محبوبــــــــة خليفــة
أستعيد هذه الأيام قدراتي على التحدث بالإيطالية ، اللغة التي أحبها وأرتبط بها وجدانياً، نتيجة لسنوات عيشي الطويلة بين أهلها في الضفة المقابلة لنا عبر هذا البحر الواصل، الفاصل بيننا عبر مراحل تاريخنا وتاريخهم.
عرت أخشى فقدان قدرتي على الحديث بهذه اللغة الفنغمة وكأنها نوتة موسيقية ناعمة التواصل بين الدو والري والمي والفا والسي والصول*1* ومفتاحه الواصل بين النفس المحبة ،وبين هذا النغم اللطيف، ماجعلني أقرر العودة إلى مقاعد الدرس وسنوات التلمذة .
كنتُ كلما قابلت إيطالياً من الأصدقاء أو حتى من معارف اليوم الواحد ممن نلتقيهم على المقاهي أو في المحال أو حتى سائقي ..الأوبر.. ألاحظ أنهم يبتسمون بمجرد ذكر أنني من ليبيا، ويقولون ، ياللعجب siamo !fratelli أي نحن إخوة، نحن نشبه بعضنا، وأبتسم عجباً وغيظاً ولا أعرف كيف أرد على إنسان يقدم الحبَ ويجهل التاريخ!.
ذات جلسة لطيفة مع صديقة إيطالية وزوجها والأخبار ثالثة الجلسة ، كان الموضوع الأهم مايجري على أهلنا في غزة، وكانوا متعاطفين جداً، بل وممتعضين مما يفعل المعتدون
هناك.
قالا : كانت الحقبة الاستعمارية في ليبيا حقبة علاقات عامة! كنا شعبين يوصلنا بحر واحد. ورغم طبعي الهادئ في أغلب الأحوال، إلا أنني انتفضت وقلت لهما أما هذه فلا!
لقد ابتدعتم عندنا معسكرات الاعتقال والإبادة*2* حتى إن بعض النازيين الألمان تحدثوا في كتبهم أنهم نقلوا حرفياً التجربة الإيطالية في ليبيا .
وبان الهلع على السيدة الشابة وزوجها، وقالت يبدو أنهم زيَفوا الحقائق وعلمونا شيئاً آخر، لقد قالوا لنا إنهم ذهبوا إلى هناك لينقلوا لكم حضارتنا وعلومنا ولمساعدتكم على العيش برفاهية. ابتسمت ولاحظتُ علامات خجل على المرأة التي تقف بكل كيانها ضد الممارسات الوحشية للعدو الصهيوني وتجهل أن تاريخ بلادها حافل بها ..
على مر التاريخ كانت العواطف الصغيرة بين الناس-رغم اختلاف أعراقهم- موجودة ومباركة.
كنت أسكن في روما سنوات الثمانينات بمنطقة معروفة بتواجد العائلات الليبية اليهودية التي هاجرت إلى روما بعد أحداث العنف التي جرت ضدهم في ليبيا بعد حرب يونية..67
كنت أتمشى أحيانا وأستمع إليهم يتحدثون بلهجتنا ببعض لثغة يشتهرون بها. سمعت إحداهن تقول لرفيقتها لو تبقّى لي في هذا العمر يوم واحد فقط لوددت الذهاب لرؤية ليبيا-عرفت بعد ذلك أنها ابنة تاجر أقمشة كبير ومعروف جدا وكانت بينهم وبين الليبيين علاقات طيبة حتى إنهم واصلوا هذه المودة وهذا التزاور رغم كل شيء-كنت وراءها أتمتم: مثلك تماماً سيدتي وإن اختلفت أسباب معاناتنا.
لن أناقش أحداً في هذا الموضوع فكل من استقر منهم في إيطاليا ورفض الذهاب إلى الدولة المزعومة يحسب له أنه اتخذ موقفاً حاسماً ورافضاً لما يجري هناك.
كنت أتمشى وزوجي في أحد المصائف القريبة من روما وانتبهنا إلى أن سيدة سمراء مليحة كبيرة في السن تلاعب طفلا إيطاليا وتحضنه، وما إن مررنا بجوارها وسمعت حوارنا بالليبي حتى انتبهت ووقفت مذهولة ونادتنا بصوتٍ عال وبإيطالية لا تخطئها الأذن أنا منكم!
قالت : سمعتكم وعرفت أنكم تتحدثون العربية وأيقنت أنكم من بلادي ، هكذا قال لي قلبي ! أنا فاطعة من تاورغاء احتضنتني وربتني عائلة إيطالية، نسيت لغتي لكنهم حافظوا على ديانتي عشت مع أولادهم كأنني منهم وها أنا أربّي أحفادهم كأنهم مني. دار بيننا حديث طويل سكبنا فيه دموعنا وعواطفنا وتبادلنا الأحضان. امرأة ليبية حركنا ما كان ساكنا فيها فاستعادت صور ذلك الوطن البعيد القريب .
لماذا تداعت كل تلك الصور الآن؟ وكنت قد أتممت درسي اليومي؟
إنهما جملتان حملتا معاني خفيت علي في أولها واعتبرتها اختباراً لقدراتي اللغوية فقط ، لكنني انتبهت إلى أنها أيضاً تختبر ذكائي في التقاط المعنى والتقطته وأذهلني.
الجملة الأولى
(Le scrittore famose in prigione)
وترجمتها كبار الكتاب سجنوا أو يسجنون .
(Costruite ponti, non muri) والثانية
ابنوا الجسور لا الحيطان .
**درجات السلم الموسيقي
*2* معتقلات العقيلة ورآس لانوف