»بلقم :د.الصديق بودوارة
منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، سجل أثر تاريخي بيانات حضور وغياب العمال المصريين عن موقع العمل الذي كانوا يقصدونه كل صباح.
سجل الحضور هذا، قدم لنا بيانات في منتهى الأهمية، شملت ملامح الحياة الاجتماعية للمصري القديم في ذلك الوقت، ورغم أنه في ظاهر الأمر كان سجلاً يدون فيه الكاتب المكلف من قبل رئيس العمال كل التفاصيل المتعلقة بحضور وغياب العمال، إلا أن تلك الخانة المتعلقة بسبب الحضور أو الغياب كانت نور معرفة متواضعاً وصغيراً، لكنه كان دليلاً في منتهى الأهمية وتاريخاً ثميناً لمن يجيد قراءة التاريخ.
الأسباب التي دونها كاتب السجل لغياب بعض العمال كانت بقعة ضوء مهمة أوضحت لنا كم كانت هذه الحضارة راقية وذات نظم أخلاقية رفيعة، فقد كانت الأسباب الموجبة لاستراحة العمل تتضمن مرض والدته أو انشغاله بمساعدة زوجته في أوضاع صحية معينة..
وبصفة عامة كان يمكن للعامل أن يتحصل على إذن بالتغيب عن عمله إذا ماكان الأمر متعلقاً بظرف اجتماعي يبيح له ذلك.
دائرة نور توضح أهمية الكتابة عند الذين عرفوا جدوى التعليم، ولم يضربوا بحتمية الاهتمام به عرض الحائط،
ولعل من يقرأ وصايا الحكيم «خيتي بن داووف» لابنه «بيبي» خاصة وهو يعرّف عن نفسه، سوف يدرك أنه كانت هناك مدارس مركزية يتعلم فيها الصبيان فنون الكتابة، وفي حالة هذا الحكيم كانت هذه العاصمة في الوجه القبلي ( ربما تكون أهناسيا أو طيبة )، وكان يتعلم فيها أبناء حكام المقاطعات والطبقة الرفيعة من المجتمع، ونعثر في هذه الوصايا على جمل مميزة تدل على التقدير الكبير الذي كانت مهنة الكتابة تحظى به: (( عليك أن توجه قلبك لقراءة الكتب، تأمل، لا شيء يفوق الكتب. ))
الخلاصة ـ أن الحضارات التي تكتب نالت الحصاد كاملاً، وتمتعت بجدوى أن تكتب تاريخك كاملاً، بدون أن يتدخل الآخرون فيه تزويراً أو مبالغة أو تشويهاً أو إخفاءً، أو محاولات تهميش.
هذا عن الحضارات التي عرفت نعمة الكتابة، فماذا عن الذين لم يهتموا بالحرف، ولم ينتبهوا إلى جدوى التدوين فكتب غيرهم تاريخهم، وأصبحوا على هامش المعرفة كماً لا لزوم له، وخبراً يؤكده مؤرخ وينفيه مؤرخ ويشكك في مصداقيته مؤرخ، بينما صاحبه يلتزم الصمت منزوياً في ركنٍ مظلم لا يلاحظه أحد؟
هذه هي حكاية سجل غياب وحضور، فرض وجوده منذ ثلاثة آلاف سنة، وظل شاهداً على نور العلم الذي يشق دربه بصبرٍ وإصرار ولا يتعب ولا يتخلى ولا يساوم، إنه خيط الماء الذي قد يشح ويضعف لكنه أبداً لا ينقطع، وهو أبداً لا يموت.