×

صرخة من الظلام

صرخة من الظلام

   في‭ ‬أحد‭ ‬أيام‭ ‬الخريف،‭ ‬وبينما‭ ‬أوراق‭ ‬الأشجار‭ ‬تتساقط‭ ‬كدموعٍ‭ ‬على‭ ‬فراق‭ ‬الأحبة،‭ ‬دخلتْ‭ ‬عليّ‭ ‬امرأةٌ‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬عمرها،يبدو‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬شحوب‭ ‬وتعب‭ ‬وحزن‭  ‬عميق‭ ‬كانت‭ ‬خطواتها‭ ‬ثقيلة‭ ‬كأنها‭ ‬تحمل‭ ‬جبالاً‭ ‬من‭ ‬الهموم،‭ ‬وعيناها‭ ‬تائهتين‭ ‬كأنهما‭ ‬تبحثان‭ ‬عن‭ ‬بصيص‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬ليلٍ‭ ‬طويل‭.‬

» أشراف: منى أبوعزة

جلستْ‭ ‬أمامي،‭ ‬ورفضتْ‭ ‬أن‭ ‬تتحدث‭ ‬إلا‭ ‬وجهاً‭ ‬لوجه،‭ ‬كأنها‭ ‬تخشى‭ ‬أن‭ ‬تنكسر‭ ‬كلماتها‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬قلبي‭. ‬كانت‭ ‬السيدة‭ ‬ب‭.‬ع،‭ ‬في‭ ‬الثاني‭ ‬والأربعين‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬أم‭ ‬لثلاثة‭ ‬أطفال،‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التعليم،‭ ‬يتيمة‭ ‬الأبوين،‭ ‬تزوجت‭ ‬منذ‭ ‬سبعة‭ ‬عشر‭ ‬عاماً،‭ ‬وانتقلت‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬زوجها‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬منطقتها‭.‬

بدأتْ‭ ‬حديثها‭ ‬بكلماتٍ‭ ‬موجعة‭ ‬‮: «‬أنا‭ ‬منتهية‭ ‬تماماً‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬لديكِ‭ ‬الحل،‭ ‬أو‭ ‬أموت‭ ‬وأنتهي‮»‬‭.‬

حكتْ‭ ‬لي‭ ‬قصتها‭ ‬بصوتٍ‭ ‬متقطع،‭ ‬كأنها‭ ‬تستعيد‭ ‬شريطاً‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬المؤلمة‭. ‬قالتْ‭: ‬‮«‬تزوجتُ‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬غريب‭ ‬عن‭ ‬منطقتنا،‭ ‬ولم‭ ‬أحظَ‭ ‬بفرصة‭ ‬للتعرف‭ ‬عليه‭ ‬قبل‭ ‬الزواج،‭ ‬بسبب‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭. ‬بدأتْ‭ ‬مأساتي‭ ‬من‭ ‬الأسبوع‭ ‬الأول،‭ ‬رجلٌ‭ ‬يقضي‭ ‬معظم‭ ‬وقته‭ ‬خارج‭ ‬المنزل،‭ ‬ووالدته‭ ‬امرأةٌ‭ ‬صعبة‭ ‬المِراس‭ ‬وغريبة‭ ‬الأطوار‭. ‬لم‭ ‬يتقبلني‭ ‬قلبهما،‭ ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬فيهما‭ ‬سنداً‭ ‬أو‭ ‬عوناً‭.‬

سألتهُ‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬غيابه‭ ‬المستمر،‭ ‬ولاحظتُ‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬حالةٍ‭ ‬غريبة،‭ ‬فواجهتهُ‭ ‬بسؤالٍ‭ ‬مباشر‭: ‬هل‭ ‬تتعاطى‭ ‬شيئاً؟‭ ‬أجابني‭ ‬بكل‭ ‬ثقة‭: ‬أنا‭ ‬مدمن‭ ‬خمر،‭ ‬ولا‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬الإقلاع‭ ‬عنه‭.‬

شعرتُ‭ ‬حينها‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لها،‭ ‬مع‭ ‬شخص‭ ‬مريض‭. ‬بكيتُ‭ ‬بحرقة،‭ ‬وتدمرتُ،‭ ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬البوح‭ ‬لأحد،‭ ‬بسبب‭ ‬تهديده‭ ‬لي‭ ‬بفضح‭ ‬أمري‭. ‬رضيتُ‭ ‬بالوضع‭ ‬واستمررتُ،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اكتشفتُ‭ ‬حملي‭ ‬الأول‭ ‬بتوأم‭.‬

زادتْ‭ ‬معاناتي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬زوجي‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬تبول‭ ‬لا‭ ‬إرادي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يشرب‭ ‬الخمر،‭ ‬فأصبحتُ‭ ‬في‭ ‬معاناة‭ ‬أخرى‭. ‬استمرتْ‭ ‬حياتي‭ ‬مع‭ ‬المشاكل‭ ‬المتراكمة‭ ‬من‭ ‬والدته،‭ ‬وأصبحتُ‭ ‬أماً‭ ‬لثلاثة‭ ‬أطفال،‭ ‬أكبرهم‭ ‬يبلغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬الآن‭ ‬سبعة‭ ‬عشر‭ ‬عاماً،‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬ضغوطات‭ ‬نفسية‭ ‬بسبب‭ ‬والدهم‭ ‬المخمور‭ ‬دائماً

حاولتُ‭ ‬جاهدةً‭ ‬أن‭ ‬أساعدهُ‭ ‬على‭ ‬التعافي،‭ ‬لكنهُ‭ ‬رفض‭ ‬بسبب‭ ‬التربية‭ ‬العنيفة‭ ‬التي‭ ‬ربتهُ‭ ‬والدتهُ‭ ‬عليها‭. ‬عشتُ‭ ‬تعيسة‭ ‬وحزينة‭ ‬ووحيدة،‭ ‬والآن‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أستطع‭ ‬التحمل‭ ‬أكثر،‭ ‬أصبحتُ‭ ‬مريضة‭ ‬بالسكر‭ ‬والغدة،‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬الاستمرار‭. ‬ماذا‭ ‬أفعل؟‭ ‬أنقذيني‮»‬.

جذْرُ‭ ‬المشكلة‭ ‬..

كان‭ ‬في‭ ‬قبولها‭ ‬بالتحمل‭ ‬من‭ ‬البداية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬أهلها‭ ‬وتنهي‭ ‬المعاناة‭ ‬من‭ ‬بدايتها‭.‬

أما‭ ‬الحل‭ ‬الآن،‭

‬فهو‭ ‬أن‭ ‬تتركه،‭ ‬وتكمل‭ ‬حياتها‭ ‬مع‭ ‬أبنائها‭ ‬في‭ ‬بيتها‭ ‬الذي‭ ‬أعطتهم‭ ‬الدولة‭ ‬إياه،‭ ‬وتحاول‭ ‬أن‭ ‬تبني‭ ‬مستقبلاً‭ ‬أفضل‭ ‬لهم‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المرض‭ ‬الذي‭ ‬جثم‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬الأسرة‭.‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬قصة‭ ‬السيدة‭ ‬ب‭.‬ع،‭ ‬قصةٌ‭ ‬حزينة‭ ‬ومؤلمة،‭ ‬ولكنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬قصةٌ‭ ‬ملهمة،‭ ‬تعلمنا‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬محطة‭ ‬الألم،‭ ‬وأن‭ ‬الأمل‭ ‬يبقى‭ ‬موجوداً‭ ‬مهما‭ ‬اشتدت‭ ‬الظروف‭.‬

Share this content:

إرسال التعليق