×

نهايةُ السُّلطةِ الرّابعةِ

نهايةُ السُّلطةِ الرّابعةِ

    عبد الرزاق الدهش 

   لم‭ ‬يعُدْ‭ ‬ذلك‭ ‬الرّجلُ‭ ‬يضعُ‭ ‬رأسَهُ‭ ‬بينَ‭ ‬صفحاتِ‭ ‬جريدتِهِ،‭ ‬أو‭ ‬يجلِسُ‭ ‬مشدودًا‭ ‬خلفَ‭ ‬شاشةِ‭ ‬تلفازِهِ‭.‬

ابنتُهُ‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬زالتْ‭ ‬دونَ‭ ‬الثّلاثةِ‭ ‬أعوامٍ‭ ‬تتجوّلُ‭ ‬عبرَ‭ ‬منصّةِ‭ ‬اليوتيوبِ‭ ‬في‭ ‬مشهدٍ‭ ‬يشي‭ ‬بتحوُّلٍ‭ ‬مهمٍّ،‭ ‬وحتّى‭ ‬صادمٍ‭.‬

الإنسانُ‭ ‬هو‭ ‬حيوانٌ‭ ‬فُضوليٌّ،‭ ‬إنّهُ‭ ‬الكائنُ‭ ‬الوحيدُ

الذي‭ ‬يُعاني‭ ‬من‭ ‬شراهةٍ‭ ‬عاليةٍ‭ ‬للمعلوماتِ‭.‬

‭(‬ماذا‭ ‬حدثَ،‭ ‬أو‭ ‬ماذا‭ ‬يحدثُ؟‭) ‬سؤالٌ‭ ‬يفتحُ‭ ‬ملءَ‭ ‬فاهُ‭ ‬داخلَ‭ ‬الرؤوسِ‭.‬

إنَّهُ‭ ‬الجوعُ‭ ‬المعرفيُّ‭ ‬لإنسانٍ‭ ‬اجتماعيٍّ‭ ‬بطبعِهِ‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬ابنُ‭ ‬خلدون‭.‬

السَّبقُ‭ ‬الصَّحفيُّ،‭ ‬التَّشويقُ،‭ ‬الحبكةُ‭ ‬الدّراميّةُ،‭ ‬إنَّها‭ ‬تعني‭ ‬بصورةٍ‭ ‬أخرى‭ ‬سطوةَ‭ ‬الفضولِ‭ ‬المعرفيِّ‭.‬

ولعلَّ‭ ‬مقولةَ‭ ‬إنجيلِ‭ ‬يوحنّا‭: ‬“في‭ ‬البدءِ‭ ‬كانتِ‭ ‬الكلمةُ”،‭ ‬تعني‭ ‬في‭ ‬البدءِ‭ ‬كانَ‭ ‬السؤالُ‭.‬

هلِ‭ ‬الصّحافةُ‭ ‬هي‭ ‬مهنةُ‭ ‬البحثِ‭ ‬عن‭ ‬الحقيقةِ،‭ ‬أم‭ ‬البحثِ‭ ‬عن‭ ‬الجوابِ؟

الصحفيُّ‭ ‬الإنجليزيُّ‭ ‬تيم‭ ‬سيبستيان‭ ‬تطوّعَ‭ ‬بتعريفٍ‭ ‬مختزلٍ‭ ‬للصحافةِ‭ ‬كمجرّدِ‭ ‬أجوبةٍ‭ ‬لأسئلةٍ‭ ‬مُلحَّةٍ‭.‬

هلِ‭ ‬الصحافةُ‭ ‬ما‭ ‬زالتْ‭ ‬قادرةً‭ ‬أن‭ ‬تكونَ‭ ‬فنَّ‭ ‬إدارةِ‭ ‬المعلوماتِ؟

بالتأكيدِ‭ ‬الصّحافةُ‭ ‬ليستْ‭ ‬أن‭ ‬تنشرَ‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬أحدَ‭ ‬يريدُ‭ ‬نشرَهُ،‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬الكاتبِ‭ ‬والروائيِّ‭ ‬جورج‭ ‬أوروبل‭.‬

والسؤالُ‭ ‬الأهمُّ‭: ‬هلْ‭ ‬بِوسعِنا‭ ‬إعادةُ‭ ‬تدويرِ‭ ‬ما‭ ‬قالَهُ‭ ‬إدموند‭ ‬بيرك‭ ‬الكاتبُ‭ ‬والسياسيُّ‭ ‬البريطانيُّ‭ ‬ذاتَ‭ ‬جلسةٍ‭ ‬بمجلسِ‭ ‬العمومِ؟

كانَ‭ ‬بيرك‭ ‬يُشيرُ‭ ‬إلى‭ ‬شرفةِ‭ ‬الصحفيينَ‭ ‬لينحتَ‭ ‬لهم‭ ‬تسميةَ‭ ‬السُّلطةِ‭ ‬الرّابعةِ‭.‬

هناكَ‭ ‬من‭ ‬يتصوَّرُ‭ ‬الصحافةَ‭ ‬كسلطةٍ‭ ‬أولى‭ ‬وليستْ‭ ‬رابعةً،‭ ‬لأنَّ‭ ‬المعرفةَ‭ ‬في‭ ‬حدِّ‭ ‬ذاتِها‭ ‬سلطةٌ،‭ ‬على‭ ‬قولِ‭ ‬الفيلسوفِ‭ ‬الفرنسيِّ‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو‭.‬

المهمُّ‭ ‬اختصرتْ‭ ‬لنا‭ ‬حالةُ‭ ‬رجلِ‭ ‬الجريدةِ‭ ‬وابنتِهِ‭ ‬واقعًا‭  ‬آخرَ،‭ ‬وانقلابًا‭ ‬واسعَ‭ ‬النطاقِ،‭ ‬حتّى‭ ‬ولو‭ ‬مرَّتْ‭ ‬دونَ‭ ‬انتباهٍ‭.‬

وهذا‭ ‬التَّحوُّلُ‭ ‬ليسَ‭ ‬في‭ ‬الصحافةِ‭ ‬بلْ‭ ‬في‭ ‬الإنسانِ‭ ‬الذي‭ ‬تبدَّلَ‭ ‬من‭ ‬قارئٍ،‭ ‬ومستمعٍ،‭ ‬ومشاهدٍ‭ ‬إلى‭ ‬مستهلكٍ‭ ‬محتوى‭.‬

وتقولُ‭ ‬لنا‭ ‬الأرقامُ‭ ‬في‭ ‬زمنِ‭ ‬الرّقمنةِ‭ ‬بأنَّ‭ ‬العالمَ‭ ‬يُنتجُ‭ ‬يوميًّا‭ ‬أكثرَ‭ ‬من‭ ‬مليوني‭ ‬ونصفِ‭ ‬المليونِ‭ ‬تريليون‭ ‬بايتٍ‭ ‬من‭ ‬المعلوماتِ‭.‬

التَّحوُّلُ‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬تنحّي‭ (‬ثنائيةِ‭ ‬القائمِ‭ ‬بالاتصالِ‭ ‬والمتلقّي‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬أصبحَ‭ ‬المتلقّي‭ ‬نفسُهُ‭ ‬قائمًا‭ ‬بالاتصالِ،‭ ‬وتاهتِ‭ ‬الرّسالةُ‭.‬

أحدٌ‭ ‬ما‭ ‬صدق‭ ‬نبوءةُ‭ ‬الكنديِّ‭ ‬ماكلوهان‭: ‬نحنُ‭ ‬لن‭ ‬نستعملَ‭ ‬الوسائلَ‭ ‬لأنَّنا‭ ‬نحنُ‭ ‬من‭ ‬سيكونُ‭ ‬الوسائلَ‭.‬

المأساةُ‭ ‬أنَّنا‭ ‬لسنا‭ ‬في‭ ‬زمنِ‭ ‬ما‭ ‬بعدَ‭ ‬السُّلطةِ‭ ‬الرّابعةِ،‭ ‬وما‭ ‬بعدَ‭ ‬الصحافةِ‭ ‬التقليديّةِ،‭ ‬بلْ‭ ‬على‭ ‬حوافِّ‭ ‬عصرِ‭ ‬ما‭ ‬بعدَ‭ ‬الحقيقةِ‭..‬ويقولُ‭ ‬هربرت‭ ‬سيمون‭: ‬“ثروةُ‭ ‬المعلوماتِ‭ ‬تولِّدُ‭ ‬فقرًا‭ ‬في‭ ‬الانتباهِ”‭.‬

وكأنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الطّوفانَ‭ ‬المعلوماتيَّ‭ ‬يعني‭ ‬أنْ‭ ‬لا‭ ‬نعرفَ‭ ‬أيَّ‭ ‬شيءٍ،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬نحوِ‭ ‬ما‭ ‬قالَهُ‭ ‬مؤسّسُ‮«‬ويكيليكس»جوليان‭ ‬أسانج‭: ‬“لا‭ ‬تحتاجُ‭ ‬الحكوماتُ‭ ‬إلى‭ ‬إخفاءِ‭ ‬المعلوماتِ،‭ ‬كلُّ‭ ‬ما‭ ‬عليها‭ ‬هو‭ ‬إغراقُ‭ ‬الناسِ‭ ‬بمزيدٍ‭ ‬منها”‭.‬

ربّما‭ ‬إنَّها‭ ‬الحتميّةُ‭ ‬الرّقميّةُ،‭ ‬التي‭ ‬تُعيدُ‭ ‬إنتاجَ‭ ‬الأشياءِ‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البشر‭.

Share this content:

إرسال التعليق