×

نعم.. سأموت

حسام الوحيشي

نعم.. سأموت

       حسام‭ ‬الوحيشي

نعم‮…‬‭ ‬سأموت‭.‬

ليس‭ ‬لأن‭ ‬المرض‭ ‬أقوى‭ ‬منّي،

بل‭ ‬لأن‭ ‬وطني‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحميني‭.‬

سأموت‭ ‬لأن‭ ‬علاجي‭ ‬‭ ‬هذا‭ ‬الإنزيم‭ ‬المؤبَّد‭ ‬‭ ‬يحتاج‭ ‬دولةً‭ ‬مؤبَّدة‮…‬

وأنا‭ ‬أنتمي‭ ‬لبلدٍ‭ ‬لا‭ ‬يستقرُّ‭ ‬يومًا،‭ ‬ولا‭ ‬يفي‭ ‬بوعدٍ،‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬معنى‭ ‬الديمومة‭.‬

إنزيم‭ ‬واحد،‭ ‬تُحقَن‭    ‬به‭ ‬الحياة‭ ‬كل‭ ‬أسبوعين،

يتحوّل‭ ‬عندنا‭ ‬إلى‭ ‬مفاوضة،‭ ‬إلى‭ ‬لجنة،‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬نفوذ،‭ ‬إلى‭ ‬مزاج‭ ‬مسؤول،

أو‭ ‬إلى‭ ‬بوابة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬سوى‭ ‬كلمات‭:‬

“انقطع‮…‬‭ ‬ما‭ ‬وصلش‮…‬‭ ‬تعال‭ ‬الأسبوع‭ ‬الجاي‭.‬”

سأموت‭ ‬لأن‭ ‬الفساد‭ ‬ليس‭ ‬رقمًا،

بل‭ ‬دبابة‭ ‬تدوس‭ ‬على‭ ‬صندوق‭ ‬الأدوية،

ولأن‭ ‬الفوضى‭ ‬ليست‭ ‬حالة‮…‬

بل‭ ‬إدارة‭ ‬كاملة‭ ‬لشؤون‭ ‬الموت‭.‬

أفكّر‭:‬

ما‭ ‬أثقل‭ ‬علاج‭ ‬فابري؟

ستة‭ ‬عشر‭ ‬ألف‭ ‬يورو؟

تساوي‭ ‬اليوم‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الدنانير‭ ‬الوطنية؟

كل‭ ‬هذا‭ ‬كثير‮…‬

لكنني‭ ‬كلما‭ ‬حاولت‭ ‬مقارنة‭ ‬ثمن‭ ‬الدواء‭ ‬بثمن‭ ‬بناء‭ ‬ليبيا‭ ‬من‭ ‬جديد،

أكتشف‭ ‬أن‭ ‬الدواء‭ ‬رخيص‮…‬

والبلاد‭ ‬هي‭ ‬الغالية‭ ‬المبذولة‭ ‬على‭ ‬أرصفة‭ ‬العبث‭.‬

أنا‭ ‬لا‭ ‬أموت‭ ‬من‭ ‬المرض‭.‬

أنا‭ ‬أموت‭ ‬من‭ ‬قلة‭ ‬الحيلة‭.‬

من‭ ‬عجزي‭ ‬عن‭ ‬إصلاح‭ ‬دولةٍ‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬تسقط،

ولا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬تُرفع‭.‬

أموت‭ ‬لأنني‭ ‬شاهدٌ‭ ‬بلا‭ ‬سلطان،

ولأن‭ ‬قلبي‭ ‬‭-‬‭ ‬مهما‭ ‬حاول‭-‬‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬إعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬وطن‭ ‬كامل‭.‬

نعم‮…‬‭ ‬سأموت‭.‬

ليس‭ ‬لأن‭ ‬الأطباء‭ ‬أخطأوا،

بل‭ ‬لأن‭ ‬التاريخ‭ ‬أخطأ،

والجغرافيا‭ ‬خانت،

والسياسة‭ ‬ذبحت،

والدولة‭ ‬غابت،

والإنسان‭ ‬أصبح‭ ‬آخر‭ ‬بندٍ‭ ‬في‭ ‬ميزانيةٍ‭ ‬لا‭ ‬ضمير‭ ‬لها‭.‬

سأموت‭ ‬لأن‭ ‬الإنزيم‭ ‬يشبه‭ ‬الحقيقة‭:‬

واضحًا،‭ ‬بسيطًا،‭ ‬ضروريًا،

لكن‭ ‬الحصول‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬وطني‭ ‬يشبه‭ ‬محاولة‭ ‬انتزاع‭ ‬الضوء‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬ليلٍ‭ ‬مسعور‭.‬

أكتب‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬نافذتي‭ ‬في‭ ‬ميونخ،

وأرى‭ ‬مدنًا‭ ‬تعالج‭ ‬مواطنيها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يمرضوا،

وأتذكّر‭ ‬مدينتي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقوى‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬عدّ‭ ‬موتاها‭.‬

أرفع‭ ‬رأسي،‭ ‬وأضحك‭ ‬مرًّا‭:‬

كم‭ ‬كلّفني‭ ‬علاج‭ ‬فابري؟

وليس‭ ‬كم‭ ‬كلّفتني‭ ‬ليبيا؟

نعم‮…‬‭ ‬سأموت‭.‬

لكنّي‭ ‬سأموت‭ ‬وأنا‭ ‬أعرف‭ ‬الحقيقة‭:‬

لا‭ ‬أحد‭ ‬يقتلني‮…‬‭ ‬إلا‭ ‬وطني‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتعلم‭ ‬كيف‭ ‬يَحفظ‭ ‬أبناءه‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬حين‭ ‬أضع‭ ‬يدي‭ ‬على‭ ‬صدري،‭ ‬أدرك‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أخش‭ ‬الموت‭ ‬يومًا‭. ‬خشيت‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬أغادر‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬بلادي‭ ‬تستعيد‭ ‬ملامحها‭ ‬الأولى‭. ‬خشيت‭ ‬أن‭ ‬يسبقني‭ ‬الخراب‭ ‬إلى‭ ‬قبري،‭ ‬وأن‭ ‬تبقى‭ ‬الأسئلة‭ ‬معلّقة‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسنا‭ ‬كغيومٍ‭ ‬لا‭ ‬تمطر‭. ‬وأخشى‭ ‬أكثر‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬اليأس‭ ‬إلى‭ ‬عادة‭ ‬وطنية‭ ‬نتقاسمها‭ ‬بصمتٍ‭ ‬كما‭ ‬نتقاسم‭ ‬العجز‭. ‬

ولهذا‭ ‬أكتب‭ ‬الآن،‭ ‬لأترك‭ ‬وراء‭ ‬الألم‭ ‬جملةً‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬الحياة‭ ‬كانت‭ ‬تستحق‭ ‬محاولة‭ ‬أخيرة‭..‬

Share this content: