الرئيسية / الرئيسية / الأسباب غير المعلنة لامتناع أربعيني عن الزواج..

الأسباب غير المعلنة لامتناع أربعيني عن الزواج..

«جمال الزائدي

يبدأ‭ ‬صباحه‭ ‬بطقس‭ ‬روتيني‭ ‬في‭ ‬المطبخ‭ ‬الصغير‭.. ‬فنجان‭ ‬قهوة‭ ‬من‭ ‬بن‭ ‬منكه‭ ‬بالحبهان‭ ‬وماء‭ ‬الزهر‭.. ‬سيجارة‭.. ‬وصوت‭ ‬فيروز‭ ‬وجبة‭ ‬متكاملة‭ ‬للروح‭ ‬والجسد‭ ‬معاً‭.. ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬الطقس‭ ‬جيداً‭ ‬أو‭ ‬رديئاً‭ ‬لا‭ ‬يغير‭ ‬عاداته‭.. ‬ولا‭ ‬يهم‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬خلد‭ ‬إلى‭ ‬فراشه‭ ‬باكرا‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬الماضية‭ ‬أم‭ ‬تأخر‭ ‬في‭ ‬النوم؛‭ ‬فلابد‭ ‬أن‭ ‬يستيقظ‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬التوقيت‭ ‬مع‭ ‬بزوغ‭ ‬الشمس‭. ‬

يحلق‭ ‬ذقنه‭ ‬ويحرص‭ ‬على‭ ‬تفاصيل‭ ‬الاستحمام‭ ‬والنظافة‭ ‬بلا‭ ‬أدنى‭ ‬تراخ‭.. ‬ثم‭ ‬يرتدي‭ ‬ملابسه‭ ‬ويستقبل‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬القريبة‭ ‬حيث‭ ‬يعمل‭ ‬معلما‭.‬‭. ‬يجتاز‭ ‬الحواري‭ ‬والأزقة‭ ‬الضيقة‭ ‬على‭ ‬مهل‭.. ‬ملقيا‭ ‬التحية‭ ‬والسلام‭ ‬على‭ ‬المعارف‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الدكاكين‭ ‬والورش‭.. ‬إنها‭ ‬نفس‭ ‬الحواري‭ ‬والأزقة‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬منذ‭ ‬ولد‭ ‬قبل‭ ‬45‭ ‬سنة‭ ‬وعرفها‭ ‬من‭ ‬قبله‭ ‬والده‭ ‬وجده‭.. ‬تنتمي‭ ‬إليه‭ ‬كما‭ ‬ينتمي‭ ‬لكل‭ ‬حجر‭ ‬فيها‭.. ‬

في‭ ‬أيام‭ ‬الجمعة‭ ‬فقط‭ ‬تتغير‭ ‬العادات‭.. ‬منذ‭ ‬الفجر‭ ‬يأخذ‭ ‬بالتعامل‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬تراكم‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬منزلية‭ ‬طوال‭ ‬الأسبوع‭ ‬من‭ ‬غسيل‭ ‬وكي‭ ‬ثم‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬القمامة‭ ‬وري‭ ‬النباتات‭ ‬والأزهار‭ ‬في‭ ‬الأحواض‭ ‬الصغيرة‭ ‬وتشذيب‭ ‬شجرة‭ ‬الياسمين‭ ‬في‭ ‬الزاوية‭ ‬غير‭ ‬المبلطة‭ ‬من‭ ‬وسط‭ ‬الحوش‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭.. ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بمزاج‭ ‬شاهق‭ ‬يدفعه‭ ‬عادة‭ ‬إلى‭ ‬الترنم‭ ‬بمقاطع‭  ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬المالوف‭ ‬الرائجة‭ ‬في‭ ‬الموالد‭ ‬الطرابلسية‭.. ‬يتفحص‭ ‬عدة‭ ‬الصيد‭ ‬في‭ ‬قفة‭ ‬السعف‭ ‬التي‭ ‬ورثها‭ ‬عن‭ ‬والده‭.. ‬الحسكات‭ ‬والطعوم‭ ‬والسلك‭ ‬الاحتياطي،‭ ‬ثم‭ ‬يسند‭ ‬القصبة‭ ‬الطويلة‭ ‬ذات‭ ‬العقد‭ ‬على‭ ‬كتفه‭ ‬ويتوجه‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬حيث‭ ‬الحاجز‭ ‬الصخري‭ ‬خلف‭ ‬مقهى‭ ‬‮«‬بوليله‮»‬‭.. ‬يختار‭ ‬مكاناً‭ ‬قصياً‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الصيادين‭.. ‬يرمي‭ ‬السنارة‭ ‬في‭ ‬لجة‭ ‬الأزرق‭.. ‬ويركن‭ ‬إلى‭ ‬صخرة‭ ‬مناسبة‭ ‬حيث‭ ‬يجلس‭.. ‬تارة‭ ‬يغرق‭ ‬في‭ ‬سطور‭ ‬كتاب‭ ‬بين‭ ‬يديه‭.. ‬وتارة‭ ‬يرسل‭ ‬نظره‭ ‬إلى‭ ‬الأفق‭.. ‬ابتسم‭ ‬بلا‭ ‬رغبة‭ ‬حين‭ ‬استعاد‭ ‬حديثه‭ ‬القصير‭ ‬مع‭ ‬جارته‭ ‬الجنب‭ ‬صديقة‭ ‬والدته‭ ‬وسؤالها‭ ‬التقليدي‭ ‬العتيق‭ ‬الذي‭ ‬ظلت‭ ‬تطرحه‭ ‬منذ‭ ‬شب‭ ‬عن‭ ‬الطوق‭ ‬وبلغ‭ ‬أشده‭: ‬

(أمتى‭ ‬بتفرحنا‭ ‬وتجيب‭ ‬بنت‭ ‬الحلال‭..‬؟)

سؤال‭ ‬مكرر‭ ‬سمعه‭ ‬آلاف‭ ‬المرات‭ ‬من‭ ‬أقاربه‭ ‬وأصحابه‭ ‬ومعارفه‭ ‬وخصوصا‭ ‬من‭ ‬أمه‭ ‬التي‭ ‬رحلت‭ ‬قبل‭ ‬أعوام‭.. ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يجيب‭.. ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الزواج‭.. ‬ليس‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬أو‭ ‬لأن‭ ‬سببا‭ ‬صحيا‭ ‬أو‭ ‬نفسيا‭ ‬يمنعه‭.. ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬الزواج‭ ‬يعني‭ ‬إنجاب‭ ‬الأطفال‭..‬‭ ‬والمشكلة‭ ‬أنه‭ ‬يحب‭ ‬الأطفال‭ ‬جدا‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتصور‭ ‬معه‭ ‬أنه‭ ‬سيشارك‭ ‬في‭ ‬جلبهم‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬ليتعذبوا‭ ‬في‭ ‬قسوته‭ ‬ووحشيته‭ ‬ولا‭ ‬مبالاته‭…‬كان‭ ‬يهم‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬الاختباء‭ ‬بين‭ ‬صفحات‭ ‬الكتاب‭ ‬عندما‭ ‬لاحظ‭ ‬توتر‭ ‬السلك‭ ‬وارتعاش‭ ‬القصبة‭.. ‬إنها‭ ‬سمكة‭ ‬‮«‬وراته‮»‬‭ ‬صغيرة‭ ‬لن‭ ‬تكفيه‭ ‬لعشاء‭ ‬الليلة‭.. ‬لعل‭ ‬رمية‭ ‬أخرى‭ ‬فيها‭ ‬الخير‭.. ‬لم‭ ‬تمض‭ ‬دقائق‭ ‬حتى‭ ‬غمزت‭ ‬السنارة‭ ‬من‭ ‬جديد‭.. ‬عندما‭ ‬سحب‭ ‬الخيط‭ ‬البلاستيكي‭ ‬على‭ ‬البكرة‭ ‬ظهرت‭ ‬زجاجة‭ ‬حليب‭ ‬الأطفال‭  ‬‮«‬مرضعه‮»‬‭.. ‬كانت‭ ‬حلمتها‭ ‬الصناعية‭ ‬عالقة‭ ‬بالخطاف‭ ‬والزجاجة‭ ‬نصف‭ ‬ممتلئة‭ ‬بالسائل‭ ‬الأبيض‭..‬

في‭ ‬الأثناء‭ ‬أخذ‭ ‬صراخ‭ ‬بعض‭ ‬الصيادين‭ ‬يعلو‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬وبعضهم‭ ‬الآخر‭ ‬ألقى‭ ‬بنفسه‭ ‬في‭ ‬المياه‭ ‬الباردة‭ ‬لاستنقاذ‭ ‬جثة‭ ‬امرأة‭ ‬طافية‭ ‬تبعثر‭ ‬شعرها‭ ‬الغزير‭ ‬حول‭ ‬وجهها‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬لون‭ ‬جيري‭ ‬ناصع‭.. 

طوح‭ ‬بالزجاجة‭ ‬بعيدا‭ ‬ًوانهمك‭ ‬في‭ ‬جمع‭ ‬حاجياته‭ ‬وهو‭ ‬يرتعد‭ ‬مثل‭ ‬غصن‭ ‬ياسمين‭ ‬وحيد‭ ‬في‭ ‬مهب‭ ‬الريح‭ ‬مردداً‭ ‬بأنين‭ ‬مكتوم‭: ‬

‭- ‬لماذا‭ ‬أتزوج‭ ‬وأنجب‭ ‬أطفالا‭.. ‬هل‭ ‬يحتاج‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الجثj‭..‬؟

شاهد أيضاً

قصيدة من فلسطين

‭(‬1‭)‬ التانجو‭ ‬الأخيـر » سلمان دغش  أُلَمْلِمُ‭ ‬ليْلي‭ ‬الطَّويلَ‭ ‬الطَّويلَ‭ ‬على‭ ‬هُدُبٍ لا‭ ‬يَنامُ‭ ‬على‭ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *