×

الإبداع الفزّاني بين الإهمال والضوء الغائب:

الإبداع الفزّاني بين الإهمال والضوء الغائب:

رغم‭ ‬ما‭ ‬تزخر‭ ‬به‭ ‬فزّان‭ ‬من‭ ‬كتّاب‭ ‬وباحثين‭ ‬ومؤرخين‭ ‬قدّموا‭ ‬أعمالًا‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬فكرية‭ ‬وأدبية‭ ‬عالية،‭ ‬فإن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬حبيس‭ ‬الأدراج،‭ ‬لم‭ ‬يرَ‭ ‬النور‭ ‬بعد‭.‬

سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬مضت‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تحظى‭ ‬هذه‭ ‬المؤلفات‭ ‬بفرصة‭ ‬النشر‭ ‬أو‭ ‬الدعم‭ ‬الرسمي،‭ ‬بسبب‭ ‬غياب‭ ‬سياسة‭ ‬ثقافية‭ ‬واضحة،‭ ‬وتقصير‭ ‬من‭ ‬الجهات‭ ‬المعنية،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬ومكاتبها‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭.‬

الإبداع‭ ‬الفزّاني‭ ‬بين‭ ‬الإهمال‭ ‬والضوء‭ ‬الغائب‭:‬

حين‭ ‬يكتب‭ ‬الجنوب‭ ‬ولا‭ ‬يُقرأ

استطلاع‭ : ‬عزيزة‭ ‬حسين

يجد‭ ‬الكاتب‭ ‬الفزّاني‭ ‬نفسه‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬صامتة،‭ ‬لا‭ ‬ضد‭ ‬الرقابة‭ ‬الفكرية،‭ ‬بل‭ ‬ضد‭ ‬الإهمال‭ ‬الإداري‭ ‬والبيروقراطية‭ ‬والتهميش‭ ‬المتواصل‭ ‬للمشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬الجنوب،‭ ‬الذي‭ ‬حرم‭ ‬المكتبة‭ ‬الوطنية‭ ‬من‭ ‬كنوز‭ ‬فكرية‭ ‬وأدبية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬توثيق‭ ‬مراحل‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬المنطقة‭ ‬وصياغة‭ ‬وعي‭ ‬ثقافي‭ ‬يعكس‭ ‬خصوصية‭ ‬فزّان‭ ‬وعمقها‭ ‬الحضاري‭.‬

أمام‭ ‬هذا‭ ‬الواقع،‭ ‬تُطرح‭ ‬أسئلة‭ ‬كثيرة‭ ‬حول‭ ‬دور‭ ‬المؤسسات‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬الإبداع‭ ‬الفزّاني،‭ ‬ومسؤوليتها‭ ‬في‭ ‬إنصاف‭ ‬المبدعين‭ ‬الذين‭ ‬ظلّوا‭ ‬خارج‭ ‬دائرة‭ ‬الضوء،‭ ‬كما‭ ‬تُثار‭ ‬تساؤلات‭ ‬حول‭ ‬البدائل‭ ‬الممكنة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬أدبية‭ ‬وتاريخية‭ ‬تتآكل‭ ‬بصمت‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬الليبي‭.‬

الإبداع‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬التهميش

يقول‭ ‬الكاتب‭ ‬عبد‭ ‬السلام‭ ‬الأمين‭: ‬‮«‬أبرز‭ ‬العقبات‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الناشر‭ ‬الذي‭ ‬يتبنى‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية،‭ ‬رغم‭ ‬وجود‭ ‬إدارة‭ ‬خاصة‭ ‬بالنشر‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭. ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬حاولت‭ ‬نشر‭ ‬كتبي‭ ‬على‭ ‬حسابي‭ ‬الخاص،‭ ‬واجهت‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعار‭ ‬النسخ،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬ضعف‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الكتّاب‭ ‬والجهات‭ ‬المعنية‭ ‬بسبب‭ ‬قلة‭ ‬المناسبات‭ ‬الثقافية‭ ‬والأنشطة‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬للكاتب‭ ‬عرض‭ ‬إنتاجه‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬البلديات‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الدولة‭.‬‮»‬

ويضيف‭: ‬‮«‬عندما‭ ‬قدمت‭ ‬نفسي‭ ‬إلى‭ ‬المثقفين‭ ‬وأصحاب‭ ‬دور‭ ‬النشر،‭ ‬كان‭ ‬الترحيب‭ ‬حاضرًا،‭ ‬لكننا‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬نفتقر‭ ‬إلى‭ ‬روح‭ ‬المبادرة‭. ‬هناك‭ ‬كتّاب‭ ‬نجحوا‭ ‬لأنهم‭ ‬سعوا‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬ووجدوا‭ ‬من‭ ‬يتبنى‭ ‬أعمالهم‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬وخارجها‭.‬‮»‬

ويتابع‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬تخصصي‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬البدنية‭ ‬دفعني‭ ‬للكتابة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التدريب،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬ناجحة‭ ‬رغم‭ ‬قلة‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالرياضة‭. ‬لكن‭ ‬الكتابة‭ ‬الثقافية‭ ‬تظل‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬قلبي،‭ ‬لأنها‭ ‬تقربني‭ ‬من‭ ‬مجتمعي‭ ‬وتساعدني‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬يفقده‭ ‬من‭ ‬هوية‭ ‬عربية‭ ‬ليبية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬العولمة‭. ‬الكتابة‭ ‬الرياضية‭ ‬أصعب،‭ ‬لأنها‭ ‬تتطلب‭ ‬متابعة‭ ‬متغيرة،‭ ‬بينما‭ ‬الأدب‭ ‬يمنحك‭ ‬مساحة‭ ‬أوسع‭ ‬للتأمل‭ ‬والتعبير‭.‬‮»‬

وعن‭ ‬مؤلفاته،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ماضي‭ ‬له،‭ ‬لا‭ ‬حاضر‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬مستقبل‭. ‬أردتُ‭ ‬أن‭ ‬أزرع‭ ‬في‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬انتماءً‭ ‬وهويةً‭ ‬وكيانًا‭ ‬روحيًا‭ ‬واجتماعيًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬عشته‭ ‬وما‭ ‬سمعته‭ ‬من‭ ‬آبائنا‭ ‬وأجدادنا‭.‬‮»‬

ويختتم‭ ‬حديثه‭ ‬بنظرة‭ ‬متفائلة‭: ‬‮«‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬بخير‭ ‬بفضل‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬يحاولون‭ ‬تجديد‭ ‬هوية‭ ‬الإنسان‭ ‬الجنوبي‭ ‬بالمهرجانات‭ ‬واللقاءات‭ ‬الثقافية‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬التقاليد‭. ‬ما‭ ‬زلنا‭ ‬نملك‭ ‬جذورًا‭ ‬ثقافية‭ ‬متماسكة‭ ‬تحفظ‭ ‬توازن‭ ‬الشخصية‭ ‬الليبية،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬من‭ ‬عزلة‭ ‬وتحديات‭.‬‮»‬

المهدي‭ ‬جاتو‭: ‬

الكتب‭ ‬في‭ ‬المخازن‭.. ‬والثقافة‭ ‬تنتظر‭ ‬اهتمام‭ ‬الوزارة

قال‭ ‬الكاتب‭ ‬والأديب‭ ‬المهدي‭ ‬جاتو‭: ‬‮«‬كل‭ ‬الثقافات‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬الكتاب،‭ ‬والكتاب‭ ‬مسؤولية‭ ‬الوزارة‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الطباعة‭ ‬والنشر‭ ‬والإعلان‭. ‬وهنا‭ ‬نجد‭ ‬تقصيرًا‭ ‬واضحًا‭ ‬من‭ ‬الإدارة‭ ‬في‭ ‬الوزارة،‭ ‬فالكتاب‭ ‬بالنسبة‭ ‬للكتّاب‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬يعني‭ ‬لهم‭ ‬عصارة‭ ‬أفكارهم‭ ‬وملخص‭ ‬إبداعاتهم،‭ ‬وهو‭ ‬نتاج‭ ‬سنين‭ ‬ومعاناة‭ ‬حتى‭ ‬تمكنوا‭ ‬من‭ ‬رصدها‭ ‬في‭ ‬كتاب‭. ‬لذلك‭ ‬على‭ ‬الوزارة‭ ‬أن‭ ‬تقدر‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المجهودات‭ ‬التي‭ ‬تُبذل‭ ‬من‭ ‬قلوبهم،‭ ‬وألا‭ ‬تطبع‭ ‬الكتب‭ ‬ثم‭ ‬ترميها‭ ‬في‭ ‬المخازن،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬توزع‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬على‭ ‬المكتبات‭ ‬التي‭ ‬تتبع‭ ‬الوزارة‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬فالكتاب‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭ ‬العادي‭ ‬فما‭ ‬الفائدة‭ ‬منه؟‮»‬

ويضيف‭: ‬‮«‬عن‭ ‬تجربتي‭ ‬الشخصية،‭ ‬سلمت‭ ‬كتابين‭ ‬للوزارة‭ ‬ولم‭ ‬يتم‭ ‬الاهتمام‭ ‬بهما‭ ‬إطلاقًا‭. ‬ونلاحظ‭ ‬في‭ ‬الإصدارات‭ ‬بأن‭ ‬أغلبها‭ ‬لا‭ ‬تُولي‭ ‬الاهتمام‭ ‬الكافي‭ ‬بكتّاب‭ ‬الجنوب،‭ ‬وكأننا‭ ‬لا‭ ‬ننتمي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الأغلبية‭ ‬يطبعون‭ ‬كتبهم‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة‭ ‬مستقطعين‭ ‬من‭ ‬قوت‭ ‬يومهم‭ ‬ليثبتوا‭ ‬وجودهم‭.‬‮»‬

ويتابع‭: ‬‮«‬فعلى‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬أن‭ ‬تهيئ‭ ‬الأجواء‭ ‬لنشر‭ ‬الثقافة،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬طباعة‭ ‬الكتب‭ ‬وتنظيم‭ ‬المعارض‭ ‬والندوات‭ ‬التي‭ ‬تساهم‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬الوعي‭ ‬المعرفي‭ ‬للمواطن‭. ‬فمن‭ ‬مسؤوليتهم‭ ‬توصيل‭ ‬الكتاب‭ ‬للقارئ‭ ‬إذا‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نرفع‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬المواطن‭.‬‮»‬

تراكم‭ ‬المعرفة‭ ‬بين‭ ‬دفاتر‭ ‬لم‭ ‬تُقرأ

يقول‭ ‬الكاتب‭ ‬والباحث‭ ‬ضي‭ ‬هلال‭: ‬‮«‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬عديدة‭ ‬أنجزتُ‭ ‬عدة‭ ‬بحوث‭ ‬لم‭ ‬تُنشر‭ ‬بعد،‭ ‬وهي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الطبع‭. ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬البحوث‭: ‬لمحات‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬فزّان،‭ ‬فزّان‭ ‬من‭ ‬عصور‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التاريخ‭ ‬إلى‭ ‬الاستقلال‭ (‬تسعة‭ ‬أجزاء‭)‬،‭ ‬فزّان‭ ‬تاريخ‭ ‬وحضارة،‭ ‬فزّان‭ ‬سكانها‭ ‬وأعلامها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الوثائق‭ ‬العرفية‭ ‬والرسمية،‭ ‬المواقع‭ ‬الحضارية‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬الليبية،‭ ‬الأطلس‭ ‬التاريخي‭ ‬لفزّان،‭ ‬الإنسان‭ ‬ماضيه‭ ‬وحاضره،‭ ‬الإسلام‭ ‬ومنزلة‭ ‬الإنسان،‭ ‬تفسير‭ ‬الرؤى‭ ‬والأحلام،‭ ‬هواجس‭ ‬وخواطر،‭ ‬قصص‭ ‬قصيرة،‭ ‬البربر‭ ‬بين‭ ‬التعريب‭ ‬والتغريب،‭ ‬سلطنة‭ ‬دالا‭ ‬أفنونو‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬كانم،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭.‬‮»‬

ويؤكد‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬البحوث‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬الأدراج‭ ‬تنتظر‭ ‬الطبع‭ ‬والتوزيع‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬القراء‭ ‬وتساهم‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬مستوى‭ ‬الوعي‭ ‬الثقافي‭ ‬والمعرفي‭.‬‮»‬

سعد‭ ‬أحمد‭ ‬الغاتي‭:‬

‭ ‬الإرث‭ ‬الضائع‭ ‬بين‭ ‬المخطوطات‭ ‬والوزارة

يقول‭ ‬الكاتب‭ ‬سعد‭ ‬أحمد‭ ‬الغاتي،‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬مرزق‭ ‬عبر‭ ‬المراجع‭ ‬التاريخية‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬جهد‭ ‬التطوع‭ ‬فقط‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬لأنني‭ ‬أنا‭ ‬نفسي‭ ‬طبعت‭ ‬خمسة‭ ‬كتب‭ ‬على‭ ‬حسابي‭ ‬الخاص،‭ ‬وكتابين‭ ‬طبعتهما‭ ‬الدولة‭ ‬الغنية‭ ‬بالموارد‭. ‬لديّ‭ ‬مخطوطات‭ ‬كثيرة‭ ‬وكبيرة‭ ‬ضاعت‭ ‬ضمن‭ ‬الضياع‭ ‬العام‭ ‬للدولة،‭ ‬واحترقت‭ ‬في‭ ‬مرزق‭ ‬عام‭ ‬2019‭.‬‮»‬

ويضيف‭: ‬‮«‬لا‭ ‬توجد‭ ‬جهات‭ ‬مختصة،‭ ‬فالموظفون‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لهم‭ ‬بالثقافة،‭ ‬بدليل‭ ‬وجود‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستين‭ ‬موظفًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مركز‭ ‬ثقافي‭ ‬بجميع‭ ‬المناطق‭. ‬المخطوطات‭ ‬ضاعت‭ ‬وانتهت‭… ‬سأحاول‭ ‬أن‭ ‬أبدأ‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬مستقبل‭ ‬يمكن‭ ‬التعويل‭ ‬عليه‭.‬‮»‬

حين‭ ‬يكتب‭ ‬الصمت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الحروف‭ ‬

‭ ‬علي‭ ‬الهاشمي‭ :‬

كانت‭ ‬كلماته‭ ‬تنساب‭ ‬بهدوء‭ ‬يشبه‭ ‬وقار‭ ‬الصحراء‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬منها،‭ ‬نبرة‭ ‬صادقة‭ ‬لا‭ ‬تشكو‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تُحيلك‭ ‬إلى‭ ‬تأملٍ‭ ‬طويل‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬الكتابة‭ ‬وجدواها‭.‬

في‭ ‬حديثه‭ ‬يمتزج‭ ‬الحلم‭ ‬الأول‭ ‬بواقعية‭ ‬مُرّة،‭ ‬فيبدو‭ ‬كمن‭ ‬يكتب‭ ‬صمته‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يكتب‭ ‬حروفه،‭ ‬وكأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يُنشر‭ ‬بعد‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬مكتملًا،‭ ‬ينتظر‭ ‬فقط‭ ‬وطنًا‭ ‬يتّسع‭ ‬للكلمة‭.‬

الكاتب‭ ‬والقاص‭ ‬السبهاوي‭ ‬علي‭ ‬الهاشمي،‭ ‬صاحب‭ ‬خمس‭ ‬مجموعات‭ ‬قصصية‭ ‬ورواية‭ ‬‮«‬قرب‭ ‬خص‭ ‬السيد‭ ‬يلي‮»‬،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬مجموعاته‭ ‬المتميزة‭: ‬‮«‬موميا‭ ‬سبها‮»‬،‭ ‬‮«‬قصص‭ ‬مكتبة‭ ‬اليونسكو‮»‬،‭ ‬‮«‬أشياء‭ ‬وآفازاجار‮»‬،‭ ‬‮«‬الجندي‭ ‬العائد‭ ‬من‭ ‬سيراليون‮»‬،‭ ‬و‭ ‬‮«‬الاسم‮»‬‭ .‬

حين‭ ‬سألته‭ ‬بدهشة‭: ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تنشر‭ ‬أيًّا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال؟

ابتسم‭ ‬ابتسامة‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬وعورة‭ ‬الطريق،‭ ‬وكأنّ‭ ‬في‭ ‬صمته‭ ‬حكاية‭ ‬الكاتب‭ ‬الليبي‭ ‬مع‭ ‬النشر،‭ ‬فقال‭:‬

‮«‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬أنشر‭ ‬أعمالي؟‭ ‬لعلها‭ ‬تعود‭ ‬لأسباب‭ ‬كثيرة،‭ ‬بعضها‭ ‬ذاتي‭ ‬نفسي،‭ ‬وبعضها‭ ‬موضعي‭ ‬خارجي‭. ‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬شبابًا‭ ‬نصحو‭ ‬على‭ ‬حلم‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬كُتّابًا‭ ‬ويشار‭ ‬لنا‭ ‬بالبنان،‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الفورة‭ ‬الخيالية‭ ‬كما‭ ‬أسميها،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬بداية‭ ‬الكتابة‭. ‬ولو‭ ‬تسنى‭ ‬لنا‭ ‬النشر‭ ‬آنذاك‭ ‬لما‭ ‬قصرنا،‭ ‬إذ‭ ‬كنا‭ ‬نتنفس‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬الصحف‭ ‬المحلية‭ ‬والليبية‭.‬

ثم‭ ‬نصحو‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬ضخم‭ ‬معقد‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بالخيال،‭ ‬ويلتصق‭ ‬بالمادة‭ ‬مع‭ ‬تقدمنا‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬فتمولت‭ ‬فينا‭ ‬تلك‭ ‬الجذوة‭ ‬الخيالية،‭ ‬ويثبت‭ ‬في‭ ‬مكانها‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬الكسل‭ ‬بالمعنى‭ ‬السلبي‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬بعضهم‭ ‬يُبجّله،‭ ‬كالماغوط‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬العرب،‭ ‬ومن‭ ‬الغرب‭ ‬برتراند‭ ‬راسل‭ ‬وميلان‭ ‬كونديرا‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬روايته‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬الكسل،‭ ‬الذين‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬الكسل‭ ‬محطة‭ ‬وجودية‭ ‬رائعة‭ ‬يحتاجها‭ ‬كل‭ ‬مبدع‭.‬

أما‭ ‬أنا،‭ ‬فعليّ‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬المترددين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬ينجون‭ ‬من‭ ‬مطرقة‭ ‬الرقابة‭ ‬الداخلية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تسعى‭: ‬أإلى‭ ‬الكمال؟‭ ‬أم‭ ‬لأنها‭ ‬ترى‭ ‬ما‭ ‬أفرزه‭ ‬غير‭ ‬صالح‭ ‬للنشر؟

أما‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الموضوعية،‭ ‬فهي‭ ‬المشكلة‭ ‬التي‭ ‬تعنى‭ ‬بالإمكان‭ ‬المادي‭ ‬أو‭ ‬الإداري‭. ‬فبالنسبة‭ ‬للمكان‭ ‬المادي،‭ ‬يعتمد‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬حسابه‭ ‬الخاص‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬جهةٍ‭ ‬ما‭ ‬تتبناه‭ ‬وتنشر‭ ‬ما‭ ‬ينتج‭. ‬وكلا‭ ‬الأمرين‭ ‬يصعب‭ ‬تحقيقه‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬فزّان،‭ ‬بسبب‭ ‬السعي‭ ‬وراء‭ ‬لقمة‭ ‬العيش،‭ ‬وبسبب‭ ‬إهمال‭ ‬دور‭ ‬النشر،‭ ‬وبسبب‭ ‬الإحباط‭ ‬وأمور‭ ‬أخرى‭. ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬مثلاً‭ ‬نشروا‭ ‬على‭ ‬حسابهم‭ ‬الخاص،‭ ‬وبعضهم‭ ‬أعرفهم‭ ‬شخصيًا،‭ ‬ورغم‭ ‬توقيعهم‭ ‬لعقود‭ ‬نشر‭ ‬لبعض‭ ‬مؤلفاتهم،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تُنشر‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الآن،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬إحباط‭ ‬الكاتب‭.‬‮»‬

الشعر‭ ‬والتراث‭ ‬الشعبي‭ ‬بين‭ ‬انتظار‭ ‬الدعم

قال‭ ‬الكاتب‭ ‬والشاعر‭ ‬محمد‭ ‬عبد‭ ‬القادر‭ ‬عوكل‭:‬

‮«‬أنا‭ ‬شاعر‭ ‬وكاتب،‭ ‬لديّ‭ ‬كتب‭ ‬جاهزة‭ ‬للنشر،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬الأذن‭ ‬الصاغية‭ ‬لأيٍّ‭ ‬من‭ ‬كتبي‭ ‬لكي‭ ‬تُطبع‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭. ‬لديّ‭ ‬ستة‭ ‬كتب‭ ‬تحوي‭ ‬الأدب‭ ‬والتراث‭ ‬الشعبي،‭ ‬ولديّ‭ ‬أيضًا‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬من‭ ‬60‭ ‬مطوية‭ ‬تهتم‭ ‬بالتوعية‭ ‬والثقافة‭ ‬العامة‭. ‬فهل‭ ‬لنشرها‭ ‬سبيل؟‮»‬

ويضيف‭: ‬‮«‬في‭ ‬منطقة‭ ‬فزّان‭ ‬مخزن‭ ‬التميز‭ ‬والإبداع،‭ ‬وأتمنى‭ ‬دائمًا‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬المبدعين‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬بلدي‭ ‬يبرزون‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الوطن‭ ‬لكي‭ ‬نزيل‭ ‬مصطلح‭ ‬التهميش‭ ‬الذي‭ ‬يلازمنا‭ ‬أينما‭ ‬ذهبنا‭.‬‮»‬

ويختم‭ ‬موضحًا‭ ‬أعماله‭:‬

‮«‬من‭ ‬بين‭ ‬مؤلفاتي‭: ‬وفاء‭ ‬فاطمة‭ (‬ديوان‭ ‬شعري‭)‬،‭ ‬ترانيم‭ ‬شعبية،‭ ‬تعابير‭ ‬وجدانية‭ ‬لوطن‭ ‬اسمه‭ ‬ليبيا،‭ ‬خرابيش‭ ‬في‭ ‬أبيات،‭ ‬والنخلة‭ ‬في‭ ‬المأثور‭ ‬الشعبي‭.‬‮»‬

صرخة‭ ‬الجنوب‭: ‬بين‭ ‬الإبداع‭ ‬والتهميش‭ ‬المستمر

تكشف‭ ‬شهادات‭ ‬المبدعين‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬الليبي‭ ‬جذور‭ ‬أزمة‭ ‬الثقافة،‭ ‬والحاجة‭ ‬الملحّة‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬رسمية‭ ‬واضحة‭ ‬لدعم‭ ‬الإبداع‭ ‬وإيصال‭ ‬الأعمال‭ ‬إلى‭ ‬القرّاء‭.‬

ورغم‭ ‬الإهمال‭ ‬والتهميش‭ ‬المستمر،‭ ‬يظل‭ ‬الإبداع‭ ‬الفزّاني‭ ‬صرخة‭ ‬حضارية‭ ‬تصر‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬حيّة‭ ‬بين‭ ‬دفاتر‭ ‬التاريخ‭ ‬والأدب‭ ‬والرياضة‭ ‬والتراث‭ ‬الشعبي‭.‬

لكن‭ ‬السؤال‭ ‬يبقى‭:‬

هل‭ ‬ستشهد‭ ‬الأيام‭ ‬القادمة‭ ‬اهتمامًا‭ ‬فعليًا‭ ‬بالكتّاب‭ ‬والمبدعين‭ ‬في‭ ‬الجنوب؟

وهل‭ ‬ستنجح‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬وصياغة‭ ‬وعي‭ ‬ثقافي‭ ‬يليق‭ ‬بتاريخ‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬وخصوصيتها؟

أم‭ ‬ستظل‭ ‬الكنوز‭ ‬الفكرية‭ ‬معلقة‭ ‬بين‭ ‬دفاتر‭ ‬لم‭ ‬تُقرأ،‭ ‬تنتظر‭ ‬من‭ ‬يفتح‭ ‬لها‭ ‬أبواب‭ ‬النشر‭ ‬والاعتراف؟

Share this content: