×

«أبرياء تحت المحاكمة». العار الوراثي

أبرياء تحت المحاكمة

«أبرياء تحت المحاكمة». العار الوراثي

       قصص لضحايا إرث الماضي

وصمة اجتماعية ولدت من رحم الأعراف البالية، لتتحول مع مرور الزمن إلى قيود خفية تكبل الأبناء وتفتح أبوابا للتمييز والظلم، رغم أننا في القرن الحادي والعشرين، ما زال شبح «العار الوراثي»

يطارد بعض الأسر الليبية، محملا الأبناء أوزارا لا ذنب لهم فيه وبينما يرفض الدين تحميل الفرد وزر غيره، ويؤكد القانون على المساواة والعدالة، تبقى هذه الظاهرة أشبه بظل ثقيل يعكس صراعا مريرا بين موروث اجتماعي جامد ومبادئ العدالة الحديثة.

    الخلفية العائلية تهدد مؤسسة الزواج

استطلاع : زهرة موسى

خلال هذا التقرير سنسلط الضوء على هذه الظاهرة و نستعرض آراء المختصين :

أعراف يصعب كسرها

تقول «س، أ» على الرغم من أننا في العام 2025، إلا أن «العار الوراثي» ما يزال حاضرًا في مجتمعاتنا، متجذرًا في أعراف ومعتقدات اجتماعية يصعب كسرها.

فما زالت بعض القبائل ترفض الزواج من أخرى لمجرد أن أجدادها كانوا عبيدا، وكأن الماضي يفرض على الحاضر .

تضيف هذا الرفض لا يقف عند حد إجهاض قصص الحب بين أبناء «الأحرار» و»العبيد»، بل يمتد أحيانًا إلى معاقبة من يجرؤ على تخطي هذا الحاجز قد يفرض الطلاق بالقوة، أو ينفى الزوجان من محيطهما، فقط لأنهما واجها المحظور وحاولا تحمدي سلطة العرف.

وترى إنه شكل قاس من التمييز، يختزل الإنسان في ماض لم يختره، ويُعاقب الحاضر بجريرة الماضي، وكأننا سجناء لذاكرة اجتماعية ترفض أن تتحرر.

أردفت « خ، م » قبل خمسة عشر عامًا، هربت جارتنا لتتزوج من شاب تقدم إليها مرارا، لكن والدها وإخوتها رفضوه رفضًا قاطعا، فقط لأنه أسمر البشرة بينما هم من عائلة بيضاء أرادوا تزويجها لابن عمها، لكنها اختارت قلبها وهربت مع من تحب، وتزوجته.

عندها تبرأت عائلتها منها بالكامل، بل وصل الأمر إلى أن شقيقتها طلقها زوجها، فقط لأن أختها «جلبت العار» للعائلة بقرارها. والدها نفسه لم يتدخل لإصلاح الأمر، بل بدأ مقتنعا بأن ما فعلته ابنته أساء للعائلة كلها، وكأنها حملت وحدها وزر كسر العرف.. تشير إلى أن « هذه الحادثة تكشف كيف لا يزال مجتمعنا يحاسب الأبرياء على أفعال غيرهم، ويحاكم الناس بأصلهم أو قرارات ذويهم، بدل أن يعامل كل إنسان بصفته الفردية، بعيدا عن إرث اللون والنسب والاعتبارات الاجتماعية الظالمة.

أحكام موروثة

ذكرت « خ ، ع » قرأت قبل فترة عن قصة فتاة بإحدى المدن الليبية وقد في نشرت في إحدى الصحف ، تناولت تفاصيل حكاية فتاة تعرضت لكافة انواع الظلم ، بدءًا من والدتها التي ألقتها في طفولتها ، ووجدت نفسها في دار رعاية الأطفال ، ورغم أنها قد تبنتها أسرة طيبة ربتها وعلمتها و وفرت لها حياة كريمة. إلا انها تعرضت للنبذ والمضايقات من المجتمع بسبب ماضيها وما فعلته والدتها على الرغم من انها لم يكن لها أي ذنب بذلك.

عزلة قاسية وأمل في التغييرتقول

«ز، أ» العار و الوصم لا يقتصران على اللون أوالقبيلة أو حتى ارتكاب جريمة ، بل يمتحد إلى المرض أيضا أتذكر قريبة لي ، أصيبت بفيروس نقص المناعة بسبب زوجها المصاب ، ولم تعلم بذلك إلا بعد وفاته ورغم أنها ضحية إلا أن المجتمع نبذها بالكامل حتى أبناؤها وبناتها حرموا من الزواج لمجرد ارتباط اسمهم بالمرض ورغم أنهم غير مصابين ، عاشت سنوات في عزلة قاسية بعدما كانت الأعين تلاحقها و الهمسات تطاردها في كل مناسبة ، لكنها اليوم وبعد مرور أعوام بدأت تستعيد شيئا من حياتها الاجتماعية وإن كانت بسيطة وهذا يدل على أن التغيير ممكن ولكنه يحتاج إلى صبر و جهود توعوية حقيقية .

لإن أختها خلفت العار زوج شقيقتها طلقها

العلاقة بين الوصمة والاضطرابات النفسية

توضح الأخصائية النفسية سالمة ياقة أن «الوصمة الاجتماعية كثيرًا ما تكون أرضًا خصبة لظهور اضطرابات مثل القلق والاكتئاب، لأنها تدفع الفرد إلى تبنّي نظرة سلبية عن ذاته ورؤية نفسه من خلال عيون المجتمع الناقدة. هذا يضعف احترامه لذاته ويعزز الشعور بالنقص والدونية، مما يزيد احتمالية إصابته بالاكتئاب أو الخوف من الرفض والعزلة.»

خطورة العار الوراثي

وتضيف: «العار الوراثي أو وصمة العائلة من أخطر أشكال الوصمة الاجتماعية، لأنه يترك آثارًا عميقة على الصحة النفسية. الأعراض قد تتجلى في القلق المستمر، الاكتئاب، تدني تقدير الذات، الخجل المرضي، وأحيانًا شعور غير مبرر بالذنب. أما على المستوى السلوكي فنلاحظ انسحابًا اجتماعيًا، أو ردود غعل عدوانية وتمرد، بالإضافة إلى صعوبات كبيرة في تكوين علاقات صداقة أو زواج بسبب الخوف من الرفض.»ا

لمراهقون والنساء هم الأكثر تأثرًا

وتشير ياقة إلى أن «الفئات الأكثر تأثرًا بالوصمة والعار الوراثي هم الشباب والمراهقون والنساء، نظرًا لحساسية هذه المراحل العمرية واعتماد هويتهمعلى نظرة الآخرين وقبولهم وهنا تلعب البيئة التي يعيش فيها الفرد دورًا كبيرًا في زيادة أو تخفيف حدةا لتأثير.

يعاقب الحاضر بجريرة الماضي في ذاكرة ترفض التحرر

التثقيف النفسي يمنح مساحة آمنة للتعافي

 وتشدد الأخصائية على أن «التدخل المبكر مهم جدًا ويبدأ بملاحظة العلامات الأولى مثل العزلة أو فقدان الحافز أو الحديث السلبي عن الذات ثم يأتي دور الدعم الأسري والاجتماعي، إضافة إلى جلسات الإرشاد النفسي أو العلاج المعرفي السلوكي للتعامل مع القلق والاكتئاب قبل تفاقمهما كما أن التثقيف النفسي للمحيطين يقلل من الضغط الاجتماعي ويمنح المصاب مساحة آمنة للتعافي.»

مستويات التدخل

وتضيف لنتائج الحقيقية لا تتحقق إلا عبر تكامل المستويين، الفردي والمجتمعي. على المستوى الفردي نحتاج إلى جلسات دعم وعلاج نفسي يعزز الهوية الإيجابية أما على المستوى المجتمعي فلابد من نشر الوعي وحملات مناهضة الوصمة، وتغيير الخطاب الثقافي والإعلامي، مع تمكين الفئات الأكثر عرضة للتأثر

العلاج الجماعي يعيد بناء الثقة بالنفس

وتختم حديثها قائلة العلاج الجماعي أو جلسات الدعم تلعب دورًا محوريًا في إعادة بناء الثقة بالنفس. فهي تكسر عزلة الأفراد وتجعلهم يدركون نهم ليسوا وحدهم في معاناتهم. كما أن تبادل التجارب يمنحهم القدرة على إعادة تفسير ما مرّوا به، ويزرع فيهم الأمل بإمكانية التغيير وتقبل الذات. هذه المساحة تصبح بمثابة بيت آمن لإعادة تشكيل الهوية وتعزيز الانتماء

خطورة الوصمة الاجتماعية و العار الوراثي

تؤكد الأختصاصية الاجتماعية عائشة بن يحمد أن  الوصمة الاجتماعية، وخاصة المرتبطة بما يُعرف بالعار الوراثي، تمثل أحد أبرز العوائق أمام اندماج الأفراد في المجتمع. فهي تلاحق الشخص كظل ثقيل، رغم أنه بريء من أخطاء لم يقترفها. للأسف، هذه النظرة السلبية تجد لها مساحة أكبر في القرى والمناطق المحافظة، وقد تؤدي إلى توقف مشاريع حياتية مهمة، مثل الزواج أو التعليم، فقط بسبب وصمة لا ذنب للفرد فيها.

انعكاساتها على الزواج والعلاقات الاجتماعية

وتضيف بن يحمد «كثير من الزيجات في مجتمعنا تعطلت بسبب هذه الوصمة، حتى أن أفرادًا من عائلة واحدة قد يتأثرون جميعًا بسبب خطأ ارتكبه أحد الأجداد قبل أجيال طويلة. في حالات كثيرة، يُرفض شاب أو فتاة على الرغم من التوافق في الأخلاق والدين، فقط لأن المجتمع ينظر إلى خلفيتهم العائلية على أنها وصمة. وهذا ظلم كبير يعيق بناء مؤسسة الزواج، التي هي في الأصل مؤسسة مقدسة وحلال شرعه الله

الأثر النفسي

وتوضح «الأثر النفسي للوصمة بالغ الخطورة، فهي تزرع في النفس قلقًا مستمرًا وهشاشة في الثقة بالذات. الشاب أو الفتاة يفكران ألف مرة قبل التقدم لأي مشروع، خصوصًا الزواج، خوفًا من الرفض.

وإذا حدث الرفض بالفعل، فإن البعض يقرر الانسحاب نهائيًا من فكرة الزواج، أو يسلك مسارات سلبية هروبًا من هذا الشعور. وهكذا يصبح الفرد، مهما بلغ من نجاح علمي أو مادي، أسيرًا لشبح الوصمة.

رسالة للمجتمع

وترسل بن يحمد رسالة واضحة «لا تزر وازرة وزر أخرى، هذا مبدأ قرآني صريح. من غير المقبول أن نحاكم إنسانًا على خطأ لم يرتكبه. فإذا كان الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب، فكيف للبشر أن يستمروا في معاقبة غيرهم على ماض لا يد لهم غيه؟ إن استمرار هذه العقلية يُعتبر عائقًا حقيقيّا أمام تحضر المجتمع، ليس بالوسائل المادية، بل على مستوى الفكر وحسن المعاملة.

وتضيف بن يحمد «الوقاية خير من العلاج. دور

مدور ال فت التريوي ة مم حتباكى التوعيس:

والتثقيف. نحن كأخصائيين اجتماعيين لا ننتظر أن تصلنا المشكلة، بل نبحث عنها ونتعامل معها بسرية وحساسية عالية. ومن المهم تفعيل مجالس أولياء الأمور داخل المؤسسات التعليمية، لأنها تسهم في معالجة قضايا حساسة مثل التنمر الناتج عن الوصمة الاجتماعية، خاصة بين المراهقين.

الأمل في التغيير

وتختم حديثها قائلة رغم قسوة هذه الظاهرة، إلا أن التوعية والتثقيف قادران على تغيير العقلية المجتمعية. علينا أن ننتشل أبناءنا من مستنقع الوصمة، وأن نزرع فيهم الثقة بأنهم ليسوا مسؤولين عن أخطاء غيرهم. الأمل كبير في أن يختفي هذا الإرث الثقيل، ليُتاح للجميع العيش بكرامة بعيدًا عن القيود الظالمة.»

الشباب والمراهقون والنساء

اكثر تضرراً بالوصمة

الرأي الديني:

يرى أحمد عبد الرحمن أن ما يُعرف ب «العار الوراثي» لا أصل له في الإسلام، بل هو من بقايا الممارسات الجاهلية التي ما زالت مترسخة في بعض المجتمعات. فالدين الإسلامي يؤكد على مبدأ المسؤولية الفردية، حيث قال تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: 164]، أي أن كل إنسان يُحاسَب على أفعاله هو، ولا علاقة له بذنوب والديه أو أقاربه.

وذكر أن ربط سمعة العائلة أو القبيلة بفعل فرد واحد يُعتبر ظلماً بيّناً، فالله سبحانه وتعالى جعل الحساب فرديا يوم القيامة، قال تعالى: (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه) [عبس: 35-34].

وأشار إلى أن الشرع يؤكد أن التمييز الاجتماعي المبني على العائلة أو النسب منافٍ لمقاصد الإسلام في المساواة والعدل، إذ إن معيار التفاضل الحقيقي هو الدين والتقوى، كما جاء في قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13]. بل وحتى في الزواج، جاء الحديث الشريف: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه» [رواه الترمذي]، ليجعل المعيار هو الخُلق والدين، لا النسب ولا العائلة.

نوه لذلك فإن «العار الوراثي» يُعد شكلا من أشكال الظلم الاجتماعي الذي يرفضه الإسلام تماماً، ويُحمّل المسؤولية لكل فرد عمن أفعاله فقط. ويقع

على عاتق المؤسسات الدينية والخطباء دور كبير في تصحيح هذه المفاهيم المغلوطة عبر المنابر والمساجد والمدارس، إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني التي يمكن أن تسهم في التوعية بمخاطر هذه الأفكار.

آبنائي حُرموا من الزواج

لان والدهم مصاب بالإيدز

رأي قانوني

قالت مريم محمد ناشطة قانونية» إن «العار الوراثي» يُعد شكلاً من أشكال التمييز والوصم الاجتماعي المخالف للدستور، الذي نص صراحة على المساواة وعدم التمييز بين المواطنين.

وأكدت أن قانون العقوبات يجرّم أفعال السبّ والقذف والتشهير، ما يتيح للمتضررين من هذه الممارسات اللجحوء إلى القضاء سواء عبر تقديم بسلاغ جنائي أمام النيابة العامة أو رفع دعوى مدنية للمطالبة بالتعويض ورد الاعتبار.

وأضافت أن التزامات ليبيا الدولية في مجال حقوق الإنسان تُعزز بدورها رفض أي ممارسة تُحمّل الأفراد وزر غيرهم أو تنتقص من حقوقهم بسبب انتمائهم الأسري أو القبلي.

ختاماً: رغم قسوة هذه الظاهرة، فإن التوعية والتثقيف قادران على تغيير العقلية المجتمعية، وتمكين الأبناء من العيش بكرامة بعيدا عن القيود الظالمة، مع تعزيز ثقتهم بأنهم ليسوا مسؤولين عن أخطاء غيرهم.

Share this content:

إرسال التعليق