×

من بارمينيدس إلى نيتشه..

من بارمينيدس إلى نيتشه..

                                              العدمية‭ ‬كبوصلة‭ ‬للتمرد‭ ‬الأنطولوجي‭ ‬والثورة‭ ‬

    في‭ ‬خضم‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬الليبي‭ ‬المتخم‭ ‬بالتحديات،‭ ‬يبرز‭ ‬سعود‭ ‬سالم‭ ‬كمفكر‭ ‬وفنان‭ ‬أناركي‭ ‬،‭ ‬يرفض‭ ‬الأطر‭ ‬الجامدة‭ ‬ويُعلن‭  ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬المُستلب‭ .‬

رحلة‭ ‬سالم‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬سيرة‭ ‬فنية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬مسار‭ ‬وجودي‭ ‬قطعته‭ ‬قدم‭ ‬الفكر‭ ‬بين‭ ‬زوارة‭ ‬وبنغازي‭ ‬وطرابلس،‭ ‬لتتوقف‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬محطات‭ ‬الفلسفة‭ ‬الكبرى‭ ‬من‭ ‬سارتر‭ ‬ونيتشه‭ ‬إلى‭ ‬هايدغر،‭ ‬مُنطلقاً‭ ‬منها‭ ‬نحو‭ ‬صياغة‭ ‬رؤية‭ ‬فنية‭ ‬تُراهن‭ ‬على‭ ‬‮«‬الفوضى‭ ‬المُنظمة‮»‬‭ ‬في‭ ‬تقنية‭ ‬فن‭ ‬الأكشن‭ ‬وتُصارع‭ ‬المؤسسات‭ ‬المُهيمنة‭ ‬على‭ ‬الفضاء‭ ‬الجمالي‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬الاستثنائي،‭ ‬يفتح‭ ‬الفنان‭ ‬والأكاديمي‭ ‬الليبي‭ ‬المقيم‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬سعود‭ ‬سالم،‭ ‬خزائن‭ ‬تجربته‭ ‬المتفردة‭ ‬لمجلة‭ ‬الليبية؛‭ ‬يُفكك‭ ‬العلاقة‭ ‬المعقدة‭ ‬بين‭ ‬الصورة‭ ‬والواقع،‭ ‬ويتساءل‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الجذور‭ ‬والهوية،‭ ‬مُقدماً‭ ‬تصوره‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬مجتمع‭ ‬إنساني‭ ‬أفقي‭ ‬بلا‭ ‬سلطة‭ ‬متعالية‮»‬‭. ‬كما‭ ‬يبين‭ ‬كيف‭ ‬أثرت‭ ‬فيه‭ ‬روح‭ ‬الثورات‭ ‬التحررية‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬الغربة‭ ‬من‭  ‬مفهوم‭ ‬اجتماعي‭ ‬إلى‭ ‬شعور‭ ‬أنطولوجي‭ ‬عميق،‭ ‬ليظل‭ ‬الفن‭ ‬والجسد‭ ‬لديه‭ ‬هما‭ ‬الأداة‭ ‬الوحيدة‭ ‬لـ»فك‭ ‬الحصار‮»‬‭ ‬عن‭ ‬إنسان‭ ‬المنطقة‭.‬

  ‬وكيف‭ ‬يُصبح‭ ‬رفض‭ ‬الجوائز‭ ‬الرسمية‭ ‬والتكريمات،‭ ‬على‭ ‬خطى‭ ‬معلمه‭ ‬سارتر،‭ ‬جزءاً‭ ‬أصيلاً‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ‬فني‭ ‬وفكري‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬إثراء‭ ‬كينونة‭ ‬العالم‭ .‬

             

 الفنان‭ ‬والمفكر‭ “‬سعود‭ ‬سالم‭”:‬

أجرت الحوار : صافيناز عمران عطاالله

أرفض‭ ‬شرعية‭ ‬الدولة‭ ‬ومؤسساتها

وأدعو‭ ‬لتكوين‭ ‬روابط‭ ‬فنية‭ ‬مستقلة‭ ‬خارج‭ ‬الحدود‭ ‬الحمراء

ما‭ ‬لا‭ ‬أستطيـــع‭ ‬قولــه‭ ‬هــو‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬لدّي‭ ‬القــدرة‭ ‬على‭ ‬التفكيــــر‭ ‬فيـــه‭ ‬

‭ ‬كيف‭ ‬شكّلت‭ ‬رحلتك‭ ‬الأكاديمية‭ ‬والفكرية‭ ‬المتنقلة‭ ‬بين‭ ‬زوارة،‭ ‬بنغازي،‭ ‬وطرابلس،‭ ‬أرضية‭ ‬خصبة‭ ‬لتقاطع‭ ‬الفلسفة‭ ‬مع‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬في‭ ‬أعمالك‭ ‬الأولى،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬تركته‭ ‬هذه‭ ‬التشكيلات‭ ‬الفكرية‭ ‬على‭ ‬تجربتك‭ ‬الفنية‭ ‬اللاحقة؟

لقد‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولية‭ ‬للدراسة،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬تكوينية‭ ‬بالضرورة‭ ‬وكما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الإنساني‭ ‬عموما،‭ ‬فإننا‭ ‬نتعلم‭ ‬الحياة‭ ‬أولا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نتعلم‭ ‬التفكير‭ ‬وقبل‭ ‬اكتشاف‭ ‬قدراتنا‭ ‬ومشاريعنا‭ ‬الوجودية‭ ‬للتأثير‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وتغييره،‭ ‬وتشكيل‭ ‬المادة‭ ‬المحيطة‭ ‬بنا‭ ‬في‭ ‬تكوينات‭ ‬جديدة‭. ‬

مدينة‭ ‬زوارة‭ ‬هي‭ ‬البداية،‭ ‬وهي‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬صورة‭ ‬البناء‭ ‬اللاحق‭ ‬بأكمله،‭ ‬مرحلة‭ ‬الإدراك،‭ ‬بداية‭ ‬تعلم‭ ‬ملمس‭ ‬الأشياء‭ ‬وإدراك‭ ‬كثافة‭ ‬العالم،‭ ‬البحر‭ ‬والسماء‭ ‬ورمال‭ ‬الشاطيء‭ ‬والمطر‭ ‬ورياح‭ ‬القبلي‭ ..‬ثم‭ ‬الخطوط‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬الرمال‭ ‬أو‮«‬الخربشة‮»‬‭ ‬بالفحم‭ ‬على‭ ‬الجدران،‭ ‬ككل‭ ‬الأطفال،‭ ‬وكذلك‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬البشر‭ ‬والأصدقاء‭ .. ‬ثم‭ ‬مرحلة‭ ‬بنغازي‭ ‬وبداية‭ ‬القراءة‭ ‬والسفر‭ ‬لمدن‭ ‬العالم‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الأدب،‭ ‬حيث‭ ‬تجولت‭ ‬في‭ ‬أزقة‭ ‬باريس‭ ‬مع‭ ‬البؤساء‭ ‬وأحدب‭ ‬نوتردام،‭ ‬ولندن‭ ‬مع‭ ‬أوليفر‭ ‬تويست‭ ‬ودافيد‭ ‬كوبرفيلد،‭ ‬والمدن‭ ‬الروسية‭ ‬مع‭ ‬روايات‭ ‬دوستوييفسكي‭ ‬وتورجينييف‭ ‬وجوركي‭ .. ‬فاهتماماتي‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة،‭ ‬كانت‭ ‬القراءة،‭ ‬وبالذات‭ ‬قراءة‭ ‬الأدب‭ ‬الروسي‭ ‬والإنجليزي‭ ‬والفرنسي،‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬وشعر‭ ‬ومسرح،‭ ‬لذلك‭  ‬كنت‭ ‬أرتاد‭ ‬المكتبات‭ ‬العامة‭ ‬المتواجدة‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وبالذات‭ ‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬المصري‭ ‬والأمريكي‭ .‬

كل‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬هي‭ ‬ذكريات‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الذين‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬أتذكر‭ ‬البعض‭ ‬منهم،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬غابت‭ ‬وجوههم‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭.‬

‭ ‬في‭ ‬رحلتك‭ ‬الفكرية،‭ ‬تتبعت‭ ‬مسار‭ ‬العدمية‭ ‬من‭ ‬‮«‬بارمينيدس‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬نيتشه‮»‬‭ ‬و«هايدغر‮»‬‭ ‬و«سارتر‮»‬‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬دفعك‭ ‬تحديدًا‭ ‬إلى‭ ‬استكشاف‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬أبرز‭ ‬المحطات‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬توقفت‭ ‬عندها‭ ‬وتأثرت‭ ‬بها‭ ‬شخصيًا؟

هناك‭ ‬علامات‭ ‬أو‭ ‬محطات‭ ‬فكرية‭ ‬تخلق‭ ‬عوالم‭ ‬خاصة‭ ‬نرتبط‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬زمنية‭ ‬معينة،‭ ‬وتبقى‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬كخلفية‭ ‬دائمة‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬ضبابية‭ ‬وغير‭ ‬واضحة‭ ‬المعالم،‭ ‬مثل‭ ‬عالم‭ ‬كافكا‭ ‬الغريب‭ ‬والمقلق،‭ ‬وعالم‭ ‬دوستوييفسكي‭ ‬ذو‭ ‬الشخصيات‭ ‬المعذبة‭ ‬والعنيفة،‭ ‬عالم‭ ‬فيرجينيا‭ ‬وولف‭ ‬المضطرب،‭ ‬ثم‭ ‬ديكنز،‭ ‬بلزاك،‭ ‬تورجينييف،‭ ‬بوشكين،‭ ‬وأيضا‭ ‬السياب،‭ ‬عبد‭ ‬الباسط‭ ‬الصوفي،‭ ‬البياتي،‭ ‬أدونيس،سميح‭ ‬القاسم‭ ‬ودرويش،‭ ‬ثم‭ ‬بيكيت،‭ ‬يونيسكو،‭ ‬جويس،‭ ‬آرتو‭ .. ‬وغيرهم‭ ‬كثيرون‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العوالم‭ ‬الخيالية‭ ‬أثرت‭ ‬بالضرورة‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬نظرتي‭ ‬الجمالية‭ ‬المتعلقة‭ ‬باللغة‭ ‬ثم‭ ‬بعالم‭ ‬التشكيل‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الفلسفي‭ ‬فالمحطة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬زودتني‭ ‬بأساسيات‭ ‬التكوين‭ ‬الفكري‭ ‬فهي‭ ‬سارتر‭ ‬وسيمون‭ ‬دو‭ ‬بوفوار،‭ ‬كنموذج،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الفلسفية‭ ‬كمدخل‭ ‬للوجودية‭ ‬والفينومينولوجيا،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الأدبية‭ ‬بخصوص‭ ‬الرواية‭ ‬والمسرح،‭ ‬وإنما‭ ‬كنمط‭ ‬للحياة‭ ‬والتعاون‭ ‬وبناء‭ ‬مشاريع‭ ‬حياتية‭ ‬مشتركة،‭ ‬وأيضا‭ ‬كنموذج‭ ‬للإلتزام‭ ‬والنضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬بمعناها‭ ‬العملي‭ ‬والأنطولوجي‭ ‬المقترنة‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬بالدفاع‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬العدالة‭ ‬الإجتماعية،‭ ‬وكمتمرد‭ ‬على‭ ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬شراء‭ ‬المثقف‭ ‬وتدجينه،‭ ‬وذلك‭ ‬برفضه‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للأدب‭ ‬عام‭ ‬1964‭. ‬فقد‭ ‬رفض‭ ‬سارتر‭ ‬باستمرار‭ ‬التكريمات‭ ‬الرسمية‭ ‬والجوائز،‭ ‬ولم‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬‮«‬مثقفا‭ ‬رسميا‮»‬‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الجائزة‭ ‬بمثابة‭ ‬‮«‬قبلة‭ ‬الموت‮»‬‭ ‬لمساره‭ ‬الفكري‭. ‬عموما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬سارتر‭ ‬وسيمون‭ ‬دو‭ ‬بوفوار،‭ ‬ثم‭ ‬لاحقا‭ ‬ميرلو‭ ‬بونتي،‭ ‬هوسرل‭ ‬وبرنتانو‭ ‬وهايدغر‭. ‬وكانت‭ ‬محاضرات‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي‭ ‬وعادل‭ ‬فاخوري‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الأكاديميين‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬الفلسفة‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬حافزا‭ ‬لمواصلة‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإتجاه‭. ‬أما‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬فلم‭ ‬أعد‭ ‬إليها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬بداية‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬العدمية‭ ‬ثم‭ ‬قراءتي‭ ‬لنيتشه‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭. ‬أما‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالعدمية‭ ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬نتيجة‭ ‬اهتماماتي‭ ‬السياسية‭ ‬وإنخراطي‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الرفض‭ ‬الشبابية‭ ‬واهتمامي‭ ‬بالفكر‭ ‬الأناركي‭ ‬والزخم‭ ‬الثوري‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬من‭ ‬باكونين،‭ ‬كروبوتكين،‭ ‬هرزن‭ ‬ونيتشاييف‭ ‬وغيرهم،‭ ‬حيث‭ ‬اكتشفت‭ ‬الجانب‭ ‬الثوري‭ ‬الخلاق‭ ‬للعدمية،‭ ‬وكيف‭ ‬مسخ‭ ‬لينين‭ ‬وتروتسكي‭ ‬الثورة‭ ‬الشعبية‭ ‬الروسية‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬التحرري‭ ‬اللاسلطوي‭ ‬وحولها‭ ‬إلى‭ ‬دكتاتورية‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭.‬

تكرّس‭ ‬جزءًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬كتاباتك‭ ‬لمهمة‭ ‬‮«‬فك‭ ‬الحصار‭ ‬عن‭ ‬العقل‭ ‬المُستَلَب‮»‬‭ ‬والتخلص‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬الغيبي‭ ‬والديني‭. ‬هل‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحصار‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬لأزمات‭ ‬مجتمعنا،‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬للفن‭ ‬والأدب‭ ‬أن‭ ‬يكونا‭ ‬أداتين‭ ‬فاعلتين‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المعركة‭ ‬الفكرية؟

للأسف،‭ ‬الحصار‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬فقط‭ ‬بالعقل‭ ‬المستلب،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬حصار‭ ‬أكبر‭ ‬وأكثر‭ ‬شراسة‭ ‬يتعلق‭ ‬بالجسد‭. ‬فنحن‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬وفي‭ ‬المنطقة‭ ‬عموما،‭ ‬يبدو‭ ‬الجسد‭ ‬محاصرا‭ ‬ومغلفا‭ ‬ومغلقا‭ ‬ومكبلا‭ ‬بألف‭ ‬وثاق،‭ ‬معزولا‭ ‬في‭ ‬عبايات‭ ‬وجلابيب‭ ‬تفصله‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬وعن‭ ‬عواصف‭ ‬ورياح‭ ‬العالم‭ ‬الحي‭ ‬وتحيله‭ ‬إلى‭ ‬كتلة‭ ‬رمادية‭ ‬تتحرك‭ ‬بين‭ ‬كتل‭ ‬رمادية‭ ‬متشابهة‭ ‬بلا‭ ‬تقاطيع‭ ‬وبلا‭ ‬هوية‭. ‬وهناك‭ ‬أيضا‭ ‬الأسوار‭ ‬والحواجز‭ ‬والقضبان‭ ‬والشبابيك‭ ‬والخطوط‭ ‬الحمراء،‭ ‬حيث‭ ‬يعيش‭ ‬المواطن‭ ‬بين‭ ‬الأسوار‭ ‬في‭ ‬قصور‭ ‬وقلاع‭ ‬قبيحة‭ ‬بلا‭ ‬نوافذ‭. ‬العقل‭.‬يحتاج‭ ‬للهواء‭ ‬والضوء‭ ‬كما‭ ‬الجسد‭ ‬يحتاج‭ ‬لحرية‭ ‬الحركة‭ ‬والتنقل،‭ ‬وهذه‭ ‬الحرية‭ ‬لا‭ ‬تتوفر‭ ‬الآن‭ ‬إلا‭ ‬بالخيال‭ ‬الفني‭ ‬والثقافي‭ ‬من‭ ‬الرسم‭ ‬والشعر‭ ‬والمسرح‭ ‬والرواية‭ ‬والرقص‭ ‬والموسيقى‭. ‬ولست‭ ‬الأول‭ ‬ولا‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬أزمة‭ ‬المنطقة‭ ‬تتعلق‭ ‬أولا‭ ‬بفك‭ ‬هذا‭ ‬الحصار‭ ‬عن‭ ‬العقل‭ ‬وعن‭ ‬الجسد،‭ ‬وإلا‭ ‬التحجر‭ ‬والتليف‭ ‬ثم‭ ‬الإختناق‭ ‬والموت‭.‬

‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬‮«‬مجتمع‭ ‬إنساني‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الجوع‭ ‬والفقر‭ ‬المادي‭ ‬والعقلي،‭ ‬مُنظّم‭ ‬بطريقة‭ ‬أفقية‭ ‬بدون‭ ‬سلطة‭ ‬متعالية‮»‬‭. ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬المثالية‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬للواقع‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬انعكاس‭ ‬لأمل‭ ‬داخلي‭ ‬يُقاوم‭ ‬مرارة‭ ‬الواقع،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬الخطوات‭ ‬العملية‭ ‬لتحقيقها‭ ‬في‭ ‬رأيك؟

إن‭ ‬بناء‭ ‬‮«‬مجتمع‭ ‬إنساني‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الجوع‭ ‬والفقر‭ ‬المادي‭ ‬والعقلي،‭ ‬مُنظّم‭ ‬بطريقة‭ ‬أفقية‭ ‬بدون‭ ‬سلطة‭ ‬متعالية‮»‬‭ ‬ليست‭ ‬رؤية‭ ‬مثالية‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬بل‭ ‬واقعية‭ ‬ومادية‭ ‬لحد‭ ‬الموت‭ ‬كما‭ ‬يقال،‭ ‬وهي‭ ‬أمل‭ ‬وهدف‭ ‬يصبو‭ ‬إليه‭ ‬آلاف‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬وفي‭ ‬العالم‭ ‬الثالث،‭ ‬وهي‭ ‬فكرة‭ ‬مادية‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭ ‬والإجتماعي‭ ‬للمجتمعات‭ ‬المعاصرة‭ ‬عموما‭. ‬الرأسمالية‭ ‬والديموقراطية‭ ‬البرلمانية‭ ‬الصورية‭ ‬أثبث‭ ‬فشلها‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬مجتمع‭ ‬يتمتع‭ ‬بالحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬والسلام‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وأثبثت‭ ‬عدم‭ ‬صلاحيتها‭ ‬لضمان‭ ‬الأساسيات‭ ‬الضرورية‭ ‬لحياة‭ ‬المواطن‭ ‬المعاصر‭. ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الحروب‭ ‬المتعددة‭ ‬المشتعلة‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬بقاع‭ ‬العالم،‭ ‬والهجرات‭ ‬الجماعية‭ ‬لملايين‭ ‬المواطنين‭ ‬والعمال‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬وهربا‭ ‬من‭ ‬الموت‭. ‬وكذلك‭ ‬حراك‭ ‬الشباب‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬جيل‭ ‬زد،‭ ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬مصلحة‭ ‬‮«‬الناس‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬أنفسهم‭. ‬وهناك‭ ‬تجارب‭ ‬تاريخية‭ ‬أثبتت‭ ‬مصداقية‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬الثورة‭ ‬الأسبانية،‭ ‬ثورة‭ ‬الجزائر‭ ‬في‭ ‬بدايتها،‭ ‬حركة‭ ‬ماكنو‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬والثورة‭ ‬الروسية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يستولي‭ ‬عليها‭ ‬لينين‭ ‬ويغير‭ ‬مسارها‭ ‬اللاسلطوي،‭ ‬والعديد‭ ‬من‭ ‬الممارسات‭ ‬الجماعية‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬تذهب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإتجاه،‭ ‬إتجاه‭ ‬الديموقراطية‭ ‬المباشرة‭ ‬والنابعة‭ ‬من‭ ‬ضرورة‭ ‬التنظيم‭ ‬الذاتي‭ ‬العفوي‭ ‬بدون‭ ‬تدخل‭ ‬خارجي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬قائد‭ ‬أو‭ ‬حزب‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬أية‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬طليعية‮»‬‭ ‬تتوسط‭ ‬أو‭ ‬تدعي‭ ‬تنظيم‭ ‬الشعب‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬مصالحه‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬أنفسهم‭. ‬إن‭ ‬طبيعة‭ ‬المرحلة‭ ‬الراهنة‭ ‬وتركيبة‭ ‬المجتمع‭ ‬الليبي‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ – ‬ولو‭ ‬بمعجزة‭ – ‬بنجاح‭ ‬أي‭ ‬نظام‭ ‬سياسي‭ ‬برلماني‭ ‬أو‭ ‬تمثيلي‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬نوعه‭. ‬وعليه‭ ‬فإنه‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬أن‭ ‬يبدع‭ ‬ويتخيل‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬يناسبه،‭ ‬وعلى‭ ‬الطبقة‭ ‬المثقفة‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والفنية،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬تطرح‭ ‬أو‭ ‬تتخيل‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬مسبقا،‭ ‬بل‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬وتهيء‭ ‬الظروف‭ ‬المناسبة‭ ‬لانبثاق‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القاعدة‭ ‬الشعبية‭ ‬ذاتها‭ ‬والتي‭ ‬ستخلق‭ ‬بالضرورة‭ ‬طريقا‭ ‬ومنهجا‭ ‬يتطور‭ ‬تدريجيا‭ ‬مع‭ ‬تطور‭ ‬الأحداث‭. ‬وأنا‭  ‬أتفق‭ ‬بالضرورة‭ ‬مع‭ ‬الفكرة‭ ‬القائلة‭ ‬بأن‭ ‬لكل‭ ‬شعب‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬يستحقه،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬الأنظمة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬لم‭ ‬تفرزها‭ ‬الشعوب‭ ‬ذاتها،‭ ‬بل‭ ‬فرضت‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬بدون‭ ‬إستشارتها‭.‬

‭ ‬تهتم‭ ‬في‭ ‬أعمالك‭ ‬الفنية‭ ‬بـ«مشكلة‭ ‬الصورة‮»‬‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بالوعي‭. ‬هل‭ ‬تعتبر‭ ‬الصورة‭ ‬مجرد‭ ‬انعكاس‭ ‬للواقع‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬كيان‭ ‬مُستقل‭ ‬يُعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬وعينا‭ ‬به؟

أرى‭ ‬أن‭ ‬الصورة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬انعكاس‭ ‬سلبي‭ ‬للواقع،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬كيان‭ ‬مستقل‭ ‬وفعّال‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬الإدراك‭ ‬المادي‭ ‬للشيء‭ ‬ليؤسس‭ ‬‮«‬واقعًا‭ ‬وهميًا‮»‬‭ ‬خاصًا‭ ‬به‭ ‬ضمن‭ ‬الوعي‭. ‬وظيفة‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬ليست‭ ‬المحاكاة،‭ ‬بل‭ ‬إثارة‭ ‬القصدية‭ ‬وتحويل‭ ‬الرؤية‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬ودلالة،‭ ‬مما‭ ‬يُجبر‭ ‬المشاهد‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الشيء‭ ‬وصورته‭ ‬والكلمة‭ ‬التي‭ ‬تسميه؛‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬ماغريت‭ ‬بلوحة‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬غليونًا‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬صورة‭ ‬الشيء‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه،‭ ‬وبذلك‭ ‬تُصبح‭ ‬الصورة‭ ‬أداة‭ ‬قوية‭ ‬تُعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬بنية‭ ‬الوعي‭ ‬والمعرفة‭ ‬لدينا‭.‬

‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬عناوين‭ ‬بعض‭ ‬أعمالك‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬خرائب‭ ‬الوعي‮»‬‭ ‬و«دهاليز‭ ‬الروح‮»‬‭ ‬و«تفتت‭ ‬الأنا‮»‬،‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬لديك‭ ‬اهتمامًا‭ ‬عميقًا‭ ‬بالعوالم‭ ‬الداخلية‭ ‬للإنسان‭. ‬كيف‭ ‬يُترجم‭ ‬هذا‭ ‬الاستكشاف‭ ‬اللاشعوري‭ ‬إلى‭ ‬ألوان‭ ‬وخطوط‭ ‬في‭ ‬لوحاتك؟

هناك‭ ‬اختلاف‭ ‬جوهري‭ ‬بين‭ ‬اللغة،‭ ‬أعني‭ ‬اللغة‭ ‬الفلسفية‭ ‬وليس‭ ‬الشعرية‭ ‬أو‭ ‬الأدبية،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬عالم‭ ‬الدلالة،‭ ‬وبين‭ ‬الفن‭ ‬والذي‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬الخيال‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬القول‭. ‬أنا‭ ‬أحاول‭ ‬قدر‭ ‬المستطاع‭ ‬تحرير‭ ‬اللوحة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يلصق‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬إسقاطات‭ ‬خارجية،‭ ‬كالتعبير‭ ‬عن‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والعواطف‭ ‬والمواقف‭ ‬أو‭ ‬الآراء‭ ‬عموما،‭ ‬أو‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬الوهمي‭ ‬الداخلي‭ ‬للفنان‭ ‬أو‭ ‬للمجتمع‭. ‬أحاول‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬تحرير‭ ‬اللوحة‭ ‬من‭ ‬البسيكولوجيا‭ ‬ومن‭ ‬كعكة‭ ‬‮«‬بروست‮»‬‭ ‬الشهيرة‭ ‬ومن‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬التعبير‮»‬‭ ‬عموما‭. ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬قراءة‭ ‬اللوحة،‭ ‬اللوحة‭ ‬يمكن‭ ‬النظر‭ ‬إليها‭ ‬فقط‭. ‬ولذلك‭ ‬أحاول‭ ‬في‭ ‬عملي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬اللوحة‭ ‬مجرد‭ ‬تكوين‭ ‬مستقل‭ ‬لا‭ ‬تشير‭ ‬سوى‭ ‬إلى‭ ‬ذاتها‭ ‬كألوان‭ ‬وأشكال‭ ‬ومساحات‭ ‬وفضاءات‭ ‬جمالية،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬قطعة‭ ‬فريدة‭ ‬وإبداع‭ ‬جزئي‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الإنتاج‭ ‬العام‭ ‬للفنان،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬كل‭ ‬قطعة‭ ‬لا‭ ‬تشير‭ ‬سوى‭ ‬إلى‭ ‬ذاتها‭ ‬كلوحة‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬التركيب‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬تنتمي‭ ‬إليه‭. ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬ظاهرة‭ ‬محايدة،‭ ‬لا‭ ‬تحتوي‭ ‬أية‭ ‬دلالة‭ ‬رمزية‭ ‬أو‭ ‬إيحائية‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬قوة‭ ‬الخطوط‭ ‬والألوان‭ ‬أو‭ ‬عنف‭ ‬التركيب‭ ‬والآداء‭. ..‬

‭ ‬تعرّف‭ ‬نفسك‭ ‬فكريًا‭ ‬بالأناركية‭ ‬الشيوعية‭. ‬كيف‭ ‬تُوفّق‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬الانتماء‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬يرفض‭ ‬السلطة‭ ‬وبين‭ ‬هويتك‭ ‬كفنان‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬مجتمع‭ ‬ذي‭ ‬إرث‭ ‬ثقافي‭ ‬غني،‭ ‬حيث‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬السلطة‭ ‬مركزية‭ ‬مُهيمنة؟

إن‭ ‬الانتماء‭ ‬للأناركية‭ ‬الشيوعية‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬مجتمع‭ ‬ذي‭ ‬إرث‭ ‬ثقافي‭ ‬وسلطة‭ ‬مركزية‭ ‬هو‭ ‬تناقض‭ ‬وجودي‭ ‬نحتضنه‭. ‬فـ»الثوابت‮»‬‭ ‬المقدسة‭ ‬كـالتراث،‭ ‬والهوية،‭ ‬والأرض،‭ ‬والأصالة،‭ ‬وحتى‭ ‬مفاهيم‭ ‬الحداثة‭ ‬المزيفة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الحرية‮»‬‭ ‬الرأسمالية‭ ‬و«الديمقراطية‮»‬‭ ‬المؤدلجة،‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬أصنامًا‭ ‬يجب‭ ‬تجاوزها‭ ‬وتحطيمها‭. ‬كفنان،‭ ‬يكمن‭ ‬التوفيق‭ ‬في‭ ‬الرفض‭ ‬الجذري‭ ‬لشرعية‭ ‬الدولة‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬بتكوين‭ ‬روابط‭ ‬وتجمعات‭ ‬فنية‭ ‬مستقلة‭ ‬تعمل‭ ‬بوعي‭ ‬كامل‭ ‬خارج‭ ‬الحدود‭ ‬الحمراء‭.‬

هدفي‭ ‬هو‭ ‬تطوير‭ ‬هذا‭ ‬الهامش‭ ‬المتمرد‭ ‬ليصبح‭ ‬هو‭ ‬المساحة‭ ‬الفنية‭ ‬الكاملة،‭ ‬محققًا‭ ‬بذلك‭ ‬قطيعة‭ ‬مع‭ ‬النسق‭ ‬المركزي‭ ‬المُهيمن‭.‬

‭ ‬في‭ ‬أعمالكم،‭ ‬نلاحظ‭ ‬تجاوراً‭ ‬فريداً‭ ‬بين‭ ‬التعبيرية‭ ‬التجريدية‭ ‬التي‭ ‬تفيض‭ ‬بالحيوية‭ ‬والانفعال،‭ ‬وبين‭ ‬تقنية‭ ‬فن‭ ‬الأكشن‭ ‬التي‭ ‬تضفي‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬حركة‭ ‬عشوائية‭ ‬وشعوراً‭ ‬بالصراع‭. ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحدثنا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬الفني‭ ‬بين‭ ‬الأسلوبين؟‭ ‬وكيف‭ ‬يترجم‭ ‬هذا‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬الانفعال‭ ‬العفوي‭ ‬والفوضى‭ ‬المنظمة‭ ‬إلى‭ ‬رسالة‭ ‬فنية‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬رؤيتكم‭ ‬للعالم‭ ‬من‭ ‬منظوركم‭ ‬الخاص‭ ‬؟

يُشكل‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬التعبيرية‭ ‬التجريدية‭ ‬الحيوية‭ ‬وفن‭ ‬الأكشن‭ ‬الفوضوي‭ ‬جوهر‭ ‬رؤيتي‭: ‬حوار‭ ‬بين‭ ‬الانفعال‭ ‬العفوي‭ ‬والفوضى‭ ‬المنظمة‭. ‬أرى‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬كمسألة‭ ‬حركة‭ ‬جسدية‭ ‬واعية،‭ ‬تتأرجح‭ ‬بين‭ ‬الخطة‭ ‬المسبقة‭ ‬والارتجال‭ ‬التام،‭ ‬حيث‭ ‬تختبئ‭ ‬‮«‬خطط‭ ‬سرية‮»‬‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬تقود‭ ‬العمل‭ ‬التلقائي‭. ‬هذا‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬الأداء‭ ‬العفوي‭ ‬المباشر‭ ‬أمام‭ ‬الجمهور‭ ‬والعمل‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬الروتيني‭ ‬في‭ ‬المرسم‭ ‬يترجم‭ ‬فكرتي‭ ‬الأساسية‭ ‬عن‭ ‬الأناركية‭ ‬ورؤيتي‭ ‬للعالم‭ ‬كـ‭ ‬فوضى‭ ‬منظمة‭.‬

‭ ‬انتقالك‭ ‬للعيش‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬الثمانينيات‭ ‬كان‭ ‬نقطة‭ ‬تحول‭ ‬كبيرة‭. ‬كيف‭ ‬أسهمت‭ ‬البيئة‭ ‬الفنية‭ ‬والثقافية‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬تجربتك‭ ‬كفنان‭ ‬ليبي،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬أبرز‭ ‬الفروقات‭ ‬التي‭ ‬لمستها‭ ‬بين‭ ‬الحركة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬وفرنسا؟‭ ‬وهل‭ ‬تحولت‭ ‬‮«‬الغربة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬وجودي‭ ‬يُشكل‭ ‬أحد‭ ‬محاور‭ ‬إبداعك؟

  ‬لقد‭ ‬أثرت‭ ‬البيئة‭ ‬الفرنسية‭ ‬والأوروبية‭ ‬عموماً‭ ‬تجربتي‭ ‬كفنان،‭ ‬موفرةً‭ ‬المناخ‭ ‬الفكري‭ ‬والاجتماعي‭ ‬المناسب‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬العبثي‮»‬‭ ‬للفن‭. ‬نقطة‭ ‬التحول‭ ‬الكبرى‭ ‬كانت‭ ‬لقائي‭ ‬بالشاعر‭ ‬والكاتب‭ ‬أرمان‭ ‬غاتي‭ ‬والكاتبة‭ ‬هيلين‭ ‬شاتلان‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬اللذين‭ ‬شجعاني‭ ‬وأثبتا‭ ‬لي‭ ‬إمكانية‭ ‬تحقيق‭ ‬مشاريع‭ ‬فنية‭ ‬ذات‭ ‬هدف‭ ‬أناركي‭ ‬اجتماعي‭ ‬وتقدمي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬‮«‬الغابة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الهمجية‮»‬‭. ‬الغربة‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬اجتماعية‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬تتعلق‭ ‬برفض‭ ‬القيود‭ ‬على‭ ‬الحياة،‭ ‬والفن،‭ ‬وحرية‭ ‬اللغة‭ ‬والثقافة‭ ‬الأمازيغية،‭ ‬وهي‭ ‬غربة‭ ‬تخلصت‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬بدخولي‭ ‬شبكات‭ ‬الشباب‭ ‬المناهض‭ ‬للأنظمة‭. ‬ومع‭ ‬السنين،‭ ‬تحولت‭ ‬الغربة‭ ‬إلى‭ ‬إحساس‭ ‬أنطولوجي‭ ‬جديد،‭ ‬يتعلق‭ ‬بظاهرة‭ ‬العبث‭ ‬وفكرة‭ ‬العدم‭ ‬التي‭ ‬تُشكل‭ ‬خلفية‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭. ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬فقط،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الغربة‮»‬‭ ‬تشكل‭ ‬أحد‭ ‬المحاور‭ ‬الأساسية‭ ‬لعملي‭ ‬الفني‭.‬

‭ ‬أعمالك‭ ‬الفنية‭ ‬تمزج‭ ‬بين‭ ‬الرسم‭ ‬والتصوير‭ ‬والكتابة‭. ‬كيف‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬هذا‭ ‬التناغم‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الفنون‭ ‬المختلفة،‭ ‬وهل‭ ‬تعكس‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬فنية‭ ‬جامعة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬جذورك‭ ‬الليبية‭ ‬وتجاربك‭ ‬العالمية؟

مزيج‭ ‬الفنون‭ ‬في‭ ‬عملي‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬لـ‭ ‬رحلة‭ ‬وجودية‭ ‬طويلة‭ ‬ومضنية،‭ ‬وليس‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬جذور‭ ‬ثابتة‭. ‬فالإنسان‭ ‬ليس‭ ‬شجرة،‭ ‬بل‭ ‬مشروع‭ ‬بناء‭ ‬هويته،‭ ‬تتكون‭ ‬تدريجيًا‭ ‬بحرية‭ ‬تامة‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الحياة‭ ‬والاختيارات‭ ‬المصيرية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تجربة‭ ‬المجتمع‭ ‬الليبي‭. ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬يسعى‭ ‬للابتعاد‭ ‬عن‭ ‬التعليق‭ ‬المباشر‭ ‬على‭ ‬الظواهر‭ ‬والأحداث،‭ ‬ليُفسح‭ ‬المجال‭ ‬للألوان‭ ‬لتكون‭ ‬هي‭ ‬اللغة‭ ‬التعبيرية‭ ‬الأساسية‭.‬

‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬حياتك‭ ‬الفنية‭ ‬الممتدة‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬هل‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬ليبيا‭ ‬مصدر‭ ‬إلهام‭ ‬أساسي‭ ‬لأعمالك؟

في‭ ‬البداية‭ ‬كان‭ ‬إهتمامي‭ ‬كبيرا‭ ‬بالرموز‭ ‬والنقوش‭ ‬الأمازيغية،‭ ‬نظرا‭ ‬للقهر‭ ‬والتهميش‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعاني‭ ‬منه‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭. ‬ففي‭ ‬فرنسا‭ ‬اكتشفت‭ ‬تنوع‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬ودرست‭ ‬جوانبها‭ ‬الفنية‭ ‬المتعددة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متاحا‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭. ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬اكتشفت‭ ‬محدودية‭ ‬هذا‭ ‬الطريق،‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمشروع‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬تحقيقه‭ ‬،‭ ‬فنيا‭ ‬ونظريا‭. ‬باعتباري‭ ‬مساندا‭ ‬لكل‭ ‬الثقافات‭ ‬المهمشة،‭ ‬والكثير‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬نفسها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬التمييز‭ ‬أو‭ ‬تفضيل‭ ‬ثقافة‭ ‬معينة‭ ‬والعمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ثقافة‭ ‬خاصة‭ ‬وإختيارها‭ ‬لأنني‭ ‬أنتمي‭ ‬إليها،‭ ‬فأنا‭ ‬أمازيغي،‭ ‬كردي،‭ ‬باسكي،‭ ‬هندي‭ ‬أحمر،‭ ‬فلسطيني‭ ..‬إلخ‭ ‬أدافع‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬جميع‭ ‬الثقافات‭ ‬واللغات‭ ‬والمجتمعات‭ ‬المضطهدة‭ ‬بنفس‭ ‬القوة‭ ‬والقناعة‭.‬

‭ ‬باعتبارك‭ ‬فنانًا‭ ‬وكاتبًا،‭ ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬لحظات‭ ‬تشعر‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬الكلمات‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬التعبير‭ ‬عما‭ ‬تريد‭ ‬قوله،‭ ‬فتتجه‭ ‬إلى‭ ‬اللون‭ ‬والخط؟‭ ‬والعكس‭ ‬صحيح؟

باعتبار‭ ‬العلاقة‭ ‬العضوية‭ ‬القائمة‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬والفكر،‭ ‬فإن‭ ‬حدود‭ ‬ما‭ ‬أفكر‭ ‬فيه‭ ‬هي‭ ‬حدود‭ ‬لغتي،‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬قوله‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬لدي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬فيه‭. ‬وأتفق‭ ‬مع‭ ‬فتقنشتاين‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬قوله‭ ‬يمكن‭ ‬قوله‭ ‬بوضوح،‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬قوله‭ ‬يجب‭ ‬الصمت‭ ‬عنه‮»‬‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬اللون‭ ‬والرسم‭ ‬التشكيلي‭ ‬هو‭ ‬ضرورة‭ ‬لا‭ ‬تتعلق‭ ‬بالتعبير‭ ‬وإنما‭ ‬بإرادة‭ ‬الحياة‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬الكينونة‭ ‬بكائنات‭ ‬جديدة‭.‬

‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬تراه‭ ‬للفنان‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا‭ ‬اليوم؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬مجرد‭ ‬موثّق‭ ‬للجمال‭ ‬والتاريخ،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬لديه‭ ‬مسؤولية‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬الأسئلة‭ ‬والتحديات‭ ‬الفكرية؟

عندما‭ ‬يرى‭ ‬أي‭ ‬إنسان‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حروب‭ ‬وتدمير‭ ‬للشعوب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الجيوش‭ ‬النظامية‭ ‬وغير‭ ‬النظامية،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ -‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تسميتها‭- ‬على‭ ‬شعب‭ ‬فلسطين،‭ ‬من‭ ‬تدمير‭ ‬وقتل‭ ‬وتشريد‭ ‬وتجويع‭ ‬وإرهاب‭ ‬وتهجير،‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يتساءل‭ ‬بجدية‭ ‬قاتلة‭ : ‬ما‭ ‬فائدة‭ ‬الكتابة‭ ‬وما‭ ‬فائدة‭ ‬الفكر‭ ‬والأدب‭ ‬والفلسفة‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬ضرورة‭ ‬الفن؟‭ ‬ولا‭ ‬يمكنه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الآلاف‭ ‬والملايين‭ ‬من‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬الكتب‭ ‬والصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬وصفحات‭ ‬الويب‭ ‬بكل‭ ‬أشكالها‭ ‬وألوانها،‭ ‬ولا‭ ‬يمكنه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يتخذ‭ ‬موقف‭ ‬ديوجين‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬أفلاطون،‭ ‬سخرية‭ ‬لاذعة،‭ ‬متسائلا‭ ‬عن‭ ‬فائدة‭ ‬رجل‭ ‬قضى‭ ‬حياته‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬الفلسفة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يزعج‭ ‬أي‭ ‬أحد‭. ‬وهذا‭ ‬التساؤل‭ ‬عن‭ ‬عبثية‭ ‬الكتابة‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬أحد‭ ‬المفكرين‭ ‬اليهود،‭ ‬ثيودور‭ ‬أدورنو،‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬بخصوص‭ ‬إستحالة‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ ‬بعد‭ ‬المحرقة‭ ‬النازية‭ ‬ومحاولتهم‭ ‬لإبادة‭ ‬اليهود‭. ‬وأنا‭ ‬كفنان‭ ‬تشكيلي،‭ ‬أطرح‭ ‬نفس‭ ‬السؤال‭ ‬اليوم،‭ ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقال‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعرض‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يحترق؟‭ ‬علما‭ ‬بأنه‭ ‬أثناء‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬أو‭ ‬جملة‭ ‬تكتب‭ ‬أو‭ ‬خط‭ ‬يرسم،‭ ‬يموت‭ ‬فلسطيني‭ ‬أو‭ ‬فلسطينية‭ ‬تحت‭ ‬القنابل‭ ‬؟‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬عمل‭ ‬الفنان‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬التوثيق‭ ‬للجمال‭ ‬أو‭ ‬للقبح‭ ‬أو‭ ‬للظواهر‭ ‬والأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬المختلفة،‭ ‬بل‭ ‬لديه‭ ‬مسؤولية‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬الأسئلة‭ ‬ومحاولة‭ ‬فك‭ ‬الحصار‭ ‬الفكري‭ ‬والمادي‭.‬

Share this content: