إنزيم..!
حسام الوحيشي
عنقود المصابيح المتدلي من سقف غرفة الاستقبال يسلّط نوره عليّ، وأنا جالس على الصالون البنفسجي المفرد، تاركًا المزدوجين في الظل. أشعر بظمري الأحدب يرسم قوسًا، ويداي ترتخيان على المسندين، مع ارتجافة تطعنني بشبه انتظام. هذه الأعصاب المنمكة اشتعلت في شتائي السابع ولم تخمد أبدًا.
ألمس جبيني بأطراف أناملي وكأنني أجس نبض عقلي الفاج:
حركة عفوية تلا زمني كلما تصادمت الأفكار في جمجمتي متنافسة على الخروج إلى العلن. أفتح النافذة لأراقب الأفق وهو يبتلع الشمس ببطء لذيذ؛ المواء نشط، ليس ريحًا قلقة، إنما أقرب إلى النسيم الخفيف. ديمات بيض يمين المشمد، والكثير من البنفسجي حول القرص الغارق خلف البنايات البعيدة. يكسر المدوء درّاجة نارية مسرعة تنسل بين حارتين من العربات المتوقفة في التقاطع القريب. لاحظت أن العجلات لا تمرخ، الصوت يشبه قمقهة عالية للمحرّك، يتداخل معما هرج صبية يعبرون الإسفلت. من القممان الخضراء الفاقعة أدركت أنمم مشجعون لفريق أهلي العاصمة؛ لقد اكتسحوا خممهم التقليدي بأربعة أهداف، ولم يتوقفوا عن الاحتفال بذلك على ما يبدو (لا حقا ظفروا بالكأس واشتعلت الأمواج الخضراء معجونة بالسياسة واللوزانما البطولة الرابعة عشرة لمذه الإمبراطورية الكروية ) .
على المنضدة ما زالت الرسالة تضيء برسالة واتساب :
«الإنزيم لم يصل حتى الآن … سأتواصل معك لو جدّ شيء »
كتبت الطبيبة.
أعيد قراءة الرسالة، وأفكر أن الإنزيم مثل الكلمات؛ كلامما يؤخر الانميار، لكنه لا يعد بالشفاء.
أفتح النوتة في الZFold، وأكتب برنة ضيقة:
منا أتكرّر حتى أفقد نفسي… لا فرق بين الخطى وهي تذرع الأرصفة، والمرايا التي تلوك سحناتنا، إلا إذا غيّرنا لعب الإسكافي وتمار المصانع الصينية… حين ينطفئ شارع النمر في خاصرة شارع الجممورية كعقب سيجارة، تولد على شفاه طرابلس جزيرة زاوية الدهماني متغر غرة بمانما، تحيط بما أرصفة تنن تحت وطأة ظلال من لا يملون أبدًا… الأسفلت يطوق عنقما ثم يسافر في كل اتجاه… في الثلث الجنوبي من استدارة جزيرة الدوران، متاجر تمضغ جيوب روّادما، تلتمممم ببطء بين مثّاء ومعطهِ، نقبل أكتافهم بالضوء والملح…
أتوقف قليلًا. رائحة القموة تضوع من زاويتها الصغيرة . تعود بي الذاكرة إلى ليلة بعيدة، كنت أقف وسط زحام أمام قاعة الجامعة، يدي ترتجف على ورقة كنت سأقرأما في مناظرة، كنني لم أفعل. يومها عرفت أنني أكره الأصوات العالية أكثر ممن المزيمة.
أعود للنوتة وأكمل:
نسنا أنمار أحد، ولا ننحاز لعبادة مزاج فرد… مشروعنا الإعلامي منظومة أخلاقية لا تنحني لتأليه تجربة أو تقديس أسطورة…
أنتم لا تسمحون لنا بالاختلاف، لذلك سنخط قراراتنا غصبًا عنكم، وسنحلق في سماء أرحب حيث لا تملون… الإصلاح من الداخل جريمة، مكذا تقول معابدكم، جريمة تشكك في الرسالة الصنمية …
طنين إشعار يقطع السطر
رسالة بريد إلكتروني: «تم رفض طلب العلاج في الخارج، ونأسف لعدم إمكانية إعادة النظر».
أقرأها مرتين، ثم أغلق البريد، وأطفئ الماتف. المالون البنفسجي أمامي يزداد ثقلا، كأن لونه انطفأ فجأة.
أحتسي القموة، مذاقما أكثر مرارة مما توقعت. أكتب بلا وعي، كأن الكلمات تصدر عن ذهن آخر :
تمصرُ خصرَ قموتك الحزينة في كأسٍ من البلور المش، ثم تسحب سكينًا من صدرك، تلطّخ به الورق المتعب،
وترطن دعاءً أخيرًا مفعماً بالعصافير الرشيقة، وهي تقفز في الزرقة الباهتة.
حبر بلون الغروب، وثمار شمية تغازل دمعة على خدّ الأغنيات، تتدحرج في صمت عذب، كأنما تعزف نهاية لا تُعلن جهرًا.
تمرسك أجندةُ الشُّلط المفعمة بالمواعيد والخصوم، فيما البنادق تتدلّى من ألسنة اللاعقين…
وأنا، أرقب شاخصًا آماتي العاليات، وأسأل: ما حكاية الورّاق الصغير، بعد أن صار كملاً؟
أنا خارج القبر، ويدي معلّقة في السماء الفسيحة.
«القميص لم يعد يليق بجئّتي، إذا قرأته على ممل».
والنسوة الطيّبات رحلن، تاركات على الكفن ندبًا مخيفة.
أتنفس ببط ء، وأعمر آخر سطور هذا المساء:
إلى أصابع ارتجفت منذ الطفولة، عذرًا لأنني لم أصدقكما، لا نني لم أجد طبيبًا يفممكما، وأشكر كما اليوم لأنكما رغم كل شيء ما زلتما تكتبان.
الساعة ٢:٤٥ مساءً، بعد صلاة المغرب مباشرة. أُرسل لصديقي:
«المقال جاهز… يداي تتعاونان اليوم، وهذا وحده إنجاز».
أغلق النافذة، نسيم الليل يتسلل، والسماء فقدت معظم ألوان الغروب إلا خيطا بنفسجيًا في الأفق، يشبه بقايا ضوء يرفض الانطفاء .
الدواء لم يصل، العلاج لن يأتي، الألم لم يتوقف، لكن الكلمات بقيت على الشاشة، مثل إنزيم أخير يمسكني من حافة السقوط، تمامًا كما يتشبث الذفق بآخر خيط من البنفسجي..
ولكنني في برلين!
Share this content:
إرسال التعليق