صراع الأجيال في ميزان القيم
حين تصبح التربية بالعيب قانونا غير مكتوب
يُعدّ العيب عنصرًا مهمًّا في تكوين الشخصية الليبية، وهو أساسٌ مركزي في بناء منظومة القيم والمفاهيم التي تحدد سلوك الفرد. وقد أصبح المحرك الأهم للسلوك العام، ذلك العرف الذي بلغ في بعض الأحيان حدّ القداسة، حتى إنه يسبق الدين أحيانًا في تأثيره وتوجيهه.
والعيب، كغيره من الأعراف والتقاليد والعادات الاجتماعية، يتغير عبر الزمن؛ فما كنّا نعدّه عيبًا في الماضي أصبح اليوم أمرًا عاديًا لا يستنكر. لقد تغيّرت منظومة القيم والأخلاق، فصار ما كان محرّمًا اجتماعيًّا في الأمس، مألوفًا ومباحًا في حاضرنا.
فعلى سبيل المثال، كانت علاقتنا بالآخرين تُحتّم علينا عدم تناول الطعام في بيوتنا ونحن نعلم أنّ جارنا لا يجد قوت يومه؛ كان ذلك «عيبًا» يلزمنا أن نشاركه الطعام قبل أن نأكل. هذه إحدى قيم العيب في الثقافة الشعبية والموروث الأخلاقي. أمّا اليوم فقد أصبح الأمر عاديًا، وقد يمرّ الجار بجاره دون أن يعرف أحدهما حال الآخر، والأمثلة كثيرة.
هل العيب… أقدس من الدين؟
الكلمة التي قتلت أحلامنا
استطلاع: ابتسام الأطرش
فاروق الكموني – موظف.. يقول:
العيب هو كل فعل أو لفظ أو تصرف يتنافى مع الدين والعرف والتقاليد.
يُستخدم لتقويم سلوك الأطفال والمراهقين، عبر توجيههم إلى السلوك الصحيح والالتزام بالأخلاق الحسنة.
تُعدّ العائلة الليبية المحافظة شديدة الحرص على تهذيب أخلاق أبنائها، وتحثهم على الانتباه لأقوالهم وتصرفاتهم، وتستعين أحيانًا بالأقارب والجيران لمتابعة سلوك الأبناء حتى خارج المنزل.
كان المجتمع متمسّكًا بكل ما ينتمي لثقافته من أفعال وأقوال، من أبسطها غضّ البصر والابتعاد عن ممتلكات الغير دون إذن، والامتناع عن الكذب والسرقة والتلفظ بالفحش.
أسهمت كلمة «عيب» في تعزيز الوعي الاجتماعي والالتزام بالأخلاق وضوابط العرف والتقاليد، فأنتجت أجيالاً تتسم بأخلاق حسنة.
لكن الإفراط في استخدام العيب قد يؤدي إلى نتائج عكسية؛ فالتوجيه حين يكون قائمًا على الإقناع يكون أفضل من الفرض والقمع.
لقد تطوّر مفهوم العيب وأصبح بعض ما كان مرفوضًا في الماضي عاديًا اليوم، دون أن يثير الانتباه.

هل ربّت كلمة “عيب”
أجيالًا أسوياء أم ضحايا نفسيين؟
وسام محمود – تاجر وأب لأربعة أطفال .. يقول:
العيب مصطلح يُستخدم لتعزيز تجنب كل ما يتعارض مع الدين والعرف والتقاليد، ويأتي في المرتبة الثانية بعد «التحريم». كان واضحًا في ثقافة المجتمع القديم وله ثوابته. أما اليوم فأصبح مصطلحًا أكثر مرونة، يتكيف مع لغة العصر التي تشهد في كل لحظة انهيارًا في الأسس القيمية للمجتمعات.
وتظهر عواقب ذلك بوضوح في المجتمعات المحافظة التي باتت تُعطي الأولوية لفكرة «النجاح» دون النظر إلى كيفية تحقيقه، إلى جانب انتشار مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان التي يراها بعضهم أدوات تؤدي إلى تفكيك ما تبقى من البناء المجتمعي.
تربية الخوف
بين الطاعة والمرض
حنان عبد الهادي – معلمة ومربية .. تقول:
كان العيب في البيت الليبي نهيًا عن أفعال تمس حياتنا اليومية وتربية أطفالنا، مثل الكذب والسرقة والشتائم، وحتّى رفع الصوت على الكبير أو عدم احترام الجار.
ومن جانب آخر، يشمل العيب كل سلوك لا أخلاقي، وهنا تتساوى كلمة «عيب» مع «الحرام» بحيث تكفي عبارة واحدة: «لا تفعل… هذا عيب» كي يمتنع الطفل عن الفعل.
وبالنظر إلى أسلوب تربية الأجيال السابقة، نلاحظ أنهم كانوا أقوى خُلقًا رغم محدودية تعليمهم؛ لأنهم استمعوا لآبائهم وطبقوا ما يُوجّه إليهم دون جدال، فنتجت عن ذلك تربية رصينة بعيدة عن العنف والتهديد.
سكينة الهمالي – أخصائية ومرشدة اجتماعية.. تقول:
كان العيب مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالعادات والتقاليد والموروثات الاجتماعية، وكان المرجعية الأساسية لضبط السلوك وتنظيم العلاقات بين الأفراد.
ومع الانفتاح العالمي وظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتعدد منصات المعرفة، بدأ المفهوم يفقد معناه القديم؛ فقد كانت له في الماضي سلطة مجتمعية تُقيّد الفرد، أما اليوم فأصبح مفهومًا نسبيًا يتغير باختلاف البيئة والثقافة.
وبات العيب مرتبطًا أكثر بوعي الأفراد وحقوقهم، مع بقاء بعض المحرمات الاجتماعية التي يصعب تجاوزها. وتختتم بقولها:

العيب لم يختفِ؛ بل تغيّر في مضمونه وحدوده، وأصبح المجتمع أكثر وعيًا بضرورة التفريق بين المحرّم دينيًا والمجرّم قانونيًا وبين ما هو مجرد عرف اجتماعي.
رنيم محمد – طالبة جامعية.. تقول:
ما زال المجتمع الليبي لا يتقبل الكثير من الممارسات، وإن كنتُ أرى أن بعضها لا يمسّ الأخلاق. لكنني لا أستطيع مخالفة الأعراف المجتمعية التي نشأنا عليها، فأنا جزء منها شاءت نفسي أم أبت.
العيب مصطلح واسع، وليس كل سلوك يمكن وسمه به، ما دام في حدود الأخلاق التي تربّينا عليها. ومع عصر الانفتاح الحالي، يبقى المهم ألّا تؤثر فينا الثقافات المخالفة لديننا.

همّام – شاب في السادسة والعشرين .. يقول:
لا أعترف بوجود العيب كمعيار مستقل؛ نحن تربّينا في مجتمع تحكمه العادات والتقاليد، لكنني أتبع ما يرفضه الدين قبل كل شيء. أحترم الأكبر سنًا، ولا أتجرأ بالكلام أمامه، ولا أصاحب رفاق السوء، ولا أتأثر بثقافات وسائل التواصل التي اجتاحتنا من كل اتجاه.
وأرى أن البيت الليبي إن كانت جذوره سليمة وتربيته صحيحة، فلن يكون للعيب حضور كبير؛ فالتربية الجيدة تنتج وعيًا يستطيع الشباب من خلاله التمييز بين الخطأ والصواب، ورفض السلوكيات المرفوضة. المهم أن تكون الجذور التربوية راسخة وواضحة.
Share this content: