على طوابع ملونة من أنحاء العالم. كنت أذهب كل يوم أبحث عن جديد، وأدهشني شغف ابن جيراننا المغربي، الذي جمع الطوابع بعناية فائقة.»
وفي عام 1997، وبعد رحيل الجيران، أهدى لها صديقها المغربي مجموعته الكاملة من الطوابع، التي كانت تحمل صورًا للملوك، آثارًا وأهرامات مصرية. بالنسبة لها، لم تكن الطوابع مجرد ورق، بل جسر يصلها بتلك الأماكن البعيدة.
لكن السنوات الطويلة حملت معها خيبة أمل:
«في هذا الصيف، وبعد كل تلك السنوات، تمزقت تلك الطوابع ورُميت… فقدت الأمل. كانت الطوابع أكثر من أوراق صغيرة، كانت ذاكرة كاملة .»

من مكتب البريد إلى دفاتر الهواة
ورغم تراجع الرسائل الورقية، ما زال هناك هواة يجمعون الطوابع، بعضهم لأغراض شخصية، وبعضهم لأرشفة التاريخ أو الاستثمار ، يقول «عبدالقادر القاضي ، أحد موظفي البريد القدامى وكاتب حسابات بمخزن الطوابع والبطاقات البريدية، إنه التحق بقطاع البريد منتصف الثمانينات، حيث بدأ عمله في قسم البرقيات ثم انتقل إلى فرز الرسائل وتوزيعها، قبل أن يستقر في مخزن الطوابع.
وأوضح القاضي أن خدمة البريد في الجنوب الليبي بدأت قبل الاستقلال، لكنها شهدت تطورًا أكبر بعد العام 1952، وكانت تعتمد بشكل كامل على العمل اليدوي في تسجيل الرسائل وتصنيفها وإرسالها، قبل دخول التكنولوجيا والأنظمة الإلكترونية.
وبيّن أن الرسائل كانت تُصنف إلى رسائل عادية، ورسائل مسجلة، ورسائل بعلم الوصول، وأن أسعار الطوابع كانت تختلف حسب الدولة المرسل إليها البريد، حيث كانت التعرفة تتراوح بين القروش و 10 دينار.
و إصدار الطوابع البريدية كان يتم وفق مناسبات وطنية وثقافية وتاريخية، وتشمل طوابع عن الآثار والمدن الليبية والأزياء الشعبية والشخصيات العامة، إضافة إلى مناسبات مثل ذكرى الاستقلال ويوم البريد العالمي.
ويضيف أنه من هواة جمع الطوابع، وأن هواية جمع الطوابع كانت منتشرة بشكل أكبر في السابق، لكن عدد الهواة تراجع في السنوات الأخيرة نتيجة اعتماد الناس على وسائل التواصل الحديثة بدل الرسائل الورقية.
أنه يملك مجموعة كبيرة من الطوابع جمعها خلال سنوات عمله في البريد و كان يشتري كل عام ألبوماً كاملاً إضافة إلى ثروته التي ورثها من والده الذي كان هو الآخر يهوى جمع الطوابع البريدية ، و يفكر مستقبلاً في أن يورث أبناءه مجموعته ، مشيرا إلى أن أقرب الطوابع إليه هي تلك التي تحمل رموزا تراثية كالقلاع و غيرها .
وأكد أن الطابع البريدي يمثل «وسيلة تعريف ثقافي وتوثيقي» تعكس صورة ليبيا للعالم، موضحًا أنه لا يحمل وظيفة مالية فقط، بل يعتبر عنصرًا بصريًا يساهم في إبراز الهوية الوطنية.
أعتبر أن استمرار إصدار الطوابع ضروري للحفاظ على الذاكرة التاريخية، داعيًا إلى إنشاء متحف للطوابع أو تخصيص معارض مدرسية لتعريف الأجيال الجديدة بهذه الثقافة.. وختم حديثه بالقول إن الطابع البريدي «ليس ورقة صغيرة، بل وثيقة تحفظ جزءًا من تاريخ ليبيا الثقافي والاجتماعي».

الهواة: حراس الذاكرة
و يروي صالح ميلاد صالح، من مواليد عام 1945، أن هواية جمع الطوابع كانت جزءًا مهمًا من حياته خلال فترة الخمسينيات والستينيات. ويشير إلى أنه كان يجمع طوابع من دول عربية وأوروبية متعددة، دون أن يقتصر على بلد واحد، موضحًا أن هذه الهواية لم تكن مجرد جمع لأوراق صغيرة، بل كانت وسيلة للمعرفة والاتصال بالعالم الخارجي.. أما فيما يتعلق بمجموعته من الطوابع، فيقول إنه لا يحتفظ بها اليوم، إذ ضاعت مع مرور الزمن وانتقاله بين البيوت. ورغم ذلك، فإنه ما زال يتذكر حجم الشغف الذي كان يرافق هذه الهواية، والفرح الذي كان يشعر به عند الحصول على طابع جديد يحمل صورة مدينة بعيدة أو معلمًا أثريًا أو شخصية تاريخية.
ويختتم حديثه قائلاً إن الزمن تغيّر كثيرًا اليوم، حيث لم تعد الطوابع والرسائل الورقية تلعب الدور ذاته الذي كانت عليه في السابق، إلا أن قيمتها الثقافية والرمزية تبقى حاضرة لمن عاش تلك التجربة.
تقول « حواء محمد خير الله» موظفة بجامعة سبها، تحدثت عن تجربتها السابقة مع جمع الطوابع البريدية خلال فترة الثمانينيات، والتي بدأت منذ المرحلة الإعدادية واستمرت حتى سنوات الجامعة. وتقول إن المراسلات البريدية كانت آنذاك وسيلة للتواصل وتبادل المعرفة مع أصدقاء داخل ليبيا وخارجها، خصوصًا من الجزائر، المغرب، تونس ومصر.
وتشير حواء « إلى أنها كانت تعتمد على المجلات الثقافية ومجلات الأطفال في الحصول على عناوين مراسلات للتواصل، من بينها مجلتا الأمل والنهضة، بالإضافة إلى مجلات مثل سامر وماجد التي كانت منتشرة في تلك الفترة. ونتيجة لهذه المراسلات، كانت تتلقى رسائل تحتوي على طوابع بريدية مختلفة، مما دفعها إلى الاحتفاظ بها وتكوين مجموعة خاصة منها.
وتوضح أنها كانت تحتفظ بالطوابع في ملفات وتقسّمها بحسب الموضوعات، وكان أكثر ما لفت انتباهها الطوابع القادمة من الجزائر، والتي تضمنت صورًا لمدن ومعالم طبيعية وشخصيات تاريخية وعلمية. كما تتذكر بعض الطوابع الليبية التي حملت صور مواقع أثرية مثل جرمة وبحيرة قبرعون وأكاكوس، بالإضافة إلى طابع يحمل صورة عمر المختار.
وتقول حواء إنها فقدت مجموعتها من الطوابع لاحقًا نتيجة انتقالها بين منازل مختلفة، مشيرة إلى أن ذلك كان أمرًا مؤسفًا بالنسبة لها لأنها كانت مجموعة ذات قيمة معنوية خاصة.
كما روت موقفًا طريفًا حدث خلال تلك الفترة، حين أرسلت لها إحدى الزميلات طردًا يحتوي على فاكهة التفاح عبر البريد، بهدف مشاركتها طعمه. إلا أن الطرد فُقد خلال عملية النقل، ثم وُجد بعد أشهر في أحد المطارات، لكنه كان قد تلف تمامًا. ورغم ذلك، اعتبرت أن الحفاظ على الطرد حتى العثور عليه يعكس التزام البريد آنذاك بحفظ الأمانات.
يقول« نادر جاب» عضو الجمعية الليبية لهواة جمع «الطوابع البريدية » بدأت علاقته بالطوابع في سنوات الدراسة الابتدائية، عندما كان يحتفظ بالطوابع الموجودة على الرسائل القديمة بين صفحات الكتب. ويشير إلى أن ما جذبه في هذه الهواية هو أن الطابع لا يمثل مجرد قطعة ورقية، بل يحمل خلفه حدثًا أو مناسبة تاريخية تستدعي البحث والقراءة لمعرفة سياقها.
يؤكد أن تقييم قيمة الطابع يعتمد أساسًا على الندرة وحالة الطابع، بينما لا يشكل العمر عنصرًا حاسمًا دائمًا؛ إذ توجد طوابع حديثة لكنها نادرة ومرتفعة السعر، مقابل طوابع قديمة متداولة ولا تحمل قيمة كبيرة. كما يشير إلى أن الأخطاء في الطباعة قد تمنح الطابع قيمة إضافية لندرته وتميّزه.. يختص في جمع الطوابع الليبية فقط، وبشكل خاص تلك المرتبطة بـ معرض طرابلس الدولي والطوابع الصادرة خلال فترة المستعمرات. ويستخدم ألبومات وأدوات مخصصة لحفظ الطوابع وتجنب تلفها. .وبخصوص التواصل بين هواة جمع الطوابع، يرى أنه كان أكثر نشاطًا في السابق، أما اليوم فقد انخفض بسبب انشغال الناس وقلة الأنشطة والمعارض والتجمعات الخاصة بالهواة. كما أسهم تراجع استخدام البريد التقليدي وانتشار الوسائل الإلكترونية مثل الرسائل عبر الإنترنت والواتساب في الحد من انتشار هذه الهواية.. ويؤكد أن الطوابع ما تزال تقوم بدور توثيقي، ولكن بشكل محدود في الوقت الحالي. أما مستقبل الهواية في ليبيا، فيراه غير واضح نتيجة غياب الفعاليات التي تعرّف الأجيال الجديدة بها..بالنسبة لقيمة مجموعته، يوضح أن أغلى ما يملك من الناحية المعنوية هي مجموعة إصدارات معرض طرابلس الدولي، حيث شارك بها في معارض ودرسها وكتب عنها. أما من حيث المردود المادي، فهو لا ينظر إلى الطوابع باعتبارها استثمارًا، بل يعتبرها هواية توفر له مساحة للراحة والابتعاد عن ضغوط الحياة، رغم أن قيمتها تزداد مع مرور الوقت.. وفي ما يتعلق بتصميم الطوابع الليبية عبر المراحل المختلفة، يرى أن الطوابع القديمة، سواء خلال الحكم الملكي أو الجمهوري أو الجماهيري، كانت تعتمد على رسومات فنية ذات روح واضحة، بينما أصبحت التصاميم الحديثة تعتمد على الطباعة الرقمية بشكل أكبر، ما أفقدها جزءًا من هويتها الفنية.. أما عن إمكانية تصميم طابع جديد، فيؤكد أنه سيختار تصميمًا يُبرز الهوية الليبية ومعالمها التاريخية باعتبار أن الطوابع عنصر يعكس صورة البلاد وثقافتها.
خاتماً : على الرغم من تراجع استخدام البريد التقليدي وانتشار وسائل الاتصال الحديثة، ما زال الطابع يمثل عنصرا مهما في حفظ الذاكرة الوطنية، ويمثل هواة جمع الطوابع جسرًا للحفاظ على هذه الثقافة، ومؤشرا على الاهتمام بالتاريخ والتوثيق الفني والثقافي. كما أن استمرار إصدار الطوابع وعرضها في المعارض يشكل وسيلة لتعريف الأجيال الجديدة بتاريخ ليبيا وتقاليدها، مؤكدًا أن الطابع البريدي ليس مجرد ورقة صغيرة، بل جزء من ذاكرة الوطن وثقافته.
Share this content: