مـا لا يجــوز تفسيــره..
«بقلم : د. الصديق ودوارة

حياة البشر ليست دائماً كما نريد لها أن تكون.
ليست هذه مجاملة عابرة، وليست أيضاً أمنية نريدها أو تعويذة نتقي شرها، إنها حقيقة واقعة، ففي الحياة قانون أزلي لا يتغير، ولا يهرم، ولا يسقط بالتقادم، إنه قانون يقول إن الحياة ورطة، مشكلة كبيرة، ومتاهة تحكم على المبتلين بها أن يدوروا كإطارات السيارت من ساعتهم الأولى إلى يومهم الأخير..لهذا تنتشر عبر هذه الدنيا آلاف القصص التي لا تُصدق، لكن الحقيقة البشعة أنها قصص حقيقية، لكن الناس يلبسونها ما يريدون من عباءات وأردية وأقنعة، المهم أن يخدعوا أنفسهم والسلام، فهي أحياناً طقوس، وهي أحياناً أخرى تقاليد، لكنها في كل الأحوال أنماط غير مفهومة من السلوك، لكنها أنماط تملك سلطة التواجد وسيطرة الوجود.
في إندونيسيا على سبيل المثال، هناك الكثير من العادات والتقاليد الغريبة، فمن أحد هذه الطقوس والعادات أن يعيش الأشخاص مع أفراد عائلاتهم الأموات قبل أن يتم دفنهم لعدة أشهر في إحدى غرف المنزل، وتنتشر هذه العادة في منطقة توارجا. لأن هناك شعوراً مسيطراً على هؤلاء بأن الميت ينبغي أن لا يفارق منزله فجأة، بل إن عليه أن يفعل ذلك بالتدريج، كما أن فراغ البيت من صاحبه دون سابق إنذار هو فأل سيء ينبغي تجنبه، ويكون الحل هو أن يتم الاحتفاظ بالجثة لفترة طويلة في منزلها حتى يتم تدريجياً تهيئة الجميع للحظة الفراق الأبدي. ذلك الذي لا لقاء بعده..هناك أيضاً عادة قطع الأصابع، وتلتزم بهذه العادة قبيلة «داني» في إندونيسيا أيضاً. وهي عادة غريبة جداً، حيث تجبر النساء على قطع جزء من أصابعهن عند موت أحد أفراد العائلة، ويهدف ذلك لإشعارهنّ بالألم العاطفي، وذلك عن طريق ربط إصبع المرأة بخيط رفيع حتى يتخدر، ثمّ يقطع جزء من الإصبع، ثمّ يتم كيه بعد ذلك..والواقع أن توريط النساء بالذات في هذا الفعل البشع هو تواصل لنمط سلوك طالما كان يجنح إلى اضطهاد المرأة واعتبارها مخلوقاً آثماً يستحق اللعنة، وتجوز عليه كافة صنوف التأنيب لمجرد أنها جنس مختلف لم يُخلق إلا لخدمة الرجل ورفاهيته.
وبعيداً عن الاضطهاد وعقده الكثيرة، هناك في ألمانيا عادة كسر البلاط في الزفاف وهي طقس من طقوس الزواج حيث يقوم أصدقاء وأهل الزوجين بتحطيم كافة الأطباق، والمراحيض، والمرايات، والبلاط في بيت الزوجين ليلة الزفاف، وينبغي على الزوجين تنظيف المنزل من البقايا لتبقى ذكرى لهم في بداية حياتهما.
ولا أدري أي سعادة ببداية كهذه..؟ لكن المغزى يبدو متصلاً بعقدة قديمة تقول إن الشروع في تأسيس أسرة جديدة هو عمل محفوف بالمخاطر من ناحية كونه خروجاً عن مألوف الأسرة القديمة، فالقديم هنا يفرض سطوته، وكأنه يرفض الانصياع للأمر الواقع، ويبدو فعل التحطيم هنا وكأنه رد فعل عنيف على فعل عنيف بدوره، أليس الخروج من عباءة الأسرة القديمة فعلاً عنيفاً أيضاً؟
على أن هناك تقليداً آخر يستحق التأمل بالفعل، وهو ما يعرف بــ : «شوربة الموز بعظام الموتى» حيث تتبع إحدى القبائل التي تعيش في غابات الأمازون والمعروفة باسم «يانومامو» عادة غريبة، وهي لف جثة أحد الأشخاص في الأوراق لتسمح للحشرات بالانقضاض عليها، ويتم جمع رفات الجثة، وسحقها بعد مرور 45 يوما لتخلط بشوربة الموز، ثمّ يتم تناولها من قبل الجميع، ولا بد من الإشارة إلى أنهم يعتقدون أن هذا الطقس سيدخل صاحب الجثة الجنة.
في هذا الطقس ثمة إحياء لممارسة قديمة تستند إلى فكرة رفض رحيل الموتى، وذلك بالاندماج بهم، واتحاد أجساد الموتى بأجساد الأحياء، ولا توجد طريقة أفضل للوصول إلى هذا الاتحاد الكلي أفضل من أن يأكل أحد الطرفين جثة الآخر، ولما كان الموتى بطبيعة الحال عاجزين عن ذلك، فلماذا لا يبادر الأحياء بالقيام بهذا الطقس؟ وتتجلى هنا عادة السماح للحشرات بالتهام نصيبها من جثة المتوفي أولاً وكأنه نوع من التسليم بأحقية الدود في التهامنا بعد الوفاة، وهكذا يشترك الثلاثة في فعل التوحد والحلول، الموتى والأحياء والدود.
فعلاً، كلما قرأت عن هذه العادات تعود بي الذاكرة إلى بيت المتنبي الشهير العميق المذهل:
وتحسب أنك جرمٌ صغيرٌ *** وفيك انطوى العالم الأكبر.
Share this content:
إرسال التعليق