على عتبة العزلة المثقف والمعيشة
يوماً بعد يوم، يزداد رهق الواقع الاجتماعي والمعيشي واليومي على المبدع بالاضافة إلى ثقل الأعياد والمناسبات، المبدع الذي يبحث عن خلوة واستراحة يلتقط فيها أنفاسه من الجري وراء متطلبات الحياة في واقع شرس وبيئة تفتقد إلى الجانب الخدمي المرن الذي يوفر الكثير من الوقت، كان من الممكن أن يقضيه في عمله الإبداعي سواء كان كاتبا أوقارئا أو مفكراً أو عالماً .
في هذا الاستطلاع سنرى إلى أي مدى استطاع المثقف التنصل منه أو الانغماس فيه وكيف يشكل كل ذلك ضغطاً نفسياً معيناً عليه فيدخل في دوامة القلق والتأجيل أو التوقف..؟
من واقع التجربة إلى أي فريق تنتمي؟ الانغماسي أو المتنصل؟ هذا كان سؤالنا
استطلاع : سميرة البوزيدي
بعض المسافة انتصار بوراوي كاتبة
نحن لا نحيا خارج المجتمع، بل في صلب نسيجه اليومي، نتنفس من هوائه ونمضي على طرقاته، لكن الكاتب، على خلاف سواه، يعيش هذا الانتماء بنوع من الحذر، كمن يضع قدمًا في الداخل وأخرى على عتبة العزلة .
فالواقع الاجتماعي، بكل ما فيه من طقوس وتقاليد وعلاقات، قد يتحمول إلى غابة من الأصوات المتداخلة، يصعب فيها الإصغاء إلى النداء الخافت للكتابة .
وفي بيئة لمجتمعنا الليبي، حيث تتكاثر المناسبات وتتداخل العلاقات حتى تكاد تخنق اللحظة الخاصة، تصبح العزلة خيارًا صعبًا لكنه ضروري، فالكاتب لا يرفض مجتمعه ، لكنه يفاوضه ؛ يطلب هدنة مؤقتة، فسحة من الصمت، ليصغي إلى داخله ويمنح كلماته فرصة الولادة .
وبالنسبة لي، لم أكن يومًا أسيرة لتلك الطقوس الاجتماعية التي تفرض غالبًا تحت لافتة الواجب.
أشارك فقط حين تفرض الضرورة حضورًا إنسانيًا:
مرافقة قريب مريض، أو سندًا لقريب في محنة أو تعزية قلب فقد رفيقاً وحبيباً ،. فأغلب مايربطني بمجتمعي هو الجانب الإنساني فيه أكثر من طقوسه الاعتيادية الخانقة للروح .
أحيانا أشعر بأنى أفاوض مجتمعي ، بأن أضع بعض المسافة معه ، قليلًا من الصمت، فسحةً يتنفس فيها الورق كي أراه من بعيد بوضوح أكثر ، أنتقي الجميل فيه وأبتعد عن قبحه كي ألتقط عمقه بعيدا عن السطح، وكأني اعبر بين ضفتين:
ضفّة الحياة اليومية، وضفّة الحياة العميقة التي لا تُرى .
أفضّل أن أبقى في مساحتي، حيث القراءة تحاورني، والكتابة تفتح لي أبواب العالم، أما الطقوس النسائية، على وجه الخصوص، فلطالم
شعرت بأنها تسرق الوقت ولا تمنح الروح ما يشبه الاكتمال، ولهذا، تركت لها الباب مواربًا، لا أدخله إلا حين تمس الحاجة فقط .
هكذا أعيش الكتابة، لا بمعزل عن العالم، بل في مفاوضة مستمرة معه أختار منها ما يغذي روحي،وأكتب من الهامش، وأبقى مكانًا دافئًا للناس الذين أحب رفقتهم وأتجاوز ما يطفئ جذوة الحرف داخلي .
لا يمكن التنصل
عبدلله زاقوب.. كاتب
إن ضغوط الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية،والواقع السياسي الذي نحيا تمثلاته ، لايمكن لنا أن نتنصل من تلك المجريات والنتائج حتى وإن أحببنا ذلك ، لأن مايترتب عليها يمس حياتنا بتفاصيلها المختلفة المعيشية والمستقبلية ، وبالتالي الجانب الأساس من اهتمامنا هو الجانب الثقافي والإبداعي ….وبذا لانستطيع أن نخبىء رؤوسنا وندعي التنصل أوعدم الاكتراث .
وعن سؤالنا على أن طول المكابدة لابد أن يؤثر على الكاتب سلبا..
أجابنا أن هذا مانعاني تبعاته المرة والمؤثرة ممن
تراكم الحوادث السلبية التي طال أمدها .
تعلمت كيف أشتم
سراج الدين الورفلي.. شاعر وروائي
ربما يكون هذا التساؤل هو من أكثر الأمور تعقيداً منذ أن قرر الإنسان التخلي عن كهفه والنزول من فوق أشجاره وربما جنته وقرر مواجهة العالم لأول مرة دفعة واحدة وبلامقدمات ، إنه صراع حقيقي بعد أن أحرق الإنسان كل غاباته وهدم كل معابده ، هل أنا خلقت لأشاهد فقط أم لأتفاعل أو لأكتب ؟ لا أجد اجابة تجعلني في صف المؤمنين الحقيقيين حتى وأنا أكتب ،لأنه لايمكنني أن أثق بشكل مطلق بما أكتبه دائماً هناك عصافير صغيرة تنقر على نافذتي اسمها الشكوك ، والكتابة نفسها لاتوفر لي أبسط احتياجاتي من الحياة وهي الكتب التي أرغب في قرائتها، إن الصراع اليومي من أجمل العيش هو حقا بائس لكنه ضروري ، وككائنات اجتماعية يتيمة تعلمت ممع الوقت كيف أطفو، ولكن المناسبات الاجتماعية مثل إلقاء قنبلة مسيلة للدموع في غرفتي الصغيرة الكئيبة،فهذا الحضور والاقتحام الفج والمنمق والابتسامات
الصفراء وضجيج الأصوات التي تثرثر دون أن تقول شيئاً ، تمزق الروح إلى أشلاء، وحتى إن اتخذت وسيلة الصمت كمحاكاة فجسدي يصاب بإرهاق وتعرق شديدين، فحدودي مستباحة ووقتي يذهب بلارجعة أقصد حتى أوقاتي مع نفسي قد تكون فارغة لكن على الأقل هذا الفراغ فيه شيء من الأهمية لأنه خاص بي، وكفكرة كسولة يمكنني بسهولة بسبب هذا الألم في مفاصل الروح أن أركل مواعيدي مع الكتابة بلاهوادة الى أجل غير مسمى والتي تقوم الكتابة بدورها بركلي حينها بنفس الطريقة ، فكل مافي يتحول وسط هذه الجموع إلى جثة نتنة مرمية قرب نهر ،فليس لدي القدرة على المجاملات الخبيثة ولا على الابتسامة كلما وجه أحدهم وجهه نحوي ومع ذلك فأنا ليس لدي مشكلة مع السعداء والفرحين في اي مناسبة كانت كني أحمل ضغينة وعداء قديم للمهرجين والمبتذلين لأنهم يسببون لي صداعاً مزمناً وقلقاً وجودياً قد

إنه صراع حقيقي بعد أن أحرق الإنسان كل غاباته
عبدالله زاقوب :
لا نستطيع أن نخبىء رؤوسنا وندعي التنصل أو عدم الاكتراث
يضاهي في كثافته وحركته المفرطة قلق الموت نفسه ، إذ يبدو أني تعلمت الطفو رغماً عني لأراقب الحياة وهي تمر، وتعلمت الغطس لأراقب نفسي،والأهم من كل هذا تعلمت كيف أشتم حين تتعق الأمور أكثر من ذلك .
عبء نفسي ثقيل مفتاح ميلود / شاعر
إن سؤالكم يلامس عصب المعاناة الحقيقية التمي يواجهها المبدع في ظل واقع يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم .فالواقع الاجتماعي والمعيشي واليومسي، وكذلك الأعياد والمناسبات، لا تعدو كونها تفاصيل عابرة للمرء العادي، لكنها للمبدع غالباً ما تتحول إلى قيودٍ تثقل كاهله وتستنزف طاقته.
بالنسبة لي، أعاني بالفعل من ضغوطات الواقع الاجتماعي، ولم أستطع التنصل منها .بل إنني أجدالحياة .فمتطلبات المعيشة، والالتزامات الاجتماعية، والتحديات اليومية، كلها تفرض نفسها بقوة، وتلقي بظلالها على المساحة المخصصة للإبداع .
يتحمول هذا الضغط إلى عمبء نفسي ثقيمل على الكاتب، فيدخل في دوامةٍ من التأجيل والتوقف.
فالذهن المشغول بهموم الواقع لا يستطيع التحليق في آفاق الخيال والإبداع بنفس القدر، يصبح الإبداع ترفا قد يصعب على المرء اقتناصه في ظل هذه الضغوط، فكم من فكرةٍ لامعة تبخرت، وكم من مشروعٍ أدبي تأجل، لأن سطوة الواقع كانت أقوى من إرادة الإنجاز .
من واقع التجربة، لا يسعني إلا أن أقر بانتمائي إلى فريق « المنغمسين»، هذا الانغماس ليس نابعاً من رغبة، بل من واقع لا يمكن تجاهله فالكاتب، قبل أن يكون مبدعاً، هو إنسان يعيش ويتفاعل مع محيطه ، وبالتالي، فإن قضايا مجتمعه وهمومه هي جزء لا يتجزأ من تكوينه، شئنا أم أبينا .
ورغم صعوبة هذا الانغماس، إلا أنه قد يفتح أحياناً آفاقاً جديدة للإبداع، ويمنح الكاتب عمقاً أكبر في تناول قضايا الواقع .فالصراع مع هذه الضغوط قد يُثري التجربة الإنسانية، يحولا الألم إلى مادةٍ خامٍ للإبداع، لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية تحويل هذا الانغماس إلى قوة دافعة لا إلى مثبطة……

زمن الكتابة وتخومها عبد الحفيظ العابد ناقد و روائي وأستاذ جامعي
بداية لا بد أن نفرّق بين الذات الكاتبة والذات الاجتماعية، فإذا كانت الأولى ذات حضور خفي ومتقطَع مرتهن بزمن الكتابة وتخومها؛ فإن الثانية دائمة الظهور، فالكاتب بوصفه إنساناً هو مغموس بالضرورة في اليومي والمعيشي والطقوسي والعاداتي، هذا الانغماس يعمل في اتجاهين متضادين، فمن جهة يقوّض زمن القراءة والكتابة، ومن جهة ثانية يمدّ الكاتب بموضوعات الكتابة التي تتخذ من كل ما ذكر مرجعيات لها حتى لا تكون الكتابة منقطعة عن سياقاتها الثقافية والاجتماعية وبالذات في الكتابة

حنان محفوظ :
هناك بعض الاعتبارات
الإجتماعية التي تجبرك على مسايرة المحيطين بك
الروائية، وحتى الشعر صار منغمساً في اليومي وأصبحنا أمام قصيدة يومية تزامن صعودها مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وانفتاح الشعر على اليومي والفنون التصويرية والسينمائية من حيث البنية، يضاف إلى كلّ ما ذكر الشغل الوظيفي نظراًعدم وجود كتاب متفرغين للكتابة .
بالنسبة لي لحم أنقطع يوما عن ممارسة العمل اليومي والوظيفي والعاداتي، ورغم أن تلك الممارسات تسلبني مثل غيري كثيراً من الوقت، وتجعل بعض المشاريع مؤجلة تنتظر مواسمها، لكني أيضاً مدين لتلك الممارسات و الصداقات من خارج الأوساط الثقافية بكثير من الأفكار والحكايات الملهمة، مدين لها بذاكرتي التي تشكل الطقوس والعادات والحوارات اليومية التي هي جزء مهمّاً منها .
بين بين
حنان محفوظ / شاعرة
في أحيان كثيرة أتقمص شخصية المصلح الاجتماعي وأنا أنصح بالعدول عن الإسراف والتبذير وعن ترك مالا نقدر على توفيره.
ولكن هناك بعض الاعتبارات الاجتماعية التي
تجبرك على مسايرة المحيطين بك ..
على سبيل المثال الأضحية التي هي سنة وليست فرضا كنت في السابق قد تركتها لعدم القدرة المادية لها ولكني مارست هذه الشعيرة التي تتجلى في التضحية أوقاتاً أخرى ..
فنحن هنا بين المتنصل والمنغمس وكل هذا حسب ظروفنا المادية أولاً والاجتماعية آخراً .
بعد الستين عادل بشير الصاري استاذ جامعي
أصنف نفسي الآن وأنا على مشارف السبعين ضمن فريق المتنصل المبتعد عن الصخب والأضواء، وهذا حدث لي بعد بلوغي الستين، وقبلها كنت أشارك في المناسبات وأتفاعل بقدر محدود مع متطلبات الواقع الاجتماعي .وعن سؤالنا ماالذي اختلف هل هو زيادة الوعي أم بدافع الملل من المعتاد ؟ أجابنا أن الذي اختلف بالطبع هو زيادة الوعي ولكن السبب المباشر هو الملل .
Share this content:
إرسال التعليق