×

بين بيوت الناس

بين بيوت الناس

    صارت‭ ‬الزرائب‭ ‬جدرانا‭ ‬إضافية

  الانفلات‭ ‬الحاضر‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬التراخيص‭ ‬والرقابة‭ ‬

في‭ ‬إحدى‭ ‬زوايا‭ ‬طرابلس،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬في‭ ‬“الحي‭ ‬الإسلامي”‭ ‬–‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بـ”حي‭ ‬2‭ ‬مارس”‭ ‬–‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬أن‭ ‬تجهد‭ ‬أنفك‭ ‬لتعرف‭ ‬أنك‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬الزرائب‭. ‬روائح‭ ‬خانقة،‭ ‬ذباب‭ ‬بحجم‭ ‬طائرات‭ ‬ورقية،‭ ‬وضجيج‭ ‬لا‭ ‬ينقطع‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحي‭ ‬الشعبي،‭ ‬تنتشر‭ ‬الزرائب‭ ‬الصغيرة‭ ‬بين‭ ‬محال‭ ‬بيع‭ ‬اللحوم‭ ‬والعمارات‭ ‬السكنية،‭ ‬وغالبًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬ملاصقة‭ ‬للبيوت‭. ‬تحتوي‭ ‬هذه‭ ‬الزرائب‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬على‭ ‬الخراف،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يُستغرب‭ ‬أحيانًا‭ ‬رؤية‭ ‬جمال‭ ‬مربوطة‭ ‬قرب‭ ‬المنازل‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬الأزقة‭..‬يتميّز‭ ‬الحي‭ ‬بكثافته‭ ‬السكانية‭ ‬العالية،‭ ‬وتداخل‭ ‬مبانيه‭ ‬العشوائية،‭ ‬وأزقته‭ ‬الضيقة‭. ‬وهو‭ ‬حي‭ ‬شعبي‭ ‬تطور‭ ‬تدريجيًا‭ ‬خلال‭ ‬السبعينات‭ ‬والثمانينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬مع‭ ‬توسع‭ ‬المدينة‭ ‬وازدهار‭ ‬النشاط‭ ‬التجاري‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬بيع‭ ‬اللحوم‭ ‬والأسماك‭.‬

أما‭ ‬تسميته،‭ ‬فتعكس‭ ‬جانبين‭ ‬من‭ ‬تاريخه‭ ‬حيث‭ ‬يُعتقد‭ ‬أن‭ ‬عبارة‭ ‬“الحي‭ ‬الإسلامي”‭ ‬جاءت‭ ‬ارتباطًا‭ ‬بطبيعة‭ ‬المنتجات‭ ‬التي‭ ‬تُباع‭ ‬فيه،‭ ‬إذ‭ ‬يحرص‭ ‬التجار‭ ‬على‭ ‬التزام‭ ‬الذبح‭ ‬وفق‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬يشير‭ ‬الاسم‭ ‬الآخر،‭ ‬“2‭ ‬مارس”،‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬إعلان‭ ‬قيام‭ ‬سلطة‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬السابق،‭ ‬ما‭ ‬يعكس‭ ‬البعد‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬طبع‭ ‬معالم‭ ‬الحي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭. ‬

     تحقيق‭  :‬منال‭ ‬الهمشري

     تقاليد‭ ‬تتحدى‭ ‬الصحة‭ ‬

يعيش‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬اليوم‭ ‬آلاف‭ ‬السكان،‭ ‬أغلبهم‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الدخل‭ ‬المحدود،‭ ‬يعتمد‭ ‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬أنشطة‭ ‬السوق‭ ‬اليومية‭ ‬لكسب‭ ‬أقواتهم‭.‬

العمارات‭ ‬هنا‭ ‬مبنية‭ ‬بطوابق‭ ‬متعددة،‭ ‬تسكنها‭ ‬عائلات‭ ‬كبيرة،‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬ضخّ‭ ‬المياه‭ ‬لتصل‭ ‬إلى‭ ‬الشقق‭ ‬العلوية‭. ‬لكنّ‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬الرأسية‭ ‬الهشة،‭ ‬تصطدم‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬بحقيقة‭ ‬وجود‭ ‬الزرائب‭ ‬في‭ ‬الأسفل‭. ‬مخلفات‭ ‬الذبح،‭ ‬الدماء،‭ ‬والروائح‭ ‬النافذة،‭ ‬لا‭ ‬تلوّث‭ ‬الهواء‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تتسرّب‭ ‬إلى‭ ‬شبكة‭ ‬الصرف‭ ‬الصحي،‭ ‬مسبّبة‭ ‬انسدادات‭ ‬متكررة‭ ‬تهدّد‭ ‬نظافة‭ ‬المياه‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬الخزانات‭. ‬

وفي‭ ‬ظل‭ ‬ضعف‭ ‬البنية‭ ‬التحتية،‭ ‬يصبح‭ ‬مجرد‭ ‬الاستحمام‭ ‬أو‭ ‬غسل‭ ‬الطعام‭ ‬مغامرة‭ ‬صحية‭ ‬غير‭ ‬مضمونة‭ ‬العواقب‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الحي‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تذهب‭ ‬لتختار‭ ‬خروفك‭ ‬بنفسك،‭ ‬ويقوم‭ ‬البائع‭ ‬بذبحه‭ ‬فورًا‭ ‬أمامك‭ ‬في‭ ‬“سلخانة”‭ ‬محله‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬مباشرةً،‭ ‬مشهدٌ‭ ‬لا‭ ‬يثير‭ ‬استغراب‭ ‬أحد،‭ ‬بل‭ ‬أصبح‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭. ‬

يأتي‭ ‬التجار‭ ‬إلى‭ ‬الحي‭ ‬بجميع‭ ‬أنواع‭ ‬الحيوانات‭ ‬لذبحها‭ ‬وبيعها،‭ ‬ويقصده‭ ‬المواطنون‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬طرابلس‭ ‬وخارجها،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬الأعياد‭ ‬لذبح‭ ‬أضاحيهم‭.‬

     مساحات‭ ‬مهملة

تنتشر‭ ‬الزرائب‭ ‬الصغيرة‭ ‬هنا‭ ‬بين‭ ‬البيوت‭ ‬وعلى‭ ‬أطراف‭ ‬الأزقة‭ ‬الخلفية،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تنظيم‭ ‬أو‭ ‬ترخيص‭ ‬رسمي،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬أسواق‭ ‬مخصصة‭ ‬للمواشي‭ ‬داخل‭ ‬المدينة‭. ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬أرقام‭ ‬دقيقة‭ ‬لعددها،‭ ‬لكنها‭ ‬تُقدّر‭ ‬بالعشرات‭.‬

ظهرت‭ ‬هذه‭ ‬الزرائب‭ ‬تدريجيًا‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬بعدما‭ ‬تقلصت‭ ‬المساحات‭ ‬المفتوحة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُستخدم‭ ‬سابقًا‭ ‬لتربية‭ ‬الحيوانات،‭ ‬إما‭ ‬بسبب‭ ‬التوسع‭ ‬العمراني‭ ‬أو‭ ‬مشاريع‭ ‬استثمارية‭ ‬التهمت‭ ‬الأراضي‭ ‬الطرفية‭. ‬

بات‭ ‬مربّو‭ ‬المواشي‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬أماكن‭ ‬بديلة،‭ ‬مثل‭ ‬مبانٍ‭ ‬مهجورة‭ ‬أو‭ ‬زوايا‭ ‬نائية‭ ‬داخل‭ ‬الأحياء،‭ ‬وسط‭ ‬فوضى‭ ‬تنظيمية‭ ‬ورقابة‭ ‬ضعيفة‭. ‬وبعضهم‭ ‬يضع‭ ‬زريبته‭ ‬خلف‭ ‬محله‭ ‬أو‭ ‬بجانبها‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تتوفر‭ ‬مساحة‭ ‬خالية‭.‬

في‭ ‬السابق،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الأنشطة‭ ‬تتركّز‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬تقليدية‭ ‬مثل‭ ‬“سوق‭ ‬السبت”‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أطراف‭ ‬المدينة،‭ ‬لكن‭ ‬تضييق‭ ‬السلطات‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المناطق‭  ‬بسبب‭ ‬مشاريع‭ ‬التطوير‭ ‬العقاري‭ ‬والاعتبارات‭ ‬الصحية‭ ‬والبيئية،‭  ‬دفع‭ ‬بالمربين‭ ‬إلى‭ ‬الأحياء‭ ‬الداخلية،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الأسواق‭ ‬القديمة‭ ‬مهيّأة‭ ‬أو‭ ‬مرحبًا‭ ‬بها‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬السابق‭. ‬ومع‭ ‬إقبال‭ ‬السكان‭ ‬على‭ ‬الشراء‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحي‭ ‬لقربه‭ ‬من‭ ‬بيوتهم،‭ ‬وتجنّبهم‭ ‬عناء‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الأسواق‭ ‬البعيدة،‭ ‬تحوّل‭ ‬الحي‭ ‬تدريجيًا‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬غير‭ ‬رسمي‭ ‬للمواشي،‭ ‬ينبض‭ ‬بالروائح‭ ‬والحركة،‭ ‬لكنه‭ ‬خارج‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬رقابة‭ ‬حقيقيةبين‭ ‬الحاجة‭ ‬والفوضى‭.‬

أما‭ ‬اللحوم،‭ ‬فتعرض‭ ‬على‭ ‬قارعة‭ ‬الطريق،‭ ‬دون‭ ‬تبريد‭ ‬أو‭ ‬تغطية،‭ ‬معلقة‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق،‭ ‬على‭ ‬مرأى‭ ‬الذباب‭ ‬والسيارات‭ ‬والغبار‭.‬

هذا‭ ‬المشهد،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬فوضى‭ ‬ومخاطر‭ ‬صحية،‭ ‬ليس‭ ‬بمستغرب‭. ‬فبلادنا،‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬الأسواق‭ ‬الرسمية‭ ‬المتخصصة‭ ‬في‭ ‬بيع‭ ‬المواشي‭ ‬أو‭ ‬ذبحها‭ ‬وفق‭ ‬معايير‭ ‬صحية‭ ‬معتمدة‭. ‬معظم‭ ‬المدن‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬المسالخ‭ ‬المركزية‭ ‬المجهزة‭ ‬أو‭ ‬نظم‭ ‬الرقابة‭ ‬الفعالة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬تربية‭ ‬المواشي‭ ‬وذبحها‭ ‬داخل‭ ‬الأحياء‭ ‬خيارًا‭ ‬شائعًا‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬استثناءً‭.‬

هذه‭ ‬الممارسات‭ ‬صارت‭ ‬مألوفة،‭ ‬لا‭ ‬تُستنكر‭ ‬إلا‭ ‬نادرًا،‭ ‬لأنها‭ ‬ببساطة‭ ‬تملأ‭ ‬فراغًا‭ ‬تركه‭ ‬التخطيط‭ ‬العمراني،‭ ‬ويفرضه‭ ‬الواقع‭ ‬والحاجة،‭ ‬ويغلفه‭ ‬الموروث‭ ‬المحلي‭ ‬بطابع‭ ‬من‭ ‬القبول‭ ‬الجماعي‭.‬

    العيش‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬سلخانة‭ ‬مفتوحة

وسط‭ ‬هذه‭ ‬الفوضى،‭ ‬تعيش‭ ‬نعيمة‭ ‬السيد،‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الخمسينات،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬وعائلتها‭ ‬محاصرين‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬“سلخانة‭ ‬مفتوحة”،‭ ‬لا‭ ‬تُغلق‭ ‬أبوابها‭ ‬إلا‭ ‬لوهلة‮…‬‭ ‬لتعود‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يشبهها،‭ ‬وتضجّ‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

‭ ‬“أنا‭ ‬وثلاثة‭ ‬شباب‭ ‬وزوجي‭ ‬نسكن‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬تُعد‭ ‬أكبر‭ ‬سوق‭ ‬للحوم‭ ‬الطازجة‭. ‬سلخانة‭ ‬كبيرة‭ ‬تعتمد‭ ‬عليها‭ ‬أسواق‭ ‬طرابلس‭ ‬الكبرى‭ ‬يوميًا‭ ‬في‭ ‬تغذيتها‭ ‬من‭ ‬اللحوم‭. ‬يؤثر‭ ‬ذلك‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭.‬”

هذه‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬شكوى‭ ‬عابرة،‭ ‬بل‭ ‬صرخة‭ ‬مكتومة‭ ‬باسم‭ ‬كل‭ ‬النساء‭ ‬اللواتي‭ ‬يدفعن‭ ‬ثمن‭ ‬“الفوضى‭ ‬البيئية”،‭ ‬بأعصابهن،‭ ‬وأجسادهم،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬بكرامتهن‭. ‬تقول‭ ‬نعيمة،‭ ‬التي‭ ‬تنقّلت‭ ‬بين‭ ‬أحياء‭ ‬عدّة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تستقر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحي‭ ‬“المشاكل‭ ‬السياسية‭ ‬أجبرتنا‭ ‬على‭ ‬التنقل‭. ‬

وجدنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحي‭ ‬بعض‭ ‬الأمان‭. ‬لكنه‭ ‬أمانٌ‭ ‬مغموس‭ ‬بالروائح‭ ‬الكريهة،‭ ‬والصراخ،‭ ‬والعتمة‭ ‬الصحية‭.‬”‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬المشهد‭ ‬داخل‭ ‬المنزل‭ ‬خانقًا،‭ ‬فإن‭ ‬الشارع‭ ‬ليس‭ ‬بأفضل‭ ‬حال‭ ‬“الشارع‭ ‬مزدحم،‭ ‬تلوث،‭ ‬صراخ‭ ‬الباعة،‭ ‬حركة‭ ‬شاحنات،‭ ‬ذباب‮…‬‭ ‬حتى‭ ‬فنجان‭ ‬قهوة‭ ‬على‭ ‬الشرفة‭ ‬صار‭ ‬حلمًا‭.‬”

    حقوق‭ ‬مهمشة

ورغم‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬لم‭ ‬يقف‭ ‬بعض‭ ‬السكان‭ ‬مكتوفي‭ ‬الأيدي،‭ ‬فقد‭ ‬حاولوا‭ ‬إيصال‭ ‬أصواتهم‭ ‬مرارًا‭ ‬“قدمنا‭ ‬شكاوى‭ ‬للبلدية‭ ‬ووزارة‭ ‬البيئة‭. ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬شيء‭. ‬هي‭ ‬عادة‭ ‬ليبية،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬تحمّل‭ ‬مسؤولياته‭. ‬الوعود‭ ‬كثيرة،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يفي‭.‬”‭ ‬

وتساءلت‭ ‬نعيمة،‭ ‬وهي‭ ‬تحصي‭ ‬أضرار‭ ‬الرائحة‭ ‬والحشرات‭ ‬وحساسية‭ ‬الأطفال‭ ‬“هل‭ ‬هذا‭ ‬عدل؟‭ ‬الأحياء‭ ‬الأخرى‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬خدمات‭ ‬أفضل‭. ‬نحن‭ ‬مهمشون‭ ‬فقط‭ ‬لأننا‭ ‬قرب‭ ‬سوق‭ ‬المواشي؟‭!‬”

لم‭ ‬تفقد‭ ‬نعيمة‭ ‬إيمانها‭ ‬بإمكانية‭ ‬التغيير،‭ ‬وترى‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬خطوة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بنقل‭ ‬سوق‭ ‬المواشي‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬المناطق‭ ‬السكنية،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬بناء‭ ‬مسلخ‭ ‬مركزي‭ ‬مجهز‭ ‬بمواصفات‭ ‬صحية‭ ‬تضمن‭ ‬النظافة‭ ‬وسلامة‭ ‬اللحوم،‭ ‬وتحمي‭ ‬السكان‭ ‬من‭ ‬التلوث‭. ‬أما‭ ‬المخلفات‭ ‬فيجب‭ ‬أن‭ ‬يُخصص‭ ‬لها‭ ‬مكان‭ ‬آمن‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬البيوت،‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬تُرمى‭ ‬على‭ ‬الطرقات‭ ‬أو‭ ‬خلف‭ ‬الجدران‭. ‬

تتحدث‭ ‬أيضًا‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬تنظيف‭ ‬الشوارع‭ ‬بشكل‭ ‬منتظم،‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬المناسبات،‭ ‬بل‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬روتين‭ ‬يومي‭ ‬تتكفله‭ ‬البلدية‭. ‬

وبنبرة‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬التعب،‭ ‬تضيف‭ ‬“وحتى‭ ‬لو‭ ‬ما‭ ‬يقدروا‭ ‬يغيروا‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬يعوضونا‭ ‬نفسيًا‭ ‬وصحيًا،‭ ‬لأن‭ ‬اللي‭ ‬نعيشه‭ ‬مش‭ ‬طبيعي‭.‬”

    تشريعات‭ ‬بلا‭ ‬جدوى‭ ‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬القانونية،‭ ‬لا‭ ‬تسير‭ ‬الأمور‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬العشوائي‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭. ‬توضح‭ ‬المحامية‭ ‬كريمة‭ ‬عمار‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬أن‭ ‬تربية‭ ‬الماشية‭ ‬ومهنة‭ ‬الجزارة‭ ‬ليستا‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬التنظيم،‭ ‬بل‭ ‬تخضعان‭ ‬لقوانين‭ ‬ولوائح‭ ‬تضعها‭ ‬نقابات‭ ‬مهنية‭ ‬مختصة،‭ ‬مثل‭ ‬نقابتي‭ ‬الجزارين‭ ‬ومربي‭ ‬الماشية‭. ‬

هذه‭ ‬النقابات‭ ‬تنظّم‭ ‬شروط‭ ‬إنشاء‭ ‬الزرائب،‭ ‬وآليات‭ ‬الذبح،‭ ‬وضوابط‭ ‬النظافة،‭ ‬وتُلزم‭ ‬المنتسبين‭ ‬إليها‭ ‬بدفع‭ ‬الرسوم‭ ‬والالتزام‭ ‬بالمعايير‭ ‬الصحية‭ ‬والمهنية‭.‬

لكن،‭ ‬ورغم‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬التنظيمي،‭ ‬فإن‭ ‬إقامة‭ ‬زرائب‭ ‬ومسالخ‭ ‬وسط‭ ‬الأحياء‭ ‬السكنية‭ ‬يُعد‭ ‬مخالفة‭ ‬واضحة،‭ ‬لما‭ ‬تسببه‭ ‬من‭ ‬أذى‭ ‬بيئي‭ ‬وصحي‭ ‬لسكان‭ ‬المنطقة‭. ‬

وجود‭ ‬أسواق‭ ‬مخصصة‭ ‬ومزارع‭ ‬خاصة‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التوسع‭ ‬داخل‭ ‬الأحياء‭ ‬أمرًا‭ ‬غير‭ ‬مبرر‭ ‬قانونيًا‭ ‬أو‭ ‬وظيفيًا‭. ‬

وتشير‭ ‬المحامية‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مسؤولية‭ ‬تطبيق‭ ‬هذه‭ ‬اللوائح‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الحرس‭ ‬البلدي،‭ ‬المخوّل‭ ‬بتلقي‭ ‬شكاوى‭ ‬السكان،‭ ‬وفرض‭ ‬العقوبات‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الغرامات‭ ‬المالية،‭ ‬ولا‭ ‬تنتهي‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬إزالة‭ ‬الزرائب،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬الحبس‭ ‬إذا‭ ‬تسببت‭ ‬المخالفات‭ ‬في‭ ‬ضرر‭ ‬مادي‭ ‬أو‭ ‬معنوي‭.‬

    حملات‭ ‬موسمية‭ ‬بلا‭ ‬أثر

محاولات‭ ‬البلديات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬غائبة‭ ‬تمامًا‭. ‬بلدية‭ ‬طرابلس‭ ‬أعلنت‭ ‬مرارًا‭ ‬عن‭ ‬حملات‭ ‬محدودة‭ ‬خلال‭ ‬فترات‭ ‬الأعياد،‭ ‬لإزالة‭ ‬الزرائب‭ ‬من‭ ‬الشوارع‭ ‬والساحات‭.‬

لكنها‭ ‬تظل‭ ‬حملات‭ ‬موسمية‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬أيامًا‭ ‬معدودة،‭ ‬وتفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الاستمرارية‭ ‬أو‭ ‬الرقابة‭ ‬بعد‭ ‬العيد‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬السكان‭ ‬يشعرون‭ ‬بأنهم‭ ‬مجرد‭ ‬صورة‭ ‬باهتة‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬أكبر،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يراهم‭ ‬أو‭ ‬يسمعهم‭.‬

    بيئة‭ ‬مثالية‭ ‬لانتقال‭ ‬العدوى

من‭ ‬أبرز‭ ‬المخاطر‭ ‬التي‭ ‬تهدد‭ ‬الصحة‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المواشي‭ ‬ليست‭ ‬دائمًا‭ ‬محلّية‭ ‬أو‭ ‬تحت‭ ‬رقابة‭ ‬بيطرية‭ ‬صارمة‭. ‬

ففي‭ ‬عام‭ ‬2024،‭ ‬سجّل‭ ‬المركز‭ ‬الوطني‭ ‬للصحة‭ ‬الحيوانية‭ ‬تفشيًا‭ ‬واسعًا‭ ‬لمرض‭ ‬الحمى‭ ‬القلاعية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬الغربية‭ ‬والجنوبية‭ ‬من‭ ‬ليبيا،‭ ‬وأرجع‭ ‬مدير‭ ‬المركز،‭ ‬الدكتور‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬جبيل،‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬إلى‭ ‬دخول‭ ‬مواشٍ‭ ‬مريضة‭ ‬عبر‭ ‬المنافذ‭ ‬البرّية‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬مثل‭ ‬السودان‭ ‬وتشاد،‭ ‬دون‭ ‬إخضاعها‭ ‬لأي‭ ‬فحوصات‭ ‬بيطرية‭. ‬

بؤر‭ ‬الوباء‭ :‬

حكاية‭ ‬الأزقة‭ ‬ومزارع‭ ‬التفريخ‭ ‬المجهولة

ومع‭ ‬غياب‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬الحدود،‭ ‬وسوء‭ ‬تربية‭ ‬المواشي‭ ‬داخل‭ ‬المدن،‭ ‬تصبح‭ ‬الزرائب‭ ‬العشوائية‭  ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬المنتشرة‭ ‬بين‭ ‬الأزقة‭ ‬والمنازل‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الإسلامي‭  ‬بيئة‭ ‬مثالية‭ ‬لتكاثر‭ ‬الأمراض‭ ‬وانتقال‭ ‬العدوى،‭ ‬سواء‭ ‬بين‭ ‬الحيوانات‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الحيوان‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭. ‬هكذا‭ ‬يتضاعف‭ ‬الخطر‭ ‬في‭ ‬حيّ‭ ‬مكتظ‭ ‬بالسكان،‭ ‬يعاني‭ ‬أساسًا‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬الخدمات‭ ‬الطبية‭ ‬والبنية‭ ‬التحتية،‭ ‬ويعيش‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬روائح‭ ‬الفضلات‭ ‬وتهديدات‭ ‬صحية‭ ‬لا‭ ‬تُرى‭ ‬بالعين‭ ‬المجردة‭.‬

لقد‭ ‬أسفرت‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬عن‭ ‬موجة‭ ‬وبائية‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬طالت‭ ‬مواشي‭ ‬ليبيا،‭ ‬مهددة‭ ‬سبل‭ ‬عيش‭ ‬آلاف‭ ‬الأسر،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الأحياء‭ ‬الضعيفة‭ ‬كالحي‭ ‬الإسلامي‭. ‬إذ‭ ‬تم‭ ‬تسجيل‭ ‬47‭ ‬بؤرة‭ ‬إصابة‭ ‬مؤكدة،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬نفوق‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬550‭ ‬رأسًا‭ ‬من‭ ‬الأغنام،‭ ‬وإصابة‭ ‬2246‭ ‬رأسًا‭ ‬أخرى،‭ ‬بينما‭ ‬تم‭ ‬احتساب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬6600‭ ‬رأس‭ ‬ضمن‭ ‬الحيوانات‭ ‬المعرضة‭ ‬للاختلاط‭ ‬بالعدوى‭. ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬تفشى‭ ‬مرض‭ ‬الجلد‭ ‬العقدي‭ ‬ومرض‭ ‬اللسان‭ ‬الأزرق،‭ ‬مما‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬وأربك‭ ‬جهود‭ ‬التلقيح‭.‬

     كلنا‭ ‬في‭ ‬خطر‭ !‬

يحذر‭ ‬الأطباء‭ ‬البيطريون‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الحمى‭ ‬القلاعية‭ ‬ليست‭ ‬التهديد‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬القطاع‭ ‬الحيواني،‭ ‬حيث‭ ‬توجد‭ ‬أمراض‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والحيوان،‭ ‬مثل‭ ‬البروسيلا‭ ‬والسل‭ ‬البقري،‭ ‬والتي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنتقل‭ ‬عبر‭ ‬الهواء‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الذبح‭ ‬العشوائي،‭ ‬أو‭ ‬ملامسة‭ ‬الأطفال‭ ‬للحيوانات‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭. ‬

أكد‭ ‬الدكتور‭ ‬فتحي‭ ‬بن‭ ‬موسى،‭ ‬طبيب‭ ‬بيطري،‭ ‬أن‭ ‬انتشار‭ ‬الزرائب‭ ‬العشوائية‭ ‬يُعقّد‭ ‬مهمة‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الأمراض‭ ‬الحيوانية،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬غياب‭ ‬الأسواق‭ ‬الرسمية‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تتبع‭ ‬مصدر‭ ‬المواشي‭ ‬أو‭ ‬إجراء‭ ‬الفحوصات‭ ‬البيطرية‭ ‬اللازمة،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تفشي‭ ‬الأمراض‭ ‬بشكل‭ ‬أسرع‭ ‬وأوسع‭.‬

    معركة‬مستمرة

أما‭ ‬عن‭ ‬وضع‭ ‬الحرس‭ ‬البلدي،‭ ‬فقد‭ ‬عبّر‭ ‬أحد‭ ‬عناصره‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬بقوله‭: ‬“نقوم‭ ‬بالحملات،‭ ‬نغلق‭ ‬بعض‭ ‬المحال،‭ ‬ولكنهم‭ ‬يعودون‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭. ‬نحن‭ ‬مثل‭ ‬لعبة‭ ‬القط‭ ‬والفأر‭.‬”‭ ‬

رغم‭ ‬اتخاذ‭ ‬السلطات‭ ‬بعض‭ ‬الإجراءات،‭ ‬مثل‭ ‬إغلاق‭ ‬أسواق‭ ‬بيع‭ ‬المواشي‭ ‬مؤقتًا‭ ‬وتشكيل‭ ‬غرف‭ ‬عمليات،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ضعف‭ ‬النظام‭ ‬البيطري،‭ ‬وتهريب‭ ‬المواشي‭ ‬عبر‭ ‬الحدود،‭ ‬وغياب‭ ‬الرقابة‭ ‬الدورية‭ ‬ونقص‭ ‬اللقاحات،‭ ‬جميعها‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الأوبئة‭ ‬أمرًا‭ ‬بالغ‭ ‬الصعوبة‭.

    حيّ‭ ‬مرآة‭ ‬للفشل‭ 

ما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬الإسلامي‭ ‬ليس‭ ‬حالة‭ ‬استثنائية،‭ ‬بل‭ ‬مرآة‭ ‬مصغّرة‭ ‬لأزمة‭ ‬عمرانية‭ ‬وصحية‭ ‬واقتصادية‭ ‬تعصف‭ ‬بمدن‭ ‬ليبية‭ ‬كثيرة‭. ‬الزرائب‭ ‬العشوائية‭ ‬وتفشي‭ ‬الأمراض‭ ‬وغياب‭ ‬المرافق‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬تفاصيل‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬فوضوي،‭ ‬بل‭ ‬نتائج‭ ‬مترابطة‭ ‬لانهيار‭ ‬التخطيط‭ ‬وغياب‭ ‬البدائل‭ ‬وتهرّب‭ ‬المؤسسات‭ ‬من‭ ‬مسؤولياتها‭. ‬

وفي‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الانسحاب‭ ‬الرسمي،‭ ‬يُترك‭ ‬السكان‭ ‬لمصيرهم،‭ ‬بين‭ ‬أمهات‭ ‬يكافحن‭ ‬مثل‭ ‬نعيمة‭ ‬لحماية‭ ‬أطفالهن‭ ‬من‭ ‬الذباب‭ ‬والربو،‭ ‬ومربين‭ ‬محدودي‭ ‬الدخل‭ ‬لا‭ ‬يجدون‭ ‬مكانًا‭ ‬سوى‭ ‬أزقة‭ ‬الحي‭ ‬لإيواء‭ ‬حيواناتهم،‭ ‬وسكان‭ ‬يتأرجحون‭ ‬بين‭ ‬الغضب‭ ‬والتأقلم‭.‬

     استراتيجيات‬البقاء

الفوضى‭ ‬ليست‭ ‬قدرًا‭ ‬محتومًا‭ ‬ثمة‭ ‬حلول‭ ‬تبدأ‭ ‬بالاعتراف‭ ‬بالمشكلة،‭ ‬وتمرّ‭ ‬عبر‭ ‬مقاربة‭ ‬عملية‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بإزالة‭ ‬الزرائب‭ ‬بالقوة،‭ ‬بل‭ ‬توفر‭ ‬بدائل‭ ‬واقعية‭.‬

يمكن‭ ‬للبلديات‭ ‬مثلًا‭ ‬إنشاء‭ ‬أسواق‭ ‬مواشٍ‭ ‬ومسالخ‭ ‬مركزية‭ ‬مرخّصة‭ ‬خارج‭ ‬النطاق‭ ‬السكني،‭ ‬تُجهّز‭ ‬ببنى‭ ‬تحتية‭ ‬ملائمة‭ ‬وتُتاح‭ ‬بأسعار‭ ‬رمزية،‭ ‬بما‭ ‬يسمح‭ ‬للمربين‭ ‬بمزاولة‭ ‬نشاطهم‭ ‬دون‭ ‬التسبب‭ ‬بأذى‭ ‬بيئي‭. ‬

تقديم‭ ‬حوافز‭ ‬انتقال‭ ‬أو‭ ‬تعويضات‭ ‬مالية‭ ‬للمربين‭ ‬المتعاونين،‭ ‬مقابل‭ ‬إزالة‭ ‬زرائبهم‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬الأحياء‭ ‬السكنية‭ ‬حيث‭ ‬يحتاج‭ ‬السكان‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬إلى‭ ‬أدوات‭ ‬للمشاركة،‭ ‬عبر‭ ‬تشكيل‭ ‬لجان‭ ‬أهلية‭ ‬مدعومة‭ ‬من‭ ‬السلطات،‭ ‬تراقب‭ ‬الانتهاكات‭ ‬وتُبلغ‭ ‬عنها،‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بالشكاوى‭ ‬المعزولة‭. ‬

يستدعي‭ ‬ذلك‭ ‬أيضًا‭ ‬إعادة‭ ‬تفعيل‭ ‬دور‭ ‬الجهات‭ ‬البيطرية‭ ‬والبيئية،‭ ‬لضمان‭ ‬الرقابة‭ ‬الصحية‭ ‬على‭ ‬الذبح‭ ‬والتربية،‭ ‬وردم‭ ‬الفجوة‭ ‬المتسعة‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭.‬

الزرائب‭ ‬هنا‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬روثًا‭ ‬وروائح‭ ‬وصورًا‭ ‬صادمة،‭ ‬بل‭ ‬عرضٌ‭ ‬جانبي‭ ‬لأزمة‭ ‬أعمق‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬تتقاطع‭ ‬فيه‭ ‬الحاجة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬مع‭ ‬انهيار‭ ‬التخطيط،‭ ‬وتُترك‭ ‬فيه‭ ‬مدن‭ ‬مثل‭ ‬طرابلس‭ ‬لتواجه‭ ‬أزماتها‭ ‬بوسائل‭ ‬بدائية‭. ‬

وبين‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬البقاء‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬التلوث،‭ ‬تبقى‭ ‬أصوات‭ ‬مثل‭ ‬نعيمة‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬تنهكها‭ ‬العشوائيات،‭ ‬وتبحث‭ ‬عن‭ ‬طريقة‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬أكثر‭.‬

Share this content: