×

القبيلة والدولة المدنية

القبيلة والدولة المدنية

من‭ ‬سرديات‭ ‬المجد‭ ‬القبلي‭ ‬إلى‭ ‬سؤال‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ :‬

‭ ‬هل‭ ‬نستطيع‭ ‬تجاوز‭ ‬الموروث؟

    ‬بين‭ ‬واقع‭ ‬نعيشه‭  ‬من‭ ‬عبق‭ ‬الماضي‭ ‬وبين‭ ‬آمال‭ ‬وتطلعات‭ ‬ملحة‭ ‬لمستقبل‭ ‬قادم‭ ‬،‭ ‬نجبر‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬بين‭ ‬نقيضين‭ ‬كلُ‭ ‬منهما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬التأثير‭ ‬المجتمعي‭ ‬ما‭ ‬يؤهله‭ ‬ليتصدر‭ ‬المشهد‭ ‬القادم‭ ‬للدولة‭ ‬الليبية‭ ‬بكل‭ ‬الجوانب‭ ‬سياسيا‭ ‬واجتماعيا‭ ‬واقتصاديا‭ ‬وحتى‭ ‬أمنيا‭ ‬،‭ ‬ولكل‭ ‬منهما‭ ‬اتجاه‭ ‬يمضي‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬يتوازى‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الدعوات‭ ‬بضرورة‭ ‬التوافق‭ ‬والتقارب‭ ‬وجعل‭ ‬النقيضين‭ ‬طرفين‭ ‬متوازيين‭ ‬يرسما‭ ‬مستقبل‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬،فلربما‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬وأد‭ ‬الماضي،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تداخلت‭ ‬مكوناته‭ ‬مع‭ ‬مستقبل‭ ‬آت‭ ‬لدولة‭ ‬مدنية‭ ‬نطمح‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حاضرة‭ ‬اليوم‭ .‬

الـــولاء‭ ‬للنســــب‭ ‬أم‭ ‬الدستــــور‭ ‬مــن‭ ‬يرســـم‭ ‬خـــــــارطـــــة‭ ‬المستقبــــل‭ ‬الليبـــــي‭ ‬؟‭!‬

استطلاع‭ : ‬هدى‭ ‬ميرة

القبيلة‭ ‬والدولة‭ ‬المدنية‭ ..‬

فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬الانتماء‭ ‬للقبيلة‭ ‬ومتطلبات‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬؟

وكلاهما‭ ‬يتناقض‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬عكسية‭ ‬،‭ ‬ولكل‭ ‬منهما‭ ‬زمان‭ ‬،‭ ‬والتلاقي‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬الا‭ ‬عبر‭ ‬بوابات‭ ‬الزمن‭ ‬الافتراضي‭ ‬،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬القبيلة‭ ‬نظاماً‭ ‬متكاملاً‭ ‬مترابطاً‭ ‬قوياً‭ ‬ومتيناً‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬اختراقه‭ ‬،‭ ‬نظام‭ ‬له‭ ‬أسس‭ ‬وقوانين‭ ‬تحددها‭ ‬الأعراف‭ ‬وتنظم‭ ‬حياة‭ ‬الأفراد‭ ‬من‭ ‬أبنائها‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬ولدوا‭ ‬تحت‭ ‬عباءتها‭  ‬وهي‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬رعايتهم‭ ‬وحمايتهم‭ ‬،‭ ‬ولا‭ ‬ننكر‭ ‬وجود‭ ‬هذا‭ ‬الجسد‭ ‬وفاعليته‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬الليبي‭ ‬،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬ولن‭ ‬يمت‭ ‬فمازال‭ ‬يتنفس‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬أو‭ ‬الحديثة‭ ‬دولة‭ ‬المؤسسات‭ ‬والقانون‭ ‬والعدالة‭ ‬وصون‭ ‬الحريات‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬واحترام‭ ‬الآخر‭ ‬وإن‭ ‬اختلفنا‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬أو‭ ‬دين‭ ‬أو‭ ‬رأي‭ ‬،دولة‭ ‬مدنية‭ ‬ركائزها‭ ‬القانون‭ ‬وليس‭ ‬وتد‭ ‬خيمة‭ ‬تهزه‭ ‬الرياح‭ ‬تارة‭ ‬،ويستند‭ ‬عليه‭ ‬الفارون‭ ‬من‭ ‬جرم‭ ‬ارتكبوه‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭ .‬

ثنائيات‭ ‬متناقضة

القبيلة‭ ‬كذاكرة‭ ‬لا‭ ‬كسلطة‮…‬‭ ‬والمواطنـة‭ ‬كعقــد‭ ‬لا‭ ‬كهويــة

يقول‭ ‬الأستاذ‭ ‬الاعلامي‭ ‬جمال‭ ‬الزائدي‭ .‬لأنه‭ ‬مجال‭ ‬للتعايش‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬وبين‭ ‬القبيلة‭..‬والصراع‭ ‬بينهما‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬لأية‭ ‬تسوية‭ ‬،إذ‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬بسحق‭ ‬أحدهما‭ ‬للآخر‭ .. ‬ببساطة‭ ‬لأن‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والقبلية‭ ‬يمكن‭ ‬تلخيصها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الثنائيات‭ ‬المتضادة‭  : – ‬الدولة‭ ‬تتطلب‭ ‬الكفاءة‭ ‬،و‭ ‬القبيلة‭ ‬تتطلب‭ ‬القرابة‭ ‬

الدولة‭ ‬تتطلب‭ ‬الجدارة‭ ‬والقبيلة‭ ‬تتطلب‭ ‬الولاء‭ ‬

الدولة‭ ‬تتوخى‭ ‬توطيد‭ ‬ممكنات‭ ‬المستقبل،‭ ‬القبيلة‭ ‬تتوخى‭ ‬ترسيخ‭ ‬جذورها‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ..‬

وإذا‭ ‬حدث‭ ‬تحت‭ ‬ظرف‭ ‬استثنائي‭ ‬شاذ‭ ‬أن‭ ‬تعايشت‭ ‬الدولة‭ ‬والقبيلة

ستهيمن‭ ‬القبيلة‭ ‬على‭ ‬الدولة،‭ ‬وتحول‭ ‬مؤسساتها‭ ‬إلى‭ ‬امتداد‭ ‬لعلاقاتها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يتحول‭ ‬الفساد‭ ‬من‭ ‬سلوك‭ ‬فردي‭ ‬إلى‭ ‬منظومة‭ ‬سلوكية،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬مسؤول‭ ‬يحتمي‭ ‬بقبيلته‭. ‬وفي‭ ‬آخر‭ ‬المطاف‭ ‬تلغى‭ ‬فكرة‭ ‬المواطنة‭ ‬لصالح‭ ‬العصبية‭ ‬القبلية‭ ‬لإن‭ ‬بقاء‭ ‬القبيلة‭  ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬غياب‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ..‬

‭ ‬معركة‭ ‬الوعي‭ ‬الليبي‭ ‬المؤجلة

‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬ضلع‭ ‬المثلث‭ ‬الأهم‭ ‬هو‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬مجموع‭ ‬مواطنين‭ ‬أفراد،‭  ‬يخضعون‭  ‬بإرادتهم‭ ‬الحرة‭ ‬لعقد‭ ‬اجتماعي‭ ‬يحدد‭ ‬طبيعة‭ ‬علاقاتهم‭ ‬وينص‭ ‬على‭ ‬حزمة‭ ‬الواجبات‭ ‬والحقوق‭  ‬التي‭ ‬تربطهم‭ ‬بكيان‭ ‬الدولة‭ ‬الافتراضي‭  ..‬

لذلك‭ ‬فكيان‭ ‬القبيلة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬رابطة‭ ‬طبيعية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬قرابة‭ ‬الدم‭ ‬يتناقض‭ ‬عمليا‭ ‬ونظريا‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬بمفهومها‭ ‬المعاصر‭ .. ‬ففي‭ ‬ظل‭ ‬القبيلة‭ ‬انتماء‭ ‬وولاء‭ ‬الفرد‭ ‬الأساسى‭ ‬يتوجه‭ ‬لعشيرته‭ ‬وقبيلته‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬رابط‭ ‬القرابة‭ ‬الاجتماعية‭..‬بينما‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬المعاصرة‭ ‬تتطلب‭ ‬انتماءاً‭ ‬وولاءاً‭ ‬مطلقاً‭ ‬من‭ ‬المواطن‭ / ‬الفرد‭  ‬،‭ ‬لدستورها‭ ‬وقوانينها‭ ‬ومؤسساتها‭..‬

امكانية‭ ‬توافق‭ ‬مشروطة

الأستاذ‭ ‬عاشور‭ ‬شكوي‭ ‬وهو‭ ‬إعلامي‭ ‬متخصص‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬السياسي‭ ‬توقع‭ ‬بامكانية‭ ‬التعايش‭ ‬المشروط‭ ‬بين‭ ‬نقيضين‭ ‬فقال‭ :‬

تسعى‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬إلى‭ ‬ترسيخ‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬،‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬المواطنة‭ ‬الشاملة‭ ‬،‭ ‬تقاوم‭ ‬القبلية‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬هياكلها‭ ‬التقليدية‭ ‬،‭ ‬والعلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الخاصة‭ ‬بها‭ ‬،‭ ‬وهذا‭ ‬التناقض‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الازدواجية‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬ولاء‭ ‬الأفراد‭ ‬،حيث‭ ‬يكونون‭ ‬مطالبين‭ ‬بالالتزام‭ ‬بالهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬،‭ ‬ولكنهم‭ ‬يجدون‭ ‬أنفسهم‭ ‬منجذبين‭ ‬نحو‭ ‬القبيلة‭ ‬كمصدر‭ ‬رئيس‭ ‬للهوية‮»‬‭. ‬

وبتسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬الليبي‭ ‬،‭ ‬فإن‭ ‬الولاء‭ ‬للقبيلة‭ ‬ليس‭ ‬عيباً‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الدولة،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬صمام‭ ‬أمان‭ ‬ورافعة‭ ‬وعي‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬ضُبط‭ ‬بالقانون،‭ ‬وربط‭ ‬قيمه‭ ‬بالأخلاق‭ ‬لا‭ ‬بالأسماء‭.‬

وما‭ ‬نراه‭ ‬خلال‭ ‬العقد‭ ‬والنصف‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬أظهر‭ ‬أن‭ ‬الولاءات‭ ‬القبلية‭ ‬ليست‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الكفاءة‭ ‬والوطنية‭ ‬،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬النسب‭ ‬والجذور‭ ‬الضيقة‭ ‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُمثل‭ ‬خيانة‭ ‬مزدوجة‭: ‬للوطن‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وللقبيلة‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭..‬كما‭ ‬أن‭ ‬استمرار‭ ‬التزكيات‭ ‬الوراثية‭ ‬يُعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬الجاهلية‭ ‬بصيغة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬مزعومة‭.‬

فالقبيلة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬حاضنة‭ ‬للكفاءات‭ ‬لا‭ ‬حارسة‭ ‬للولاءات‭ ‬الضيقة‭..‬وهنا‭ ‬لا‭ ‬ندعو‭ ‬إلى‭ ‬إقصاء‭ ‬القبيلة،‭ ‬بل‭ ‬تحريرها‭ ‬من‭ ‬العصبية،‭ ‬وربطها‭ ‬بمشروع‭ ‬وطني‭ ‬جامع،‭ ‬يُعيد‭ ‬تعريف‭ ‬التمثيل‭ ‬القبلي‭ ‬وفق‭ ‬معيار‭ ‬الكفاءة،‭ ‬لا‭ ‬الولاء‭ ‬الضيق‭ ‬المرتبط‭ ‬بمفاهيم‭ ‬ومعايير‭ ‬تقليدية‭ ‬تعيق‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭.‬

ولتحقيق‭ ‬مقاربة‭ ‬واقعية‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬،‭ ‬بين‭ ‬الهوية‭ ‬القبلية‭ ‬والهوية‭ ‬والوطنية‭ ‬،‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬إعداد‭ ‬وثيقة‭ ‬وطنية‭ ‬للولاء‭ ‬والهوية‭ ‬،‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬إصلاح‭ ‬المؤسسات‭ ‬المدنية‭ ‬لتستعيد‭ ‬دورها‭ ‬كممثل‭ ‬حقيقي‭ ‬للشعب‭ ‬،وإطلاق‭ ‬معهد‭ ‬برلماني‭ ‬لتأهيل‭ ‬من‭ ‬يُنتخبون‭ ‬سياسياً‭ ‬وتشريعياً‭.‬

القبيلة‭ ‬والدولة‭ ‬الضائعة‭.‬

الناشط‭ ‬والمحلل‭ ‬السياسي‭ ‬زكريا‭ ‬نمر‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬السودان‭ ‬تواصلنا‭ ‬معه‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬فقال‭:‬

القبيلة‭ ‬لا‭ ‬تبني‭ ‬الدولة،‭ ‬فهي‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مظلة‭ ‬اجتماعية‭ ‬تحفظ‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬برد‭ ‬العزلة‭ ‬وتمنحه‭ ‬شعور‭ ‬الانتماء،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬حين‭ ‬تتجاوز‭ ‬حدودها‭ ‬لتتحول‭ ‬إلى‭ ‬سلطة،‭ ‬تصبح‭ ‬عبئا‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬الدولة‭ ‬نفسها‭. ‬فالقبيلة‭ ‬حين‭ ‬ترفع‭ ‬رايتها‭ ‬فوق‭ ‬راية‭ ‬الوطن،‭ ‬ينكمش‭ ‬العقل‭ ‬وتتسع‭ ‬مساحة‭ ‬التعصب،‭ ‬ويغدو‭ ‬الدم‭ ‬مقياسًا‭ ‬للحق،‭ ‬لا‭ ‬الكفاءة‭ ‬أو‭ ‬العدالة‭.‬

‭ ‬القبيلة‭ ‬لم‭ ‬ولن‭ ‬تمت

‭ ‬فما‭ ‬زالت‭ ‬تتنفس‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬

في‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكتمل‭ ‬فيها‭ ‬فكرة‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬بعد،‭ ‬تتحول‭ ‬القبيلة‭ ‬من‭ ‬كيان‭ ‬اجتماعي‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬للهيمنة،‭ ‬ومن‭ ‬رابطة‭ ‬إنسانية‭ ‬إلى‭ ‬جدار‭ ‬يفصل‭ ‬المواطن‭ ‬عن‭ ‬مواطنته‭.‬وتكمن‭ ‬الكارثة‭ ‬الكبرى‭ ‬أن‭ ‬الولاء‭ ‬للقبيلة‭ ‬يصبح‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬الولاء‭ ‬للوطن،‭ ‬وأن‭ ‬السلطة‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬غنيمة‭ ‬توزع‭ ‬بالقرابة‭ ‬لا‭ ‬بالاستحقاق‭. ‬تظهر‭ ‬تجربة‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬بجلاء‭ ‬كيف‭ ‬مزقت‭ ‬الولاءات‭ ‬القبلية‭ ‬نسيج‭ ‬الدولة‭ ‬الوليدة‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬المشكلة‭ ‬في‭ ‬التعدد،‭ ‬فالتنوع‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬ثروة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬النخبة‭ ‬الحاكمة‭ ‬حولت‭ ‬الانتماء‭ ‬القبلي‭ ‬إلى‭ ‬سلاح‭ ‬سياسي،‭ ‬فباتت‭ ‬المناصب‭ ‬توزع‭ ‬حسب‭ ‬القبيلة،‭ ‬لا‭ ‬وفق‭ ‬الكفاءة‭ ‬أو‭ ‬الرؤية‭ ‬الوطنية‭. ‬انهارت‭ ‬المؤسسات،‭ ‬وتراجع‭ ‬القانون،‭ ‬واستبدلت‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬بشبكة‭ ‬من‭ ‬الولاءات‭ ‬الضيقة،‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬تحرس‭ ‬حدود‭ ‬مصالحها‭ ‬وتنتظر‭ ‬لحظة‭ ‬الانتقام‭.‬

ويكمل‭ ‬قوله‭.. ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬القبيلة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬يشبه‭ ‬محاولة‭ ‬تشييد‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬الطين‭ ‬وسط‭ ‬العاصفة‭. ‬لا‭ ‬القبيلة‭ ‬تملك‭ ‬أدوات‭ ‬التخطيط،‭ ‬ولا‭ ‬روحها‭ ‬المغلقة‭ ‬تصلح‭ ‬لقيادة‭ ‬مجتمع‭ ‬متنوع‭ ‬ومعقد‭. ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬لا‭ ‬تُبنى‭ ‬بالعاطفة،‭ ‬بل‭ ‬بالمؤسسات،‭ ‬بالقانون،‭ ‬بالمواطنة‭ ‬المتساوية‭. ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تبنى‭ ‬على‭ ‬الولاءات‭ ‬القبلية‭ ‬تولد‭ ‬مشوهة،‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬دائمة‭ ‬من‭ ‬الانقسام،‭ ‬وتفقد‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مرجعا‭ ‬جامعا‭ ‬للجميع‭. ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬محو‭ ‬القبيلة‭ ‬أو‭ ‬إنكار‭ ‬دورها‭ ‬الاجتماعي‭. ‬القبيلة‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬الثقافية،‭ ‬من‭ ‬المرويات‭ ‬الشفاهية،‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تحفظ‭ ‬التماسك‭ ‬الإنساني‭. ‬إنما‭ ‬الخطر‭ ‬يبدأ‭ ‬حين‭ ‬تتضخم‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬لتبتلع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حولها،‭ ‬فتتحول‭ ‬من‭ ‬موروث‭ ‬ثقافي‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬إقصاء‭. ‬ما‭ ‬نحتاجه‭ ‬ليس‭ ‬إلغاء‭ ‬القبيلة،‭ ‬بل‭ ‬إعادة‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬حجمها‭ ‬الطبيعي‭: ‬كجذر‭ ‬ثقافي‭ ‬لا‭ ‬كمنصة‭ ‬حكم‭ .‬

‬لا‭ ‬تأثير‭ ‬سلبي‭ ‬

الأستاذ‭ ‬مفتاح‭ ‬المصباحي‭ ‬رأى‭ ‬بأن‭ ‬الانتماء‭ ‬للقبيلة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الارتباط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬والأخلاق،‭ ‬وذلك‭ ‬لا‭ ‬تأثير‭ ‬سلبي‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬دولة‭ ‬القانون‭ ‬والمؤسسات‭ ‬‮«‬الدولة‭ ‬المدنية‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬يدعمها،‭ ‬بالتزام‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬بما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬وما‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬واجبات،،‭ ‬والمخطيء‭ ‬والمفسد‭ ‬والمجرم،‭ ‬تعاقبه‭ ‬القبيلة‭ ‬بالنبذ،‭ ‬كما‭ ‬تعاقبه‭ ‬الدولة‭ ‬بالقانون‭..‬

إطار‭ ‬اجتماعي

السيد‭ ‬وسام‭ ‬الرابطي‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬الانتماء‭ ‬القبلي‭ ‬ماهو‭ ‬إلا‭ ‬إطار‭ ‬اجتماعي‭ ‬ليس‭ ‬أكثر‭ ‬

إنما‭ ‬الانتماء‭ ‬الوطني‭ ‬هو‭ ‬الجوهر‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬اأساس‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬ومن‭ ‬خلاله‭ ‬يتم‭ ‬صياغة‭ ‬دستور‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬وفق‭ ‬معايير‭ ‬عقائدية‭ ‬واجتماعية‭ ‬وأخلاقية‭  ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬توجهات‭ ‬اأو‭ ‬محصصات‭ ‬قبلية‭ .‬

يظل‭ ‬الجدل‭ ‬قائما‭ ‬بين‭ ‬نقيضين‭ ‬‮«‬‭ ‬الدولة‭ ‬والقبيلة‭ ‬‮»‬‭ ‬لمن‭ ‬الانتماء‭ ‬في‭ ‬زمننا‭ ‬الحاضر‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬إنسانية‭ ‬مثل‭ ‬دولة‭ ‬روندا‭ ‬وبعد‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬1994‭ ‬تخلصت‭ ‬من‭ ‬سيطرة‭ ‬القبيلة‭ ‬لتقام‭ ‬دولة‭ ‬المواطنة‭ ‬والقانون‭ ‬مع‭ ‬تأثير‭ ‬خجول‭ ‬للقبيلة‭ ‬،‭ ‬ولكن‭ ‬تيبرز‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬ولبنان‭  ‬وبعض‭ ‬دول‭ ‬الشمال‭ ‬الإفريقي‭ ‬أثر‭ ‬القبيلة‭ ‬المتوافقة‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬العقود‭ ‬القادمة‭ ‬شاهدا‭ ‬على‭ ‬اندثار‭ ‬إحداهما‭ ‬ليكون‭ ‬الأخر‭ .‬وربما‭ ‬يكون‭ ‬التقارب‭ ‬واقعاً‭ ‬تتعايش‭ ‬معه‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ .‬

القبيلة‭ ‬إذاً‭ ‬ليست‭ ‬عدوا،‭ ‬‮«‬‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬زكريا‭ ‬نمر‭ ‬‮«‬‭ ‬لكنها‭ ‬حين‭ ‬تتجاوز‭ ‬مكانها‭ ‬الطبيعي،‭ ‬تصبح‭ ‬رمزا‭ ‬للتخلف‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭. ‬أن‭ ‬تحارب‭ ‬باسمها‭ ‬يعني‭ ‬أنك‭ ‬ترفض‭ ‬التفكير،‭ ‬وأنك‭ ‬لم‭ ‬تدرك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬تجاوز‭ ‬هذه‭ ‬الدائرة‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭. ‬الوطن‭ ‬لا‭ ‬يُبنى‭ ‬بالعاطفة‭ ‬الجهوية‭ ‬ولا‭ ‬بالميراث‭ ‬القبلي،‭ ‬بل‭ ‬بالوعي‭ ‬الجماعي،‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬التعايش

‭ ‬عندما‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬المواطن،‭ ‬لا‭ ‬دولة‭ ‬القبيلة‭. ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تحكمها‭ ‬الكفاءة‭ ‬لا‭ ‬القرابة،‭ ‬القانون‭ ‬لا‭ ‬الولاء،‭ ‬العقل‭ ‬لا‭ ‬العاطفة‭. ‬فبغير‭ ‬ذلك،‭ ‬سنظل‭ ‬ندور‭ ‬في‭ ‬الحلقة‭ ‬ذاتها‭ ‬جيل‭ ‬يزرع‭ ‬الانقسام،‭ ‬وآخر‭ ‬يحصد‭ ‬الخراب‭.‬

القبيلة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬كذاكرة،‭ ‬كهوية‭ ‬اجتماعية‭ ‬تمنح‭ ‬الناس‭ ‬دفء‭ ‬الانتماء،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تصنع‭ ‬الحاضر‭ ‬ولا‭ ‬تبني‭ ‬المستقبل‭. ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬رابطة‭ ‬دم،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬عقد‭ ‬اجتماعي‭ ‬حر‭ ‬يربط‭ ‬الناس‭ ‬بالقانون‭. ‬حين‭ ‬يصل‭ ‬الوعي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المستوى،‭ ‬يصبح‭ ‬واضحًا‭ ‬أن‭ ‬القبيلة‭ ‬ليست‭ ‬قدرًا،‭ ‬بل‭ ‬مرحلة‭ ‬يمكن‭ ‬تجاوزها،‭ ‬وأن‭ ‬الوطن‭ ‬لا‭ ‬يُحفظ‭ ‬بالدم،‭ ‬بل‭ ‬يُبنى‭ ‬بالعدالة‭ ‬والمساواة‭ ‬والرؤية‭.‬

Share this content: