عائشــة الأصفــر بيــن الهــويــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة والمهمشين في السرد الليبي

تُعد تجربة ‘‘عائشة الأصفر’’ الروائية إحدى أكثر التجارب استحقاقا للقراءة النقدية ضمن سياق الرواية الليبية المعاصرة، ليس فقط من حيث تنوع موضوعاتها واتساع خيالها السردي، بل لما تمثله من محاولة جادة لإعادة تعريف موقع الفرد -والمرأة تحديدا- داخل البنية الاجتماعية الليبية التي شهدت تحولات عميقة خلال العقود الأخيرة، وهي تحولات انعكست بقوة على تشكيل الوعي بالهوية والانتماء ومفهوم الذات؛ إذ تقترح الأصفر عبر أعمالها مشروعا روائيا يتجاوز حدود الحكاية التقليدية إلى بناء سردية تتأسس على مساءلة الواقع وتفكيك العلاقات الخفية بين السلطة والمجتمع والإنسان، دون الوقوع في فخ المباشرة أو الخطابية التي غالبا ما تُضعف السرد العربي حين يقترب من السياسي أو الاجتماعي.
بعد فوزها بجائزة القدس عن رواية «إيشي»:
كتب: مصطفى حموده

في «إيشي»، تجعل الأصفر من المكان حقلًا دلاليًا لتفكيك الانتماء والهوية، وتسليط الضوء على أثر التهميش على الفرد، وقد فازت الرواية بجائزة القدس، مما أكد قوة مشروعها السردي.
ومن خلال تتبع مسارها الروائي منذ «اللي قتلوا الكلب» وحتى «إيشي»، يمكن ملاحظة أن الأصفر لا تشتغل على الموضوع بقدر ما تشتغل على الزاوية التي يُرى منها الموضوع؛ فهي تعيد قراءة الهوية من موقع التجربة الإنسانية الهشة لا من موقع الخطاب الإيديولوجي، وتعيد صياغة السرد من الداخل انطلاقا من طبقات الوعي المقموع، وهي بذلك تخلق نصا يقوم على جدلية بين الواقع والخيال، بين الجرح الإنساني ورموزه، وبين التصوير الواقعي والتخييل الرمزي، وهي جدلية تمنح أعمالها القدرة على الاشتباك مع القضايا الكبرى دون أن تفقد بعدها الفني.
وفي هذا الإطار، تقدم الأصفر في «خريجات قاريونس» و»النص الناقص» نماذج واضحة على رغبتها في تفكيك البنية الاجتماعية من خلال تحليل التوترات التي تحكم علاقة الفرد بمجتمعه، لا سيما حين يتداخل السياسي مع الديني ومع التحولات القيمية المتسارعة التي أنتجت ما يمكن تسميته بـ»الارتباك الهويّاتي» لدى الجيل الجديد؛ حيث تتتبع الكاتبة أثر هذا الارتباك على وعي الشباب، وعلى تمثلاتهم للحرية والدراسة والمستقبل والحياة اليومية، وهو ما يظهر في أساليب السرد القائمة على الحوار الداخلي، وتعدد مستويات الراوي، والانتقال من المشهد الواقعي إلى المشهد الذهني دون فواصل حادّة، مما يكشف عن رغبة الأصفر في تقديم سرد لا يكتفي برصد الواقع، بل يعيد صياغته من منظور التجربة الفردية ووجدان الإنسان، بعيدا عن التفسيرات العامة أو القراءات الشاملة التي تفرضها النظريات الكبرى.
أما في «علاقات حرجة»، فتذهب الأصفر إلى تفكيك أزمة الفكر العربي عبر نص يعتمد البنية السردية كأداة تأملية نقدية، تضع القارئ داخل شبكة من الأسئلة حول فشل المشاريع الفكرية العربية، وهشاشة التصورات الجماعية، والعجز المزمن عن تجديد أدوات التفكير، وهو ما يُظهر قدرة الكاتبة على استخدام الرواية كفضاء حواري بين الثقافي والسياسي والفلسفي دون الوقوع في التنظير، إذ تُبقي السرد في حالة انفتاح دلالي يجعل النص أكثر قربا من القارئ وأكثر قدرة على دفعه للتساؤل حول موقعه داخل هذه الأزمات.
ويبلغ مشروع الأصفر ذروته في «إيشي»، حيث تعود إلى الجنوب الليبي لا بوصفه فضاء جغرافيا فحسب، بل بوصفه ‘‘موقعا للذاكرة’’ و‘‘حقلا دلاليا’’ تتصارع فيه طبقات من التاريخ والمجتمع والجغرافيا والهوية، وتعيد من خلاله مساءلة فكرة ‘‘الانتماء’’ نفسها؛ فالبطلة التي تتخفى في هيئة خادمة إثيوبية ليست مجرد شخصية مهمّشة، بل هي تجسيد مكثف لمعنى ‘‘اللاهوية’’ ولأثر التهميش في تفكيك الذات وحرمانها من حقها في الظهور، ولذا فإن الرواية لا تُقرأ من زاوية الواقعة الاجتماعية فقط، بل من زاوية التحليل النفسي الذي يكشف عن عمق جراح الفرد حين يتحول إلى كائن غير مرئي، ويُدفع إلى تشكيل هويته عبر طبقات من القمع والاستلاب. وقد جاء فوز رواية «إيشي» بـ»جائزة القدس للرواية» ليؤكد قوّة هذا المشروع السردي، ويمنح الرواية الليبية لحظة حضور لافتة في المشهد العربي، إذ يشكّل هذا التتويج اعترافا بخصوصية الصوت الليبي وقدرته على ملامسة الأسئلة الكبرى عبر سرد ينطلق من الهامش ليعيد تعريف المركز، ويضع الرواية الليبية في مسار متقدم داخل خريطة السرد العربي المعاصر.
وإذا كانت الأصوات النسائية في أعمال الأصفر متعددة ومتناقضة ومتشظية، فإن ذلك لا يعكس فقط طبيعة المجتمع الليبي المتنوع، بل يشير أيضا إلى وعي الكاتبة بأن المرأة ليست ‘‘موضوعا’’ بل ‘‘موقعا’’ تُعاد من خلاله قراءة المجتمع، وأن الهوية النسائية ليست جوهرا ثابتا بل بناء اجتماعي وتشكيلي يتبدل بتبدل السياق؛ ومن هنا يصبح تعدد هذه الأصوات امتدادا لمشروع نقدي أعمق يهدف إلى إعادة إنتاج صورة المرأة خارج النمطية، عبر تبيان علاقتها بالسلطة والسياق الاجتماعي والسياسي.

الكاتبة تعتمد على بناء جمالي صارم ورمزية موزونة، لخلق طبقات متعددة من القراءة، حيث توظف التاريخ والذاكرة المحلية لفضح هشاشة السلطة دون تبسيط الواقع.
وتكشف اللغة السردية للأصفر، بميلها إلى الرمزية الموزونة والبناء الجمالي الصارم، عن وعي حاد بطبيعة الرواية كفن لا يكتفي بالتسجيل بل يسعى إلى إنتاج معرفة، وإلى إعادة قراءة الواقع عبر منظومة جمالية تزاوج بين التخييل والتأويل، وتمنح النص طبقات متعددة من القراءة، وهي طبقات يبدو التاريخ فيها جزءا مكوِّنا لا خلفية محايدة، حيث تُوظف الذاكرة المحلية بوصفها امتدادا للحاضر، ويُعاد تدوير الرموز التقليدية في سياق نقدي يفضح هشاشة السلطة الاجتماعية والسياسية دون أن يُصادر تعقيد الواقع أو يقفز إلى استنتاجات جاهزة.

ولعل ما يمنح مشروع الأصفر خصوصيته هو قدرتها على صياغة نصوص تُقرأ على مستويين: الأول سردي يقوم على الحكاية وشخصياتها وتطوراتها، والثاني نقدي-مفاهيمي يتعامل مع الرواية كأداة تحليل اجتماعي وفكري، وهو ما يجعل أعمالها قادرة على ملامسة القارئ العادي والناقد المختص في آن، دون التضحية بمتطلبات الفن أو شروط القراءة الحديثة.
وفي المحصلة، يمكن النظر إلى تجربة عائشة الأصفر بوصفها مشروعا سرديا يسعى إلى إعادة تعريف الرواية الليبية ضمن أفق عربي واسع، عبر نصوص تشتبك مع أسئلة الهوية والفرد والمرأة والتاريخ والسلطة، وتعيد التفكير في علاقة الأدب بالواقع، وتطرح رؤية نقدية للعالم تنطلق من التفاصيل الصغيرة، ومن جراح المهمشين، ومن هشاشة الإنسان وقدرته على إعادة بناء ذاته وسط عصف التحولات، مما يمنح مشروعها أهميته داخل مشهد بات فيه السرد الروائي واحدا من أهم أدوات التفكير النقدي في المجتمعات العربية.
Share this content: