تستضيف مجلة الليبية الباحث والأديب ‘‘د. عبدالله مليطان’’ رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني الدولي للأدب والنقد في ليبيا المنعقد مؤخراً في دورته الرابعة بجامعة طرابلس تحت عنوان يهدف إلى تحسس الواقع وملامسة القضايا المهمة وهو ‘‘تمثلات الهم الوطني في الخطاب الأدبي الليبي من أنوع المقول إلى تمايز القول’’ والذي شارك فيه نخبة من الكتاب والأكاديميين والمهتمين بشؤون النقد، لعدد من الجامعات الليبية.
د.عبدالله مليان : حوار :مصطف
حيث حدثنا عن المدونة النقدية في ليبيا، وحاجتها إلى دعم من المؤسسة الثقافية بالبلاد، وكيف أن الشأن الثقافي مشروع وطني كبير لا يصنعه الأفراد مهما كانت قدراتهم، بل تصنعه الدولة برعاية واعية بالمستقبل. مشددا على أن الثقافة مشروع وطني مناط بالدولة، وما لم تضعه في سلم أولوياتها وتتبناه لا يمكن أن تقوم نهضة تنموية بالبلاد.
وحدثنا أيضاً عن وجود حركة نقدية في ليبيا، والذي كانت نتيجتها زخم كبير في الحياة الأدبية فيما ينتج من شعر وقصة ورواية ومسرح، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، واستشهد على ذلك بنيل كثير من المبدعين لعدد من الجوائز العربية وصعود عدد آخر منهم للقوائم المتقدمة لبعض الجوائز.
الليبية: (تمثلات الهم الوطني في الخطاب الأدبي الليبي من أنوع المقول الى تمايز القول). عنوان المؤتمر الوطني الدولي للأدب والنقد في ليبيا في دورته الرابعة، لماذا تم اختياره؟
د. عبد الله مليطان: هذا العنوان فرضه الواقع، وأي عمل -خاصة الفكري- ما لم يتحسّس الواقع ويلامس قضاياه لا معنى ولا قيمة ولا أهمية له. لذلك اقترحت اللجنة العليا التي شُكلت لإعداد موضوع الملتقى ومحاوره أن يكون الوطن حاضراً في هذه الدورة، فتم اقتراح العديد من الموضوعات والمحاور التي تتطلبها الظروف الآنية. وهنا كان لا بد من إسناد الأمور إلى أصحابها، إلى من أحس وأدرك أن الظرف يتطلب النظر بعمق إلى حاجة الوطن لمعالجة وتحسّس واقعه، فبرزت الغاية في المقترح الذي تقدم به عضو اللجنة الفاعل الأستاذ الدكتور ‘‘إبراهيم أنيس الكاسح’’ أستاذ النقد المقارن بكلية الآداب؛ حيث وجد قبولاً وترحيباً من كافة أعضاء اللجنة العليا للملتقى، ليعتمد كموضوع لأعمال الدورة الرابعة، ولتتأكد أهميته من خلال القبول اللافت الذي لقيه من كل ممارسي النقد من أساتذة الجامعات الليبية الذين بادروا بإرسال مقترحات أوراقهم النقدية للجنة العلمية التي تشكلت للنظر في تلك المقترحات.
الليبية: بعد تنظيم المؤتمر النقدي في دورته الرابعة، هل يمكن القول بأن الأوراق المقدمة قدمت أهم الأسئلة والأجوبة المتعلقة بعنوان الدورة؟
د. عبد الله مليطان: المدونة النقدية الليبية في أغلبها اجتهادات فردية، كما هو الشأن في أغلب المنجزات الثقافية والفكرية؛ لأن تكوين الفرق البحثية لم تألفه ليبيا عبر تاريخها الثقافي، وعليه لا ينبغي أن نتجاهل المختبرات النقدية التي اضطلع بها بعض النقاد في غرب البلاد وشرقها، ولا أن نتجاوز حلقاتها الدراسية التي أقامتها حول بعض القضايا الفكرية والنقدية التي لا أقول قليلة أو محدودة، لكنها لم تستمر وتتواصل بسبب عدم اكتراث المؤسسات الثقافية التي يفترض أن تسهم في استمرارها بالدعم المادي ورعايتها ومتابعة فاعلياتها إعلامياً. فالأستاذة الجامعية الروائية والناقدة الدكتورة ‘‘فريدة المصري’’ بذلت جهداً كبيراً في التأسيس لمختبر نقدي مهم في كلية اللغات بجامعة طرابلس، وأقامت عديد المناشط والورش النقدية من أجل الارتقاء ببرنامج الدراسات العليا بكلية اللغات (التي ضمت بقرار غير مدروس لكلية الآداب أخيراً) من خلال إشراك أساتذة الكلية وطلاب الدراسات العليا بجهدها الفردي، لكنه توقف نظراً لانشغالاتها البحثية والنقدية ومتابعتها لسير دراسة طلابها، ولعدم توفر الإمكانات الداعمة لاستمراره.
وأيضا في بنغازي أقام مجموعة من النقاد باستحداث مختبر نقدي مهم وفاعل بإشراف الناقد الأستاذ ‘‘محمد عبد الحميد المالكي’’ وهو من المختبرات المهمة التي أسهمت بفاعلية في تطوير العملية الإبداعية من خلال احتضانه لعدد من المبدعين الشباب. وفي مصراتة أقام الناقد المهندس ‘‘عبد الحكيم المالكي’’ مختبراً للنقد، استطاع من خلاله أن يجمع عدداً من الفاعليات النقدية، ويقيم العديد من الورش والحلقات الدراسية التي اعتنت بالعمل الإبداعي وتطوره. وتبقى هذه المختبرات على أهميتها جهود فردية يهددها التوقف لعدم تبنيها من قبل المؤسسة المعنية بالعمل الثقافي بالبلاد، ولهذا فإن استمرارها يعود الفضل الكبير فيه لمن قام بها وحرص على إنجازها، وسيحسب نتاج عملها لهم ولمن ساهم في مناشطها. وعليه فإن مجمل الأوراق النقدية التي قدمت للمؤتمر أسهمت بلا شك في تقديم رؤى نقدية جادة حول المدونة الإبداعية التي اعتنت بدراستها ونقدها، وهي جهود فردية بالطبع، وكانت ولله الحمد رصينة ومتميزة.
الليبية: دورة رابعة فقط للنقد الأدبي، هل تؤشر إلى أننا بحاجة إلى اهتمام أكبر بهذا التخصص؟
د. عبد الله مليطان: هذه الدورة هي استمرار طبيعي للملتقى السنوي الذي أصبح باستمرارية إقامته محفلاً نقدياً يترقبه المشتغلين بالنقد في ليبيا ويحرصون على المشاركة فيه، وقد أسهمت الدراسات النقدية التي قدمت خلال دوراته السابقة، والتي طبعت جميعها في كتب من المراجع النقدية المهمة في إثراء المدونة النقدية الليبية. وبالمناسبة هذا الملتقى هو فكرة فردية بادر بإطلاقها الكاتب والناقد ‘‘د. سليمان زيدان’’ ليلتف من حوله النقاد، ويساهموا في استمرارها، لشعورهم بأهميتها والحاجة الماسة إليها، رغم أنها لم تجد الاهتمام المؤسسي الذي يليق بها وبمثلها من الفاعليات الثقافية؛ بسبب اللامبالاة أصلاً بالثقافة في البلاد رغم حاجة البلاد في ظل ظروفها الحالية لوزارة فاعلة للثقافة. وهنا ينبغي أن أشير إلى أنني لست راضٍ على الكيفية التي نظمت بها الدورة الرابعة، لأن البرنامج الذي كنا ننوي القيام به للأسف تم إفشاله بالكامل؛ بسبب عدم اكتراث رئيس جامعة طرابلس بالأمر، وهو ما أحرجني وزملائي بلجنة الاشراف أمام المشاركين، إذ كنا قد أعددنا لمعرض مصاحب للدورة يضم المدونة الإبداعية الليبية بالكامل وهو بذاته حدث -لا أظن أن بالإمكان إنجازه في غير هذه المناسبة-، إلى جانب عدد من الندوات التي كنا قد خططنا لها. والكارثة الكبرى تمثلت في طباعة أعمال الدورة بشكل مخجل للغاية، إذ لم تطبع في كتاب، بل جمعت وبشكل سيء جداً في شكل لا يليق بالجامعة ولا بالدورة الرابعة، رغم أنني طبعت نموذجاً للكتاب وعرضته على رئيس الجامعة ليطبع بذات الكيفية، وبالإمكان المقارنة بين النموذج وما زعم أنه كتاب. وأنا فعلاً أقولها وبكل صراحة، ليس هذا ما تعودت على إنجازه أو المشاركة فيه، والدليل هو أعمال مؤتمرات كلية الآداب يوم أن كنت عميدً لها. والتعلل بالظروف يفنده ما يتم إنفاقه على ما هو دون هذه المناسبات في القيمة والأهمية!
الليبية: هل ترى تنظيم مثل هذه المؤتمرات نقطة انطلاق وتحول من شأنها أن تجعل النقد يأخذ دوره؟ وكيف ومن يمكنه القيام بذلك؟
د. عبد الله مليطان: الندوات والمحاضرات والمؤتمرات وورش العمل في المجال الثقافي هموم كبيرة لا تدركها ولا تعيها العقول الصغيرة؛ لأن ثمارها لا تجنى بين عشية وضحاها. الثقافة مشروع وطني وهمّ دولة ومستقبل أمة، والدولة حالياً لا تفكر إلا في ما هو آني من محافل ومهرجانات واستعراضات موقتة تنتهي بنهاية فاعلياتها. وتسأل عن النقد؟!: النقد يعني التطوّر والازدهار والنماء واستشراف المستقبل وبناء الانسان، وهذا آخر اهتمامات الدولة. العمران سهل جداً ويتحقق بتوفر المال، لكن العمران البشري -وهنا أقصد بناء الإنسان- لا يصنعه المال. بناء الانسان تصنعه الإرادة والعزيمة والادراك والاحساس بقيم المستقبل، لكن للأسف الفاعلين في مؤسسة الدولة ودواليبها ليسوا معنيين إلا بما يجنونه من أرباح ومكاسب شخصية لإنتاج برامجهم الموسمية، وخاصة الرمضانية للأسف.
الليبية: ما يتم إنتاجه من بحوث ودراسات متخصصة في النقد في ليبيا هل يمكن اعتباره مرضٍ ومن شأنه الدفع بهذا المجال نحو آفاق أرحب؟
د. عبد الله مليطان: التطلعات والأحلام والأماني أكبر مما هو متاح. أموال تهدر على أشياء لا معنى لها ولا قيمة، في حين ما يصنع القيمة وينمي القيم لا يقع إلا في آخر قائمة برامج عمل المؤسسة الثقافية. فالشأن الثقافي والعناية ببناء المستقبل مشروع وطني كبير لا يصنعه الأفراد مهما كانت قدراتهم، بل تصنعه الدولة برعاية واعية بالمستقبل، ويبقى الرضى في الحالة الليبية رهين واقعها مع الأسف رغم كل الأحلام والأماني. الثقافة هم ومشروع وطني مناط بالدولة، وما لم تضع الدولة في سلم أولوياتها دعم المشاريع الثقافية وتبنيها لا يمكن أن تقوم نهضة تنموية بالبلاد. الكاتب يفكر ويبدع وينتج وهذه رسالته، ولكن من يوصل هذه الرسالة لتحقق هدفها هي المؤسسة المعنية بالثقافة. ففي ظل مؤسسة رهينة المحاصصة لا يمكن إنجاز أي مشروع ثقافي.
الليبية: المتداول في بعض الوسط الثقافي أن جل ما يكتب باعتباره نقداً ما هو إلا كتابات انطباعية يتصدى لها كتاب غير متخصصين في مجال النقد الأدبي. كيف تقيمون واقع النقد في ليبيا انطلاقاً من هذه المنشورات؟
د. عبد الله مليطان: أنا شخصيا مع كل ما يكتب؛ لأن تعدد الكتابات وتنوعها هو الذي سيفرز المتميز منها، ولست مع الأحكام المسبقة عموماً، ولا مع تقييد المنجز بالتخصص. المنجز هو الذي يفرض نفسه بمعزل عن تخصص من أنجزه، والدليل أن هناك منجزات متميزة لم ينتجها أهل الاختصاص، وتبعاً لذلك فإن المدونة النقدية الليبية بدأت بجهود أفراد أغلبهم لم يتجاوز في مراحل تعليمه (الثانوية)، لكنه استطاع بممارساته النقدية أن يسهم وبشكل فاعل في تطور العملية الإبداعية، والدليل على ذلك، على سبيل المثال، الدكتور ‘‘خليفة التليسي’’ الذي لم يتجاوز تعليمه (الثانوية)، وهو من هو في مضمار الممارسة النقدية؟. وكذا الأستاذ ‘‘أمين مازن’’ الذي لم ينل شهادات عليا لكنه كان شاهداً فاعلاً على تطور المدونة الإبداعية الليبية من خلال ممارساته النقدية التي رافقت تجارب الشعراء والقصاصين والروائيين الليبيين منذ بداياتهم وقد صاروا الآن من كبار المبدعين في ليبيا. حتى وإن اعتبرت انطباعات فإن ممارسات (التليسي ومازن) كان لها دورها الذي لا يمكن تجاوزه في تطور الحركة الأدبية في ليبيا، وهذا بالطبع لا يلغي دور المتخصصين في النقد الذين برزوا خلال السنوات الأخيرة ممن تخرجوا من الجامعات ودرسوا مناهج النقد الحديثة ومدارسه، والآن ولله الحمد يمكننا القول إن جيلاً جديداً من النقاد الشباب من الأكاديميين بدأوا يؤسسون لما يمكن أن يشكل مدرسة نقدية ليبية حديثة وخاصة ممن تخرجوا من الجامعات الغربية أو العربية التي تطورت مناهجها النقدية من خلال تحديث وتطوير برامجها التعليمية ومواكبتها لما استجد من مدارس ومناهج فكرية ونقدية.
الليبية: محدودية النقد في ليبيا هل لأنه لا يوجد نقد بها، أم أن الأمر متعلق في عدم وجود ورش نقدية ومنابر متخصصة تنشر وتطبع الأعمال وتقدمها؟
د. عبد الله مليطان: لولا وجود حركة نقدية في ليبيا ما كانت الحياة الأدبية في ليبيا بهذا الزخم الكبير الذي نشهده اليوم من النتاج الكبير في الشعر والقصة والرواية والمسرح، والأرقام مذهلة من حيث الكم، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة. فالممارسات النقدية الانطباعية والمقالات النقدية العابرة لا يمكن تجاهل دورها في تنامي هذا الكم الكبير من المدونة الإبداعية الليبية حالياً. ربما لم تواكب المنجز الإبداعي بشكل عام، لكنها أسهمت في تطور كثير من التجارب الإبداعية الليبية، والشاهد على ذلك نيل كثير من المبدعين لعدد من الجوائز العربية وصعود عدد آخر منهم للقوائم المتقدمة لبعض الجوائز، ولكن كما أشرت في جواب سابق بأن المؤسسة المعنية بالثقافة لم تتبنى المشاريع النقدية بشكل مباشر وتدعمها من خلال إقامة الورش ودعم وتشجيع المختبرات النقدية وعدم تشجيع الكتاب على نشر إبداعهم وعدم دعم دور النشر وفرض قيود مجحفة جداً على عملها؛ كل هذا يشكل عائقاً كبيراً أمام ازدهار الحركة الأدبية ونموها.
وفي ختام الحوار أشار ‘‘مليطان’’ إلى افتقار البلاد للمشاريع الثقافية والبرامج السنوية والموسمية للأسف حتى أن التوصيات تلخصت في الغالب على مطالبة المشاركين في أي منشط يقام بالبلاد -رغم قلتها- بأن يستمر ويتواصل رغم كل الظروف، وتبقى مجمل التوصيات التي خلصت إليها الآراء والمناقشات التي تمت خلال أيام الملتقى منصبة نحو مزيد من الفعل النقدي الذي من شأنه الارتقاء بالعملية الإبداعية وتطورها في ظل المناهج النقدية الحديثة والانفتاح حول مدارسها الجديدة.