تأملات في السفر والالتزام
جيء الصيف كل عام محملاً بخياراته الثقيلة والخفيفة، حاملاً معه وعوداً بالتحرر، أو تحديات ب”فروض” جديدة. هذا العام، وقفتُ على مفترق طريقين بدا لي كل منهما يناديني بلهفة: إما أن أسافر ،أرمي خلفي أثقال الروتين ، أو أن أرمي أثقالا من نوع آخر ، الكزبها أركان البيت المتعبة في مشروع صياغة وتجديد يبدو ضروريآ وملحاً.
لعلّها فطرة الأمومة التي لا تقاوم، أو لعلها رغبة دفينة في الانعتاق، وجدت نفسي أساير الأبناء نحو الخيار الأول. وهكذا، حملت حقائبي، وعبرتُ المتوسط نحو جزر تحمل شمسها دفئاً يداعب الروح، ويعد بغير ما ألغته من تفاصيل..
كل سفر خصوصيته، ولكل وجهة حكاية نرويها.
لم تكن هذه المرة رحلة طويلة التي تمنح الكاتب متسعاً من الوقت للشروع في بناء عوالم وروايات جديدة. بل أشبه بوشم خفيف على صفحة الذاكرة، مفعمة بضوء المدن المتوسطية وسحرها. هناك، بين الأزقة الضيقة والساحات الرحبة، وجدتني أغرق في عالم آخر. عالم يهمني فيه التأمل في عادات وسلوك الناس، كيف يمشون، كيف يضحكون، كيف يتعاملون مع الغرباء بابتسامة أو بنظرة حذرة. أراقب إيقاعهم اليومي، أتمعن في ألوان ملابسهم، في روائح طعامهم، في فنونهم العفوية التي تبرز على واجهات المحال وعلى وجوه المارة. ذلك الاهتمام البشري الذي لا تشغله الروايات المكتملة بقدر ما تشغله قصص الحياة المعاشة.
نلك كانت المرحلة الأولى: الاستكشاف البشري.
تلتها مرحلة التجوال العميقة في المدن القديمة.
أتوغل في قلب المدينة، ذلك القلب الذي غالباً ما يكون مزد حماً بالباعة والمتسوقين، بالسياح الفرحين بكاميراتهم، بالسكان المحليين
الذين يستعرضون كل ما لديهم في كل زاوية ومتجر ومقهى.
أسير وسط الضجيج، لكن روحي كانت تبحث عن أصوات في رأسي تلك التي قرأتها في التاريخ، عن هذه المدينة، الموغلة في الحضارة، عن صدى الأقدام التي عبرت هذه الطرقات منذ قرون.
كل زاوية، كل حجر، كان يروي قصة، وأنا كنت أستمع بقلب مفتوح.
لكن الكاتبة لا تتخلص من هواجسها بسهولة. كنتُ أحاول طوال الوقت التخلص من التفكير بأن لديّ كتابة تنتظرني، التزام عليّ إنجازه. أستر خي أحيانا
تحت شمس المتوسط الدافئة، أنغمس في مذاق طبق جديد، في ضحكات الأبناء، وجمال الطبيعة البحرية التي اشتقت إليها. ثم فجأة، يداهمني إحساس طاغ بأن الوقت يمضي، وأن هذه اللحظات السعيدة ستنتهي، وسأعود لاجد كل تلك الالتزمات تنتظرني على ان اخض لها كل الوقت ، كانت وعودا اقطعها على نفسي
خضم الاستمتاع، وكأنني أشتري بها المزيد من لحظات الراحة.
عدتُ إلى بيتي، لأجد مشروع الصيانة القائم، ينتظر ني. فوجد تني مجبرة على الغرق في ركام الفوضى. غبار التجديد، أصوات المطارق، تبديل الأثاث، كل ذلك كان نقيضاً تاماً لذلك الهدوء الذي كنت أبحث عنه. كيف يمكن للكتابة أن تولد وسط كل هذا؟ كيف يمكن للفكرة أن تتبلور في جويضج بالتكسير والتغيير؟ لا أستطيع حتى الآن اعتياد الكتابة وسط هذا الركام وهذه الفوضى. كل صباح، أمارس تمارين التنفس، أحاول أن أهدئ من روعي، أن أجمع شتات نفسي قبل أن أحاول جمع شتات الكلمات.
أرى حروفي تتطاير مع الغبار، وجملي تتشابك مع أصوات الضجيج. أتساءل: هل هو اختبار للصبر، أم مو دعوة لإعادة تعريف معنى ” مساحة العمل”؟
أخيراً، أطمنن نفسي بأن كل مشروع أدبي يمكنه الانتظار، وأن الأفكار الجيدة لا تموت بسبب فوضى عابرة. فبعد كل “قفلة”، تلك اللحظة التي تتعثر فيها الكلمات، وتتيه فيها المعاني، أحتاج إلى تمرين خاص لأعود وأستكمل من النقطة التي توقفت فيها. ليس تراجعاً، بل استراحة محارب، استراحة كاتبة تبحث عمن الهدوء الداخلي لتستعيد ضوء كلماتها
وفي العمق، أدركت أن هذه الرحلة، بكل تناقضاتها، هي جزء من عملية اكتشاف الذات التي يمنحها السفر. فالسفر ليس فقط اكتشافاً لثقافة البشر، لعاداتهم، لطعامهم، بل هو أيضا اكتشاف لمساحات داخلية فينا لم نكن ندرك وجودها. هو دعوة لتأمل الرفقة، حتى لو كانوا من أفراد العائلة، ولإعادة اكتشافهم في سياقات جديدة. وهكذا، يصبح السفر ليس هروبا من الالتزامات، بل هو تحضير لها، حتى لوكانت العودة تعني الغوص في ركام الفوضى.
كل ذلك يصب في نهر التجربة الإنسانية العظيمة التي لا تتوقف عن إلهام الكاتبة.
Share this content: