أميرة تحمل اينيرها
قريباً، سترتقي «اينير» بيومها المميز
نحو العالمية، ليصبح يوماً تراثياً عالمياً غدامسياً خالصاً، نعود فيه لجذورنا، ونسقيها من حبنا ما يكفل لها النمو
والازدهار والإثمار.

أميرة تحمل اينيرها
<< ابراهيم الإمام
(1)
يولد الناس بعد تسعة أشهر من الحمل.. يعيشون في نفس البيئة، ويأكلون نفس الطعام، ويشربون من نبع واحد.. يكبرون رويداً رويداً، تتشكل أفكارهم وهواياتهم، وتتغير مشاربهم وهوياتهم.. يتفاوتون في الطباع والسمات، فيتفوق البعض، بينما يركن آخرون للدعة والسكون.. البعض ترتفع همته وتسمو به نفسه، فلا يرضى إلا أن تكون له بصمة وأثر مميز ومختلف.
(2)
أميرة باشا الوحشي.. تفوقت على نفسها قبل أن تتفوق على غيرها.
الشغف، إنه التيمة السحرية التي جعلتها في المقدمة.
حبها لتراث أسلافها جعلها تتقدم الصفوف مع المتقدمين لإنشاء جمعية تعنى بالتراث.
اختارت لها هي ورفيقاتها اسما تراثيا أيضا، هو «اينير»، والذي يعني السراج. كان ذلك منذ 15 سنة مضت.
جعلت جمعيتها سراجا يضيء للآخرين طريقهم لحب تراثهم. هذا كان الهدف منذ البداية، وهذا ما عملت عليه حتى الآن.
اختفت الكثير من الجمعيات التي ولدت من نفس الرحم وفي نفس العام، لكن «أينير» قاومت وعاشت، رغم لصعوبات التي واجهتها، لسبب بسيط: هو الشغف.
لم يكن طريقها سهلا منذ البداية، لكنها واصلت كفاحها من أجل فكرتها.
(3)
قدمت «اينير» الكثير من الأعمال التراثية.. كانت في كل مرة تبحث عمن تحدٍ جديد، وطريقة مختلفة عن الآخرين.
أشرفت على تنظيم العديد من المحاضرات القيمة التي قدمتها للجمهور، من بينها محاضرة للدكتور نور الدين الثني في التراث اللامادي، موضحاً أهمية الاهتمام بهذا الموروث الذي تتميز به واحتنا، والعمل على تجميعه وتدوينه وتسجيله.
دقت «اينير» ناقوس الخطر منذ بدايات تأسيسه
لهذا التحراث.
كما شارك المؤرخ الأمازيعي «أومادي» في إحدى فعاليات «اينير» بمحاضرة قيمة عن الهوية الليبية.
هذا عمدا تقديم الروائمي الغدامسي إبراهيم الإمام، لأول مرة لجمهور غدامس، في أمسية ثقافية عن إصداراته التي يغلب عليها الغوص في تاريخ المدينة وتراثها.
يلتقي الإمام و»اينير» في الطريق نفسها والهدف نفسه، على الرغم من اختلاف طرقهما في الوصول إلى الجمهور. بالإضافة للكثير من المشاركات في المهرجانات التراثية في غدامس وطرابلس، قدمت لوحات تراثية مميزة، أشهرها عرض أزياء غدامس التراثية بطريقة عصرية.
بالإضافة لإقامة العديد من الطقوس التراثية المصاحبة للمناسبة الاجتماعية والدينية، من بينها الاحتفاء بالفتيان الصائمين في عامهم الأول، فيما يُعرف في غدامس ب”العراقب» للذكور، و”التجننت»
(الطبق) للبنات، الذي شهد نجاحاً مبهراً.
في كل عام تعود «اينير» بالجديد لتقدمه. فعاماً، أقامت «اينير» معرضاً للمطبخ الغدامسي المميز والمختلف، لتقدم لجمهورها تشكيلة منوعة من الأكلات الشعبية التراثية الغدامسية التي طوى النسيان الكثير منها، لكن بفضل جهود أميرة و»اينير» أحييت مجدداً، وقدمتها للأجيال الجديدة ليس للتعريف بها فحسب، بل لإعادتها للمطبخ الغدامسي العصري.
(4)
لكن بصمتها الواضحة والمميزة هي إحياء يوم الأول
من مايو.
ربما لا يعني هذا التاريخ لأحد قبل ظهور «اينير» على السطح، أما الآن، فصار معروفاً ومتداولاً بين الناس.
إنه اليوم الذي تعود فيه الحياة والبهجة إلى مدينتنا العريقة.. يوم العودة إلى الجذور.. يوم الاغتراف من النبع.. يوم الوفاء للأسلاف على هذه الهدية الثمينة التي تركوها لنا: «مدينة غدامس التاريخية».

(5)
ربما سيتساءل البعض عن
أهمية هذا اليوم.
تكمن أهميته في الماضي
بأنه رأس السنة المائية في مدينة غدامس التاريخية.
ربما هذا لا يكفي للتعريف بهذا الحدث، لذلك علينا أن نعطي الحدث حقه من التوضيح.
تبدأ السنة المائية في غدامس في الأول من مايو، لذلك يحرص كل الناس على شهوده، ففي هذا اليوم
المشهود يتم فيه عرض حصص الماء للبيع في مزاد
علني يتنافس عليه الراغبون في الحصول على حاجتهم من المياه لمزارعهم.
عي هذا اليوم أيضا،
يتم تعديل السجلات، فيُضاف المواليد الجدد في الحصص
الموقوفة، ويُمحى الموتى من السجلات، وتوزع أنصبتهم على ورثتهم.
كما يتم في هذا اليوم تسجل كل ما يطرأ من حركة
البيع والشراء.
في آخر النهار، تقفل السجلات وتحفظ في صندوق، ويؤتمن على الصندوق أشخاص
عدول، أحدهم يحفظ الصندوق،
وآخران يحفظان المفاتيح، إمعاناً في الحرس والثقة.
أعتقد أنك لو عاصرت هذا الحدث، لكان من المهم
لديك شهوده، فهو لا يتكرر إلا مرة في العام.
لهذا حرصت أميرة وجمعيتهما على الاحتفاء بهذا
اليوم وإحياء الححدث المندثر.
لم تعد تفتح السجلات الآن، ولا توجد مزادات، وكل ذلك بسبب نزوح مياه العين ودخول تقنيات جديدة في الري وتوزيع الحصص.
لكن «اينير» وأميرتها جعلتا من هذا اليوم عرساً
تراثيا وتقليداً سنويأً.
أميرة تحمل «اينيرها» لتضيء لنا به الطريق لحماية موروثنا من الضياع والعبث والاندثار، بل ولتجديده
وتطويره وإحيائه في قلوبنا ونفوس أبنائنا من الأجيال
الجديدة.
مهرجان «اينير» للعودة إلى الجذور ضربة مُعلَم، استطاعت
بمرور السنوات وتعاقب الدورات أن تحظى باهتمام وتقدير
الجميع لهذا المحفل، رجالاً
ونساءً وأطفالاً.
البعض من أهالينا القاطنين
خارجها صار لهم هذا اليوم
مهرجاناً ومناسبة مهمة لزيارة
أهاليهم، وشهود هذا الحدث في حلته التراثية الجديدة، وليتذكروا فيه عظمة ما قدمه الأسلاف من أجل هذه الحضارة الموغلة في القدم والأصلة.
(7)
قريبا، سيصبح حدثاً عالمياً،
خاصةً أنه الآن يحظى باهتمام
جمعيات مشابهة في مدن قريبة وبعيدة، تحرص على شهوده والتفاعل مع فعالياته المميزة.
قريبا، سترتقي «اينير» بيومها المميز نحو العالمية، ليصبح يوما تراثيا عالميا غدامسيا خالصا، نعود فيه لجذورنا، ونسقيها من حبنا ما يكفل لها النمو
والازدهار والإثمار.
كل ذلك بفضل «اينير» الذي حملته أميرة لتضيء
لنا به دربنا نحو تراثنا الخالد.
فشكرا ل»اينير» على هذا الضوء الساطع، وهذا
الشفف المتواصل.
قدرك أن تكوني في المقدمة، وقدر الآخرين أن يسيروا خلفك.
Share this content: