عن القصـــة:
‘‘بيت الأشباح’’، قصة تدعونا إلى التفكير في برّ الوالدين وتجنب الطمع. مكتوبة بأسلوب بسيط وسلس، ولغة حوار واضحة مشحونة بعواطف قوية، حيث يجسد الابن صورة الظلم والطمع، بعد أن استغل ضعف أمه واستولى على منزلها، لتكون عاقبته بيتا غير مبارك له فيه.
«ديما» هنا تجسد دور البراءة والطيبة، فما أظهرته من تفاعل عاطفي مع العجوز، يؤكد على أن الشعور الإنساني لدى البشر قادر على التعاطف مع المعاناة والظلم.
ما تحاول القصة إبلاغه، هو أن للظلم والطمع عواقب وخيمة على الشخص، وأنه لا يمكن لظالم أن ينعم بما سلبه من مظلوم، وسوف تظل آثار الظلم تلاحقه حتى بعد وفاة من قام بظلمه.
المحر
» فوز ابو الإسعاد مرغم
تجولت عينا «ديما» في أرجاء المنزل؟ وارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة وهي تهمس لزوجها أكرم الواقف بجانبها: ‘‘اعتقد بأننا عثرنا على البيت المناسب’’
ابتسم أكرم بسعادة قائلا: ‘‘أجل.. أعتقد أنه مناسب تماما’’..
قال الرجل المرافق لهما، وهو يشير إلى باقي غرف المنزل: ‘‘هذا البيت مكون من ثلاث غرف، مع حديقة أمامية، كما أنه مؤثث بالكامل، ويرغب مالكوه منذ فترة بيعه، ومن حظكما الجيد أن الزبائن الجدد قد اعتذروا بالأمس عن شرائه، مع أنهم كانوا شديدي الحماسة عندما عاينوه’’.
ضحك أكرم في سعادة، وقال: ‘‘أجل نحن أكثر الأزواج حظا يا سيد كمال، والآن، دعنا نستكمل الإجراءات القانونية، فأنا وزوجتي في غاية الاستعجال’’.
توجه كمال إلى باب المنزل وهو يقول: ‘‘تستطيع التفضل معي، فجميع الأوراق معي في السيارة’’.
التفت أكرم إلى ديما قائلا: ‘‘حبيبتي، لن أغيب طويلاً، تستطيعين أن تكملي مشاهدة بقية الغرف’’.
هزت ديما رأسها مبتسمة وأجابته في هدوء: ‘‘حسنا، ولكن لا تغب طويلا’’.
خرج أكرم برفقة كمال تاركا زوجته تتأمل أرجاء المنزل. كان منزلاً لطيفاً وحميماً، واستطاع أن يعبر عن البساطة والأناقة في آن واحد.
فتحت ديما حجرات المنزل وهي تتأمل غرف النوم والمعيشة حتى وصلت إلى الحجرة المنزوية في آخره. بدت وكأنها معزولة عن بقية الغرف، بهدوء قامت بفتحها. فجأة، انطلقت منها صيحة دهشة خافتة وهي تتطلع إلى السيدة العجوز الجالسة بهدوء على السرير.
بدا وجه السيدة هادئاً وقوراً تشع منه الطيبة وتغمره البشاشة، وكانت ترتدي رداءً أبيض منسدلا على شعرها الأبيض وقد غطت رجليها بشرشف وردي، و بدت عليها الدهشة التي سرعان ما حل مكانها ابتسامة مشعة، وهي تقول بصوت ضعيف: ‘‘تفضلي يا بنيتي’’.
دلفت ديما بخجل إلى داخل الغرفة، وقالت في تلعثم: ‘‘آسفة يا سيدتي، لم أكن أعلم أن أحداً موجوداً في المنزل، لقد جئت مع زوجي لرؤية البيت الذي سنشتريه’’.
أجابت العجوز بحنان: ‘‘لا عليك يا ابنتي، فلا أحد هنا يشعر بي أو يعيرني اهتماما’’ وأشارت إلى ديما بالجلوس على السرير.
جلست ديما على حافة السرير بحياء، ثم رفعت عينيها متسائلة: ‘‘هل تقيمين هنا؟’’.
تنهدت السيدة بحزن واضح، وترقرقت عيناها بالدموع وهي تجيب بوهن: ‘‘أنا مالكة المنزل يا بنيتي، ولكن ابني وزوجته سلباني إياه’’.
بدا الذعر على وجه ديما وهي تتساءل في جزع: ‘‘ولكن.. لماذا؟’’.
انطلقت تنهيدة أخرى من صدر السيدة وهي تقول: ‘‘يا بنيتي، الطمع يعمي القلوب، وابني وحيدي منذ أن كان صغيراً ربيته على الدلال، وكان أبوه -رحمه الله- يؤنبني دائماً بأنني أفسد تربيته، وأنا الآن أعترف بذلك. لقد زوّجته الفتاة التي أحبها فأصبحت فيما بعد جلادي. لن أصف لك يا ابنتي المرار والجحيم الذي أرتني إياه. كل ذلك يجري أمام ولدي، كبدي، والذي لم ينصفني معها. لقد أجبراني على التنازل عن البيت وكان ذلك اليوم، يوماً لا ينسى في حياتي.
ليست العين هي التي تبكي، ولكن القلب هو الذي يدمع، بكيت يومها، صرخت وتوجهت بالدعاء إلى ربي: (أن يا ربي أغضب عليه وعلى زوجته).
يا ابنتي هل رأيت يوما أبناً يمد يديه على أمه ويسقطها أرضا، لقد صفعني على وجهي عندما رفضت التنازل عن البيت، وأجبرني على أن أبصم غصبا عني على أوراق البيت، لهذا لم يبارك له الله في هذا البيت، ولن يبارك له فيه أبداً’’.
وأخذت السيدة العجوز تنتحب في حزن شديد، ولم تستطع ديما تمالك نفسها، فانحنت عليها تحتضنها باكية وهي تهمس: ‘‘الله يكسرّ يدّه، الله يكسّرها’’.
ثم انتفضت على صوت أكرم يناديها من خارج الغرفة، فقامت تمسح دموعها وهي تستأذن السيدة، قائلة: ‘‘هذا زوجي، دقيقة واحدة’’.
ابتسمت السيدة في حزن وهي تقول: ‘‘شكرا لك يا ابنتي، شكرا على كل شي’’.
خرجت ديما وهي تمسح دموعها، حيث التقت أكرم والسيد كمال.
لاحظ أكرم ملامح الذعر والجزع على وجه زوجته فسألها: ‘‘ديما.. ماذا أصابك؟’’.
أشارت إلى الغرفة قائلة: ‘‘قابلت الآن السيدة مالكة المنزل، إن حالتها تدمي القلب’’.
انعقدا حاجبا كمال في تعجب شديد، وهو يقول: ‘‘مالكة المنزل. ولكن لا يوجد أحد هنا؟ المنزل خال إلا من سوانا؟’’.
عقدت ديما حاجبيها، وهي تقول: ‘‘إنها هنا في هذه الغرفة، لقد قابلتها للتو’’. وتقدمت بقوة في اتجاه الغرفة ثم فتحت الباب.
وقفت ديما مشدوهة أمام الحجرة الخالية، السرير مرتب ونظيف ولا أثر لوجود أحد فيها، ‘‘لقد كانت هنا منذ لحظات، لقد أخبرتني عن ابنها وزوجته اللذين سلباها المنزل، ابنها الذي صفعها، أخبرتني أن الله لن يبارك له في هذا المنزل أبدا.. لقد.. لقد..’’.
اقترب أكرم منها وهو يسندها بذارعه والقلق باد على وجهه، وهمس لها:
‘‘ديما ارتاحي فأنت مرهقة’’. أجلسها على الكنبة وسط المنزل، وجلس كمال على الكرسي المجاور لهما عاقدا حاجبيه في تفكير طويل.. وديما تتمتم في ذهول: ‘‘ولكن كيف؟ كيف؟’’
صمت كمال للحظة قبل أن يجيب: ‘‘لقد كان هذا المنزل ملكا للسيدة آمنة التي تنازلت عنه لابنها السيد أحمد’’. ثم أضاف بعد لحظة صمت عميقة، وهو يمعن النظر في ديما: ‘‘لقد توفيت آمنة منذ خمس سنوات، ومنذ ذلك الوقت لم يتمكن السيد أحمد من بيع هذا المنزل أو تأجيره، فقد كان الزبائن ينسحبون في آخر لحظة لأسباب غير معروفة’’.
اتسعت حدقتا ديما في ذعر شديد، وهي تطالع أكرم الذي بدا مشدوها، وأخذت تتمتم في ذعر: ‘‘لقد تحدث معها، لقد كانت حقيقة قمت بضمها إلي بيدي هاتين’’.
ضمها أكرم إلى صدره بقوة وهو يتمتم: ‘‘لا بأس.. هوني عليك، سنغادر هذا المنزل وننسى ما حدث. لا تخافي، لا تخافي’’. وظلت ديما تحدق في باب الغرفة وهي تتشبث بأكرم أكثر فأكثر، ثم تقول مكررة: ‘‘لقد كانت حقيقية.. حقيقية.. حقيقية’’.