بقلم: مصطفى حمودة
وهو يهبط الطريق ألفى على جانبيه تماثيل عتيقة تصطفّ لجنودٍ وملوكٍ يُعتبرون رموزاً من رموز مدينة (ريفا)، همَّ«تاجٌ» ليسلُك الطريق المتفرّع منه، والذي بدا له عامراً ومن شأنه أن يؤدي به إلى السوق، وجد أناساً يندفعون كالسيل نحو مكان ما يفضي له الطريقُ الذي يعجّ بالتماثيل. الكل كان حينها يسير في اتجاه واحد عكس الاتجاه الذي يسلكه هو، وكانت أيديهم تقبض وروداً حمراء، وللوهلة الأولى استغرب الفتى الأمر. . ألح عليه فضوله الذهاب في طريقهم، ومن علامات وجوههم أحسّ بأنّهم يسيرون في مراسم تشييع لجنازة. أخذ في التقدّم حتى بانت له مدارج عملاقة في تلك الساحة؛ الساحة المقابلة لقصر ملك ريفا. شدَّ انتباهه منظر تمثال لفتاة بدت له وكأنها أميرة، وما جعله يتأكد من كونها كذلك التاج الذي يتوّج رأسها وفستان الزفاف الأبيض الذي لا تملكه سوى سيّدات المماليك الراقيات.
لقد كانت معلقةً في الهواء تمد بيدها اليمنى إلى السماء، أما الأخرى فكانت موجهة نحو الأرض. وقف مندهشاً غير مصدقٍ ما رأته عيناه، ارتسمت الغرابة في تعابير وجهه عندما رأى الناس يحنون القبعات لها. شعر حينها بأن الانحناء واجبٌ عليه، وتعمّق هذا الشعور عندما بدأ الحشد المتجمّهر أمام التمثال يرمقه بنظراتٍ أحسّ بأنها تنطق بالحيرة والاستغراب. وما إن انتهى الحشد من تحيّتها على طريقتهم بأن قاموا بتقبيل يدها القريبة من الأرض، واضعين ما في جعبتهم من ورود جلبوها خصيصاً لها، انصرف الواحد منهم تلوى الآخر والدموع تنهمر من عيونهم وهم يردّدون:»ريفا سامحينا.. (ريفا) أعذرينا». وإذا بالفضول يدفعه لسؤال أقرب الأشخاص إليه -ممن استراحت نفسه له- عمّا يدور من حوله؟.. وعن سرّ هذا التمثال المعلّق ولِم ؟ سميّ على اسم المدينة؟.. ولمّا سأل، لم يجد إجابة تشبع فضوله. بل حتى إن الرجل لم يتفوّه بكلمة واحدة.
بدأ الحشد ينصرف رويداً رويداً حتى إذا تركوه بمفرده، ظل يتأمّل تمثال الفتاة التي يقدّسها أهالي المدينة، لكنه غادر بعد لحظاتٍ محاولاً إيجاد تفسيرٍ لهذا السرّ الذي حيّر عقله. أخذ يتجوّل في أرجاء المدينة باحثاً عمن يُعلمه بأمرها، لكن استفساراته قوبلت باللامبالاة.
جنّ الليل، وأدركه الوقت، فلم يستطع العودة إلى قريته، بل قادته قدماه لا إرادياً إلى الساحة ذاتها حيث يوجد التمثال، وفي طريقه إليها وجد بستان ورد به وردة بيضاء أثارت في نفسه شيئاً ما. فتساءل باندهاش:
– ألم يكن كل الورد أحمر ؟!.. فمن أين أتت الوردة البيضاء؟.
اقتطفها واتجه مباشرة نحو التمثال، ففعل ما كان يفعله أهالي البلدة الذين رآهم في صباح اليوم ذاته. وما إن انحنى مقترباً من يدها ليقبّلها، متحسّساً بيده يدها، حتى سرت في جسدها موجة من الشحنات انبعثت من أعماقه. بدأ يحسّ بشيء يجذبه نحوها، كان توّاقاً للارتماء في حضنها، ليس لشيء سوى لأنه أحسّ برغبةٍ عارمة في البكاء، بدأت تتوسل إليه في صمت:
– أعطنيَ الزهرة.. أعطنيها أرجوك.
لكن نداءها ليس ذا جدوى، لأنه لم ولن يسمعها. أخذ يتأمل يدها جيداً ويتحسّسها مجدّداً.. ويقول:
– وكأن يدها الموجّهة إلى السماء تمدّها لشخصٍ ما ليقوم باصطحابها معه إلى السماء، أما الموجّهة للأرض فتبدو متشنّجة وكأن أحداً ما يقوم بسحبها ليمنعها من المغادرة. أو ربما هي أرادت اللحاق بالشخص، وفي الوقت نفسه تمدّ يدها لتأخذ شيئاً ما معها.
«هكذا كانت ترتسم صورة الملكة في مخيلّة تاجٍ أواخر حياتها»
قالت:
– أجل إنني بحاجة إلى تلك الزهرة أعطنيها بسرعة.
فقال وهو ينظر إلى عينيها مع أنه لم يسمعها:
– لن أستطيع فعل أي شيء لك، اعذريني.
– أرجوك ساعدني.
– لكنني سأعطيك هذه الزهرة وهي أقصى ما أستطيع فعله لك، لأنني لا أعلم ما الذي أنت بحاجة إليه!.
وما إن امتدت يده بالوردة ووضعها في يدها حتى ارتمى بين ذراعيها وبدأت تنهمر دموعه من عينيه، فابتلت المرأة التمثال، وبدأت تهتز بعنف في الهواء، أرعدت السماء، وانبثق من الليل برق ورعد وعواصف.
وفجأة..!
صُعق تاج وارتمى أرضاً من شدّة الصدمة، مخفيا بيديه وجهه ليحمي نفسه من الوميض القوي الذي أبهر عينيه، والذي شعر وكأنه سيفٌ ينغرس في صدره، لم يكن في مقدوره النهوض وتفادي المطر، فقد تصلّبت أطرافه، وشعر بتقلص في جسده وبشيء ما بداخله يكاد يمزّقه وكأن هذا الشيء يرتدي جسده.
يلمح وميضاً يحلق آتيا من السماء؛ أخذ يكبر شيئاً فشيئاً متجهاً صوب التمثال أبهر بصر «تاج»، في الوقت الذي تشكّل على هيئة ملاكٍ بجناحين من نور، لتعود ريفا كما كانت آدمية، فيأخذها الملاك من يديها ليغسلها في نافورة المدينة المجاورة، ثم حملها معه إلى السماء، وهي تبكي مناديةً:
– ولدي«تاج» سأودّعك اليوم وأنا مطمئنة أنك قد أصبحت يافعاً، كن إنساناً صالحاً، وازرع الخير في كل أرجاء الأرض.. وداعاً.. سأراك في العالم الآخر في لقاء قريب يجمعنا ولن تفرقنا الحياة بعده.. وداعاً بنيّ.
(كانت ترددها بألم والدموع تنهمر من عينيها)، وهي والملاك يبتعدان رويداً رويداً حتى صارا نجمة من نجوم السماء، وتاج يبكي لأنه لم يهنأ بأمه التي حرمه القدر من رؤيتها منذ أن فتح القدر عيناه على الدنيا، وحزن لأنها لم تمرّر يدها على رأسه الذي طالما كان يشتاق ليديها الحانيتين، ويشتاق لحنانها وحضن لطالما افتقد دفأه.
ومنذ ذلك اليوم وتاج يسمّي تلك النافورة (بنافورة الطهر)، والتي صار كل من يغسل فيها وجهه يعود إلى ريعان شبابه، وكل من يشرب منها تنقى نفسه من أدرانها للأبد، ويصبح بشراً خالداً نقيّ النفس، صافي السريرة، لا يراه سوى من أبلى جسده إلى ما فيه خير الناس وسعادتهم.